تلك هي ملامح الأعمال الفائزة وغير الفائزة في الدورة 25 من بينالي الإسكندرية لدول حوض البحر المتوسط، الذي افتتح يوم 18 ديسمبر 2009 بمبني مكتبة البلدية بحي محرم بك، وشارك فيه 33 فنانًا من 17 دولة، وتضمن كتالوج المعرض الذي أصدره قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة المنظم للبينالي صفحتين لأعمال الفنانة الجزائرية زينب سديرة، بالرغم من استبعادها من العرض بقرار من الفنان محسن شعلان رئيس القطاع عقب أحداث مباراة مونديال كرة القدم بالخرطوم في أكتوبر الماضي، تجاوبًا مع الحملة الإعلامية والشعبية الغاضبة ضد الجزائر الشقيق حكومة وشعبًا، وهو ما نفي علمه به وزير الثقافة الفنان فاروق حسني وأكد رفضه له في تصريحات صحفية (!!)، وبقي حادث استبعاد تلك الفنانة شاهدًا محزنًا علي مصير مشروع ثقافي ولد عملاقًا عام 1955 عندما افتتحه الزعيم جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة، تعبيرًا عن توجه ثقافي وسياسي مبكر للتقارب بين شعوب هذه المنطقة المحملة بإرث حضاري عريق، ليشكلوا دائرة ترتبط بدائرة الشعوب العربية، وبدائرة الشعوب المتطلعة للتحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فتتكون من هذه الدوائر مجتمعة جبهة للشعوب الناهضة أمام الهيمنة الاستعمارية الغربية، وما يواكبها من هيمنة ثقافية.. فانظر كيف انتهي الحال- بعد 55 عامًا- إلي اقتتال المصالح وفرقة العرب واستبعاد الأشقاء وهيمنة ثقافة العولمة!! المعرض والندوة الدولية المصاحبة له حملا عنوان: «وماذا بعد؟..» وهو ما فسره قوميسير عام البينالي/الفنان محمد أبو النجا/ في مقدمته لمطبوعات المعرض قائلاً: «إلي أي حد يمكن أن تكون التحديات الجديدة قد لعبت دورًا في تغيير شخصية الإنسان المنتمي جغرافيًا لحوض البحر المتوسط؟.. هل مازالت تلك العناصر التاريخية والمكانية المشتركة تلعب هذا الدور في تشكيل قيم الإنسان وطموحاته؟ هل تحول انتماء الإنسان بالفعل إلي أشكال أكثر تعقيدًا من تلك المشتركات بينه وبين الآخرين؟.. أم أصبحت القيم الحضارية الجديدة التي تشركه مع مناطق جغرافية أخري أكثر نوعية وأكثر معنوية من الاشتراك الجغرافي والعرقي التقليدي، تشكل شخصيته ومستقبله واهتماماته بل وإمكانياته ذاتها؟». بهذا الوضوح والوعي يدرك القوميسير ما ترمي إليه العولمة، بل ويصل إلي استخلاص حاسم وهو يطبق ما طرحه علي مجال الفنون التشكيلية بقوله: «ماذا بعد تلك الأطروحات التي شهدتها التظاهرات الفنية المعاصرة وسطوة الميديا علي الإبداع الفني في مختلف ملتقيات وبيناليات العالم التي عكست أحيانًا ثقافة الالتباس وتجاهلت في معظمها التقنيات التقليدية التي حملت إبداعات ورؤي الفنانين لسنوات طويلة؟».. ثم يجيب في ختام هذا «المانيفستو» المهم ملخصًا هدف المعرض: «من هنا يحقق بينالي الإسكندرية- من خلال اختياراته- توازنًا بين التقنيات المتعددة، منحازًا لعمق الأفكار وزاوية التناول والتعبير». كلام رائع ولا يمكن لمنصف أن يختلف معه.. فماذا حدث؟.. إن ما رأيناه عكس ما بشرنا به تمامًا.. فلا تعبير عن أي عوامل مشتركة بين شعوب المنطقة.. جغرافيًا أو حضاريًا أو قيميًا أو جماليًا، ولا توازن بين التقنيات المتعددة ولا انحياز لعمق الأفكار، بل بالعكس: جري تعميق نزعات الكراهية التاريخية بين دول الشمال والجنوب تحت شعار الحملات الصليبية، وجري تعميق النظرة العرقية الساخرة المتعالية علي الشعوب الإفريقية التي عانت طويلاً من الاستعمار، وجري تسييد النوازع الغرائزية من عنف وجنس، وجري تهميش الأعمال التي تدين أعمال التعذيب في سجون أبوغريب وجوانتانامو للفنان روموللو ريو، وأعمال زميله الإسباني فاليرتيانو روبيز التي تعبر عن المصير المأساوي لمحاولات هجرة الشباب عبر البحر بحثًا عن حياة كريمة، فيلقون الموت غرقًا في «المتوسط»، والأعمال التي تقوم بتعرية زيف وسائل الإعلام وفضح من يتحكمون في مصائر الشعوب بلمسة عبثية قد تؤدي لإطلاق صاروخ مدمر، للفنان الإيطالي أليساندرو اسكارابيللو.. وجري اختلال التوازن بين التقنيات المتعددة لصالح وسائط الميديا الرقمية.. فماذا بقي- إذن- مما بشرنا به القوميسير في المانيفستو؟ قد يجيب: وماذا بيدي لأفعله؟.. تلك قناعات أصحاب الأعمال ولا أملي عليهم ما يفعلون، ولا أستطيع أن أمنع أعمالهم من العرض، إلا إذا جرت أحداث مثل «موقعة الجزائر» في السودان.. وقد يبرئ ساحته قائلاً: لقد كانت نيتنا حسنة علي أية حال، وما قدم هو الإجابة السلبية علي ما دعونا إليه وذلك في حد ذاته مؤشر جدير بالانتباه!.. حسنًا.. وماذا عن إقراره بأن البينالي قد حقق ما أراد من خلال اختياراته؟.. وهذه ليست كلمة إنشائية كتبت للاستهلاك المحلي، بل أكدها القوميسير بقوة في المؤتمر الصحفي الذي عقد قبل حفل الافتتاح ردًا علي سؤالي حول طريقة اختيار العارضين، حيث ذكر أنه قام باختيارهم بالاسم من بلدانهم، مستعينًا بمعلومات مستفيضة عنهم بواسطة معاونين من نقاد ومؤسسات وموسوعات وخبرات شخصية، وتم إقرار اختياراته من اللجنة العليا للبينالي برئاسة رئيس قطاع الفنون التشكيلية، وأشفع ذلك بتأكيده أنه راض كل الرضا عن النتيجة، معلنًا أن هذه أفضل دورة للبينالي بالنسبة للدورات السابقة، حيث كان قد بلغ درجة مؤسفة من التدهور، وشاركه الفنان محسن شعلان في كل ما قاله، وردًا علي الأسئلة العديدة التي أبدت دهشتها لذهاب أغلب الجوائز إلي فنانين مصريين وعرب، دافعت المنصة (من المنظمين والمحكمين الأجانب) عن استحقاق الفائزين للجوائز بعيدًا عن أية اعتبارات أو توجهات إقليمية، حتي بالنسبة للجناح الإسباني الذي جاء متفوقًا بامتياز فنًا وفكرًا.. تم ترضيته بشهادة شرفية! إنني لا أميل إلي نظرية المؤامرة، التي ترددت أصداؤها بقوة حول المعرض، متجهة إلي تأكيد تدخل أطراف خارجية وداخلية لتكريس نموذج عولمي للفن، ليكون البينالي حصان طروادة لهذا التسلل من أجل استقطاب الفنانين العرب خاصة الشباب، بإغراءات الجوائز السخية والشهرة الدولية نحو اعتناق هذا التوجه بعيدًا عن النماذج القومية المستهلكة وما تشمله من قصص عن الانتماء والهوية وحق الجماهير في الاستمتاع بالفن، وقد ذكر في هذا السياق اسم رجل أجنبي مقيم بمصر، يرأس مؤسسة لعرض الأعمال الفنية من نوعية ما عرض بالبينالي، حيث يقوم باستقطاب الفنانين الشباب منذ سنوات بعيدة بمغريات شتي لممارستها وعرضها بقاعته، حتي بات صاحب نفوذ معنوي واضح أهله للتحدث في المحافل العربية والدولية ممثلاً للفن المصري المعاصر!.. لكن.. حتي لو استبعدنا منطق المؤامرة هذا، فبماذا نفسر ما يحدث وبأموال الدولة هذه المرة؟.. ومن الذي دفع نفقات سفر القوميسير إلي دول العالم المختلفة لاختيار العارضين؟.. (وأعلم أن الدولة لم تتحملها).. وكيف للفنان الشاب وائل شوقي- الفائز بالجائزة الكبري وقيمتها 100 ألف جنيه عن عمله المسمي الحملات الصليبية- أن يتحمل تكاليف إخراج فيلم سينمائي أو ديجيتال أو فيديو- أيا كان- في كينيا، بما يتطلبه ذلك من ميزانية إنتاجية باهظة لمعدات وأجور واستئجار لمئات الرجال والحمير؟.. ناهيك عن أننا لم نفهم ما يريد قوله من خلال تصوير فريقين من راكبي الحمير يتقابلان أمام قلعة قديمة ثم يفترقان في صمت كل نحو الطريق الذي جاء منه الفريق الآخر!.. وعلي أي أساس تم اختيار الفنان الإيطالي بيستوليتو كضيف شرف، وهو لم يفعل غير تثبيت مرايا ضخمة فوق جدران القاعة ثم انهال عليها محطمًا إياها بمنتهي العنف وسط فزع الجمهور ساعة الافتتاح؟.. وماذا يعني ذلك في المنظومة الفكرية الجديدة للنهوض بالبينالي؟.. وعلي أي أساس- كذلك- تم اختيار الفنانة المغربية صفاء الرواس التي لم تفعل غير تثبيت عدد هائل من الدبابيس فوق حائط، راسمة بها قوسين متقابلين، واصفة للعمل عنوان «القمر بداخلي»! ولا تخطئ العين إيحاءه الجنسي؟.. والأمثلة لا حصر لها في هذا السياق وإن اختلفت التقنيات، لكن أكثرها بالميديا الرقمية.. وبماذا نفسر كلام القوميسير بعد هذا كله إذا لم يكن كلامًا معسولاً للاستهلاك المحلي؟ أما إذا كان التفسير هو أن هذا هو معني الهوية، فإن ملايين المصريين والعرب يعدون بهذا المفهوم من ساقطي الهوية، وربما نطلق عليهم (بدون) مثلما يسمي البعض في دولة نفطية، وإذا كان الأمر هو محض استجابة للحداثة العالمية واستخدام لغة العصر، فمنذ متي كانت مبولة «دو شامب» عام 1915 تعبيرًا عن عصر الاستنارة الأوروبية التي أضاءت العالم وأخذت بيده إلي التقدم رغم أهوال الحروب وهيمنة رأس المال؟.. أما إذا كان قطار التاريخ المسمي «الحداثة» بهذا المفهوم لابد له أن يمضي في طريقه الحتمي، فعلي الغالبية العظمي من الفنانين والنقاد العرب غير المؤمنين بهذا أن يستقيلوا من الفن والنقد وأن يقبعوا في بيوتهم ليجتروا تبعات تخلفهم، حتي لا يدهسهم ذلك الذي تأتي به الإجابة علي سؤال (ماذا بعد؟) تحت عجلاته!