يمر التليفزيون المصري الآن بأخطر أزماته منذ إنشائه عام 1960، أزمة بدأت فنية وإدارية، وأصبحت خطيرة عندما تحولت إلي أزمة هوية، تثير أسئلة بلا إجابات حول مستقبل هذا الجهاز وانتمائه الحقيقي بعد أن أصبح كهلا في الحادية والخمسين. قبل ثورة يناير 2011، كانت الأمور سهلة ومحسومة، خاصة بالنسبة لقطاع الأخبار: جهاز مملوك رسميا للدولة يلتزم بكل ما يأتيه من تعليمات "عليا"، ليس فقط فيما يتعلق بالأخبار والمعلومات، ولكن أيضا الصور ومقاطع الفيديو.. فقد كانت هناك صور "رسمية" للحاكم لابد من التقيد بها وعدم نشر غيرها، وكانت هناك زوايا معينة للكاميرا يجب تصويره بها ويستحيل تغييرها، وكان هناك ترتيب ثابت ومعروف للأخبار في النشرات من المحظور التلاعب به. وكان من الطبيعي، في ظل هذه الظروف والمعطيات، أن يتحول العاملون في قطاع الأخبار - وغيره من القطاعات - إلي ماكينات مهمتها الوحيدة تنفيذ التعليمات، ولا تملك أي مساحات للمبادرة والإبداع، بل لا تريد أن تبادر أو تبدع، ويتبرع بعضها بالمزايدة علي "الوصفات الإخبارية الرسمية" ليكون ملكيا أكثر من الملك، أملا في الصعود الإداري والمالي، ونيل الرضا السامي من "الأسياد". وبدأت الأزمة - للغرابة الشديدة - فور نجاح ثورة 25 يناير، عندما رفعت القيود، وتحققت الحرية، بدلا من أن تؤدي هذه التطورات الإيجابية إلي تفوق الأداء، وتحسن الخدمة المقدمة للمشاهدين، وانطلاقها إلي آفاق أرحب وأكثر عمقا وتفتحا.. إذ يبدو أنه لابد عند البعض من وجود "سيد" يأمر ويعطي التوجيهات، ليتمكنوا من العمل والاستمرار، ومن دون هذا "السيد"، تحدث حالة من "التوهان"، وتقع كوارث من نوع التغطية الإعلامية المضطربة لأحداث ماسبيرو الأخيرة في التليفزيون المصري. البوصلة والدليل وهذه المشكلة ليست قاصرة علي التليفزيون، حيث تعاني منها أيضا بعض الصحف القومية التي تم حرمانها فجأة من تعليمات ما يسمي "مكتب الصحافة" بالرئاسة وسائر المؤسسات السيادية، ففقدت "البوصلة" والدليل، وتاهت هي الأخري وبدأت تقع في أخطاء مهنية فادحة ليس هنا مجال ذكرها. وبمرور الوقت، ومن باب التعويض، بدأ الإعلاميون المصريون التائهون يصنعون أسيادهم الجدد بأنفسهم، فمنهم من اختار المجلس العسكري، ومنهم من وجد ضالته في مجلس الوزراء، رغم أن كلا المجلسين نفي إصداره توجيهات للتليفزيون بخصوص خط التغطية الإعلامية لأحداث ماسبيرو أو غيرها، ورغم أن اللواء إسماعيل عتمان، مدير إدارة الشئون المعنوية، أكد أنه ليس للمجلس العسكري أي سلطة علي الإعلام، موضحا أنه يجب أن تصل الحقيقة كما هي للشعب المصري، وأنه ليس هناك أي مصلحة للمجلس العسكري في إخفاء الحقيقة عن الشعب. وكان العديد من القوي السياسية والمراقبين والكتاب والمفكرين انتقدوا تغطية التليفزيون المصري لتلك الأحداث، واتهموه صراحة بالتحريض ضد المتظاهرين الأقباط وحث المواطنين المسلمين علي النزول لحماية الجيش من الأقباط بادعاء حملهم لأسلحة نارية ومهاجمتهم الجيش ووقوع حالات قتلي وإصابات بين صفوف القوات المسلحة. وتقدمت منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان ببلاغ للنائب العام تتهم فيه وزير الإعلام أسامة هيكل، بصفته المسئول عن التليفزيون المصري، بالتحريض علي قتل الأقباط. وطالب اجتماع لمرشحي الرئاسة مع عدد من القوي السياسية بإقالة وزير الإعلام فورا، ووقف الخدمة الإخبارية للتليفزيون المصري لقيامها بتحريض الشعب ضد بعضه البعض. رأس الأفعي وأطلق العديد من النشطاء حملات لمقاطعة التليفزيون المصري علي موقعي التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر، إحداها تحت عنوان "حملة لمقاطعة التليفزيون المصري المنافق"، وصل عدد مرتاديها من الشباب إلي أكثر من 50 ألفا.. وانتشرت علي موقع فيسبوك عدد من الصور تبرر أسباب الدعوة للمقاطعة، تتضمن إحداها صورة لمبني ماسبيرو في أعلاه رأس ثعبان، ومكتوب أسفل الصورة "رأس الأفعي"، وصورة أخري باللغة الإنجليزية لإنسان وحيوان مكتوب أعلاها "تأثير مشاهدة التليفزيون المصري" قبل المشاهدة وبعدها.. كما انتشرت علي الموقع عبارات تؤكد عدم مهنية التليفزيون في معالجة الأحداث، وتسببه في زيادة حدة الاحتقان الطائفي بين الأقباط والمسلمين، وتم تداول عبارة "قناة النيل للأخبار تنفي وقوع ضحايا في صفوف الجيش وتفسر ما قيل مسبقا بأنه خطأ ناتج عن توتر المذيعة"، حيث كان وزير الإعلام قد برر بث هذه الادعاءات ب"انفعال المذيعة وحماسها"! ولم يمنع هذا التبرير وزير الإعلام من الاعتراف بالخطأ، قائلا - في مداخلة هاتفية مع أحد البرامج الفضائية - إن التليفزيون المصري بالحق قد ارتكب بعض الأخطاء المهنية ولكنه لم يقصد إثارة وتحفيز المواطنين المسلمين ضد الأقباط. وقال إنه إذا تأكد أن الإعلام كان له دور في هذه الأزمة، فإن الإقالة ستكون هي مصير المتسبب في ذلك، إلا أنه رفض اتهام التليفزيون المصري بالتحريض علي الأحداث التي شهدتها منطقة ماسبيرو، واصفا تلك الاتهامات بأنها باطلة ويقصد بها الإساءة إلي التليفزيون المصري. وفي إطار الاعتراف بالخطأ، أعلن هيكل - في تصريح صحفي - تشكيل لجنة إعلامية محايدة من الخبراء من خارج اتحاد الإذاعة والتليفزيون لتقييم التغطية الإعلامية لتلك الأحداث، وذلك خلال الفترة من السابعة مساء الأحد 9 أكتوبر الحالي، وحتي الساعة الثانية من صباح اليوم التالي، مشيرا إلي أن هذه اللجنة ستقوم باستعراض كل الشرائط سواء من قبل قناة النيل للأخبار أو القناة الأولي.. وفي تضارب للتصريحات، أكد أنه إذا ثبت من تقييم اللجنة الإعلامية المحايدة أن هناك أخطاء وقعت خلال التغطية فإنه لن يتردد في تقديم الاعتذار للجميع، مبديا دهشته من حملات التشكيك ضد التليفزيون المصري، رغم أنه سبق له الاعتراف بوقوع أخطاء بالفعل! فساد وانفعال والدليل علي وقوع أخطاء، أن الوزير استدعي رئيس قطاع الأخبار، الذي أكد انه شكل لجنة سرية أيضا للتحقيق مع المذيعة "المنفعلة" رشا مجدي وبحث الموضوع، ورفض إعلان أسماء أعضاء اللجنة.. أما رشا مجدي نفسها، فقالت إن المذيع هو آخر مرحلة بالعملية الإعلامية، موضحة أنها قرأت فقط ما وصل إليها من أخبار دون أن تنحاز لطرف ضد آخر، وأن ما وصلها من أخبار أشار لوقوع إصابات وقتلي بالجيش المصري علي أيدي أقباط. والأهم أنها نفت اتهامات وزير الإعلام لها بأن ما حدث من خطأ يرجع لانفعالها أثناء قراءتها الأخبار، مؤكدة أن الذي كتب تلك الصياغة الخبرية مسئول كبير بالتليفزيون، وأن دورها اقتصر علي قراءتها.. واعترفت المذيعة بوجود فساد داخل مبني ماسبيرو، وبأن الإعلام لم يتطهر من اتباعه الطرق القديمة في تغطية الأحداث، وبأنها كإعلامية تتمني لو أصبح التليفزيون مؤسسة إعلامية حيادية تنقل الرأي والرأي الآخر. وإذا كانت رشا مجدي قد افتقدت شجاعة الاعتذار أو الاستقالة، وأعلنت فقط استعدادها للاستقالة "إذا كان وجودها يشكل عائقا في سبيل تطور وتقدم التليفزيون وتطهيره من الفساد الذي تفشي فيه"، فقد أعلن محمود يوسف، أحد مذيعي قطاع الأخبار، تبرؤه من تغطية التليفزيون المصري لأحداث ماسبيرو.. وقال، علي حسابه الشخصي في موقع تويتر للمدونات القصيرة: "أنا العبد الفقير إلي الله محمود يوسف وأعمل مذيعا بالتليفزيون المصري، أعلن تبرئي مما يذيعه التليفزيون المصري".. وجاء ذلك اعتراضا علي ما اعتبره تحيزا واضحا ضد المتظاهرين الأقباط، واستقبال مداخلات هاتفية تحث المواطنين علي إدانة المتظاهرين والنزول إلي الشارع لحماية الجيش من "الأعيرة النارية" التي يطلقها المحتجون.