المشهد الثقافي في العالم العربي كله - وليس فقط في الفنون التشكيلية - متنازع ما بين المحلية والعالمية .. في الشعر وفي الرواية وكذلك في الموسيقي والمسرح، هناك توق دائم إلي الإبحار في الفضاء الخارجي .. لأن البحار المحلية باتت - علي ما يبدو - ضيقة علي الطموحات والتطلعات لاسيما في ظل العولمة مترامية الأطراف، وطموح كل مثقف هو .. " العالمية شهرة وتوزيعا " والتشكيل العربي جزء من هذا المناخ لاسيما أن معظم الفنانين درسوا في الغرب الإيطالي / الفرنسي / البريطاني .. الخ أو هم علي الأقل تنفسوا هواءه حتي صار جزءا منهم .. وإن لم يتمكنوا هم من أن يكونوا جزءا منه ..!! وقد ظلم الفنان العربي إرثه الفني العظيم حين لم ير منه سوي نسبه المحلي فقط دون البعد الإنساني فيه، وهنا نشأ صراع ملفق بين مفهومي المحلية والعالمية كما لو أنهما يقيمان في منطقتين منفصلتين، فقد سعي الفنان العربي الي دفع تهمة التغريب عن إبداعه الفني عن طريق لجوئه الي مفردات جمالية تراثية، وهو لجوء غالبا ما اتخذ طابعا تزينيا، لأن الفنون هي في البداية والنهاية عمل إنساني، وأي عمل فني يجب أن يكون عملا إنسانيا أولا ثم مصريا أو سوريا أو مغربيا بعد ذلك ..!! وقد حسم إدوارد سعيد القضية في كتابه الشهير (الاستشراق) عندما أكد أنه لا توجد ثقافة نقية مائة في المائة، فكل الثقافات قد أخذت من بعضها .. والثقافة الحية القوية هي التي تؤثر وتتأثر، أما الثقافات التي تنغلق علي نفسها ولا تتفاعل مع متغيرات العصر فإنها تندثر وتموت مثل ثقافة الهنود الحمر بأمريكا وثقافة شعب (البروجيز) في أستراليا ..!! فقد كان الفن في أزمنة العزلة والتقوقع للجماعات وللشعوب يحمل خصوصية الجماعة أو الشعب .. ولكن مع الاحتكاك الحضاري وصيرورة التاريخ انتهت هذه الخصوصية ليكون " الفن لغة لونية وبصرية عالمية .." انعكست في فعل (التأثير) و (التأثر) وتلاقح الأفكار والإبداع في العمارة والفنون - سمعية وبصرية - وهكذا ذابت الحدود أمام حركة الفن وآليات تطوره في إطار الحوار الحضاري النديج . وفي هذا الإطار نجد العديد من الأمثلة علي التلاقح الفني والثقافي، فنجد بيكاسو الذي استلهم الفن الياباني والفن الإفريقي في أعماله خصوصا فيما يسمي بالمرحلة الزرقاء، كما نجد جوجان الذي ترك العالم المتقدم / أوروبا وركب البحر الي جزيرة (هاييتي) الذي تصور أنها الفردوس المفقود ومنحت تجربته الفنية زخما وعمقا غير مسبوق، كما لم يعترض أحد عندما رسم ديللاكروا نساء الجزائر، ولم يجد أي أحد أدني نوع من الغضاضة في كل هذا .. بل تعاملوا معها علي أنها روافد جديدة للحضارة الأوروبية تجعلها أكثر تنوعا وأكثر خصوبة . لذلك لا يوجد تقابل فعلي بين مفهومي المحلية والعالمية لأن المحلية .. مفهوم (جغرافي) بينما العالمية مفهوم (ثقافي)، وكثيرا ما كان يتردد أن .." الإغراق في المحلية هو الطريق الي العالمية ".. وهي مقولة ليست صحيحة علي إطلاقها، أو أنها صحيحة بشروط .. أهمها أن يكون هذا الموروث المحلي ذا قيمة فنية وإنسانية يساعد علي جعل الحياة أكثر جمالا واحتمالا، ولعل أدب نجيب محفوظ يعد نموذجا دالا علي ذلك. ويجاور مفهوم المحلية التفات متواتر لمفهوم (الأصالة) التي غالبا ما يشار إليها في بعض أدبيات وأفكار التشكيل العربي بوصفها من خصائص (المكان) ومن ثم تفهم (المعاصرة) بوصفها من خصائص (الزمان) والعصر، وفي هذا السياق لابد من توضيح الفارق النوعي بين مفهومين بينهما الكثير من اللبس وهما مفهومي العالمية والعولمة، (العالمية) مفهوم متنامي يسمح بالتمايز الثقافي، حيث يسمح لكل ثقافة تمتلك ضمن بناءها ومكوناتها خصائص نوعية مفيدة تمثل قيمة مضافة أن تنتقل وتنتشر وتصبح جزءا من مكونات الثقافة الإنسانية العالمية، فنجد موسيقي الراي الإفريقية والسامبا البرازيلية والصلصا الكوبية .. كل هذه الأنواع المتمايزة من فنون الموسيقي قد أصبحت عالمية رغم أنها قادمة من العالم الثالث . أما (العولمة) فهي مفهوم لا يسمح بأي نوع من التنوع الثقافي ويعمل علي فرض نوع واحد ومحدد من الثقافة الغربية / الأمريكية - الأنجلو سكسونية - القائمة علي مبادئ وخصائص الرأسمالية المتوحشة التي لا ترحم، والقائمة علي تعظيم الربحية وقوانين السوق وآليات العرض والطلب حيث كل شيء معروض للبيع لمن يدفع أكثر .. كل شيء حتي التاريخ والجغرافيا والإنسان ذاته ..!! كما أن مفهوم العالمية بنموذجه الغربي علي صلة وثيقة بالطبيعة المهيمنة للحضارة الغربية لذلك فإن مفهوم العالمية لا يجد مواقع مصداقية خارج العواصمالغربية باريس / لندن / روما / نيويورك .. حيث يتم الإجازة الفنية لعالمية الفنان، ولعل هذا ما يفسر هجرة كثير من الفنانين العرب - وغير العرب - الي هذه العواصم لمزاولة حياتهم وإنتاجهم هناك، وليس ببعيد عن ذلك أيضا تنامي جماعات فناني الشتات في العالم الغربي حيث تتراءي لفناني هذه الجماعات فراديس الحرية والرعاية لإنتاجهم ..!! ومشكلتنا الثقافية في منطقتنا العربية أننا نحول كل شيء الي طقس تكراري حتي في شعائرنا الدينية في هذه الحالة حين يكرر فنان عربي عملا لفنان من الخارج معتمدا علي ألا أحدا يطلع علي الأعمال العالمية فإنه هنا يمحو نفسه مقابل الآخر، لكن في المقابل هناك فنانون عرب نجحوا في استلهام تراثهم وإنجازاته أيضا .. فتعاملوا بندية مع الآخر، وتمكنوا من الفوز بالعديد من الجوائز العالمية، مثلما حصل الفنانون المصريون علي الجائزة الكبري لبينالي فينسيا في منتصف التسعينات . علي ضوء هذا فإن الفكرة الأساسية هي أن يظل للفنان العربي مشروعه الخاص كإنسان قبل أن يكون فنانا مدركا كيف يعيش بجسده ومشاعره في سياقات وعلاقات محددة في زمان ومكان معين، ومن حسن الحظ أن أسلوب التشكيل الذي تعلمه الفنانون العرب من الغرب قد تحول عند بعضهم الي ملكة فنية فتمكنوا من الفصل بين الوعاء ومحتواه، فأتقنوا الوعاء وملأوه بمحتوي من تراثهم .