بعد اختيار الصديق الناقد نادر عدلي، عضو مجلس إدارة الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، رئيسا للدورة السابعة والعشرين لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، تباينت ردود أفعال زملائه بين تهنئته بالمنصب، ومواساته لأنه تولي رئاسة دورة للمهرجان لن يكتب لها أن تري النور، وهناك من قال له: "مبروك وحظ سيء" في آن واحد.. فقد توقع الجميع أن يتم إلغاء هذه الدورة كما ألغيت دورة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي هذا العام، تأسيسا علي أن المسئولين الذين لم يجدوا أي غضاضة في إلغاء مهرجان بحجم "القاهرة" يحمل الصفة الدولية، سيكون من السهل عليهم إلغاء مهرجان أصغر ولا يحمل الصفة الدولية مثل "الإسكندرية"، وقائمة المبررات جاهزة وطويلة، وعلي رأسها الأحوال الاقتصادية، والأوضاع الأمنية. وكنت من الذين رجحوا عدم إقامة مهرجان الإسكندرية هذا العام، للأسباب السابقة وأسباب أخري أهمها اتساع رقعة المد المتأسلم في الإسكندرية، واتجاه العديد من الجهات الثقافية والفنية - الحكومية والخاصة - لإلغاء أنشطتها في الثغر خوفا من المتأسلمين.. لكن نادر عدلي، ومعه باقي أعضاء مجلس إدارة جمعية كتاب ونقاد السينما، وباقي مسئولي مهرجان الإسكندرية، أصروا بشكل يدعو للإعجاب علي إقامة الدورة بأي طريقة وتحت أي ظروف، في "نضال" فني حقيقي يحسب لهم ويستحقون التهنئة عليه. وكنت قريبا من الجهود والاتصالات المكثفة التي أجراها عدلي مع وزارتي الثقافة والإعلام، ومع محافظة الإسكندرية، لإقامة الدورة، رغم الظروف العامة الصعبة، ورغم التغيير المستمر في المسئولين بالجهات الثلاث، وعدم وجود وزير للإعلام أصلا لفترة طويلة، وقلة الاعتمادات المالية، وسيادة شعور عام بأن الوقت غير مناسب لإقامة مهرجان سينمائي، وأن الإلغاء هو المصير الحتمي لتظاهرة الإسكندرية، التي لا يمكن أن تحقق ما عجزت العاصمة عن تحقيقه. الخوف والخائفون وكم كنت سعيدا عندما تكللت الجهود بالنجاح، وأقيمت الدورة من 5 إلي 9 أكتوبر الحالي، وكانت - بغض النظر عن التفاصيل الفنية - بمثابة الفاكهة في خضم الفوضي السياسية والاجتماعية السائدة حاليا، في انتصار كبير لقيم الفن والجمال والحرية علي الخوف والخائفين، سواء من فرق الظلام والتخلف والتأسلم، أو من الظروف الاقتصادية والأوضاع الأمنية.. فقد اتضح أنها كلها "فزاعات" و"خيالات مآتة" كان الغرض من إطلاقها تعطيل مظاهر الحياة، ووضع بذور "إمارة" يحكمها الملالي أو من يشبهونهم علي أنقاض كل ما هو جميل في حياتنا. وكان نادر عدلي قد بدأ "مسيرة التحدي" بمعارضة قرار وزارة الثقافة بإلغاء دورة العام الحالي من مهرجان القاهرة السينمائي، قائلا إنه لم يتصور أن الوزير سيقدم علي هذه الخطوة، وأضاف أنه من الممكن أن نتفهم أسباب إلغاء مهرجان الطفل والمسرح التجريبي، فالأول كان في مارس الماضي، أي في أعقاب الثورة مباشرة، وهو ما جعل إقامته أمرا مستحيلا بسبب الظروف الاستثنائية التي مرت بها مصر.. أما المهرجان التجريبي فيمكن تفسير إلغائه برغبة الوزير في عودة المسرح التقليدي إلي القمة علي حساب المسرح التجريبي، بالإضافة إلي التكلفة الباهظة التي كانت تستنزف خزانة صندوق التنمية الثقافية بسبب استضافة أكثر من 40 فرقة مسرحية أجنبية وهو ما يحتاج لإعادة نظر.. أما أن نلغي مهرجان السينما فهو أمر يثير الدهشة - علي حد قوله. وعن مهرجان الإسكندرية وما كان يواجهه وقتها من شبح التأجيل أسوة بباقي المهرجانات، خاصة بعد أن أعلن الدكتور عماد أبو غازي، وزير الثقافة، رفع يد الوزارة عن الدعم المادي للمهرجان، قال عدلي: "سأحارب من أجل إقامة المهرجان في موعده لأنه لا يمكن أن يكون هناك حراك سياسي ويتم عزل المثقف (خارج الملعب) رغم أن المفترض أن يتم استثماره من أجل خلق حوار بناء، خصوصا في ظل الظروف التي نعيشها، وهذا لن يتحقق إلا عن طريق المهرجانات".. كما قلل من شبح الانفلات الأمني، مؤكدا أن الحياة ستكون قد عادت إلي طبيعتها وقت إقامة المهرجان. خطة تقشف وإزاء رفض وزارة الثقافة دعم المهرجان، وضع رئيسه "خطة تقشف" قائلا: "سأعتمد علي تمويل محافظة الإسكندرية وهيئة السياحة، وسأقوم بتخفيض ميزانية المهرجان إلي 40% مقارنة بالعام الماضي، لأننا وضعنا خطة لتخفيض النفقات، وهي الاقتصار علي أفلام المسابقة الرسمية فقط، وبعد أن كان يشارك 100 فيلم في المهرجان سيشارك 11 فيلما فقط هي أفلام المسابقة.. أيضا حفلا الافتتاح والختام سيتحولان إلي حفلي استقبال (علي الضيق) للضيوف، كما سيتم تخفيض عدد أيام المهرجان ليصبح 5 أيام فقط وهو ما يعني تخفيض تكاليف الإقامة في الفنادق".. ويعني ذلك أن كل شيء ممكن بالإصرار والترشيد والتنظيم، مع الاعتراف بالطبع بأن تمويل وتجهيز وتأمين مهرجان القاهرة أصعب وأكثر تعقيدا من نظيره السكندري. ومع كل التقدير لكل الظروف، أري أن نجاح "مغامرة" إقامة مهرجان الإسكندرية، فضح خطيئة إلغاء مهرجان القاهرة السينمائي وجميع مهرجانات العاصمة التي تمثل أهم التظاهرات الثقافية والفنية المصرية سنويا.. فقد ألغي مهرجان القاهرة الدولي لسينما الأطفال بعد 20 عاما من التواصل وكان مقررا له مارس الماضي، ثم تم تأجيل المهرجان القومي للسينما المصرية في دورته ال17، وكان مقررا إقامتها في إبريل الماضي، ومهرجان المسرح التجريبي بعد 22 دورة متواصلة، وكان مقررا له أكتوبر الحالي، وأخيرا قرار إلغاء مهرجان القاهرة السينمائي بعد 34 عاما دون توقف، وكان مقررا إقامته في نوفمبر المقبل. وكان الفنان عزت أبو عوف، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي، أكد أنه من الصعب إقامة المهرجان هذا العام لأن البلد تمر بمرحلة انتقالية صعبة والظروف غير مناسبة ليس فقط لمهرجان القاهرة ولكن لأي مهرجان فني الآن، كما أن الظروف المادية غير مؤهلة.. بالإضافة لذلك فإنه من الصعب دعوة 560 ضيفاً من الأجانب من جميع دول العالم في ظل الظروف الأمنية الحالية لأن أي مشكلة ستحدث قد تتسبب في أزمة كبيرة - علي حد قوله. المشكلة.. والحل وحول تأثير الإلغاء علي الصفة الدولية للمهرجان، قال مديره الفني يوسف شريف رزق الله إن العالم كله يشهد ما يحدث يومياً في القاهرة خلال الشهور القليلة الماضية.. وأوضح أن إلغاء المهرجان هذه الدورة لا يؤثر علي وضعنا دوليا للدرجة التي يتخيلها البعض، بل إن كل الدول المشاركة في المهرجان ستراعي الأوضاع التي تمر بها مصر.. وتساءل: "كيف نستطيع أن نحضر لمهرجانات، وخصوصا دولية تعتمد علي استضافة نجوم أجانب، في ظل تعديلات دستورية وانتخابات مجلسي شعب وشوري وأوضاع غير مستقرة، بالإضافة إلي قلة الموارد المالية؟". وفي رأيي المتواضع، كل الأسباب المعلنة للإلغاء كان من الممكن التغلب عليها.. فها هي فزاعة الأمن قد سقطت في الإسكندرية، وفي ميدان التحرير الذي استقبل منذ أيام قليلة النجم العالمي الكبير شون بين من دون أي مشكلات، بل أن الرجل رفع علم مصر وسار وسط الناس بكل أمان.. والظروف الاقتصادية كان من الممكن تجاوزها بالترشيد واختصار عدد المدعوين والأفلام.. والانتخابات كان من الممكن تجنب مواعيدها. لقد أضعنا فرصة ذهبية لإقامة دورة تاريخية لا تنسي من مهرجان القاهرة السينمائي يحضرها العديد من النجوم العالميين المتلهفين لزيارة مصر والتجول في ميدان التحرير مثل شون بين، وتقام خلالها الاحتفاليات الضخمة في الميدان وغيره، وتحقق مصر بفضلها رواجا سياحيا وثقافيا غير مسبوق.. وأتمني أن نتمكن العام المقبل من تحقيق بعض مما فاتنا.