لما كان الفن والأدب استجابة لنزوع الإنسانية في استيعاب الوجود استيعابا جماليا لا يقنع بتناول سطحي لقشور الحياة بل يطمع في بلوغ جوهرها وفض بكارة أسرارها، فقد جاء الشعر بوصفه فنا جماليا ليحاول بلورة رؤاه في الحياة ليميط اللثام عن وجهها مجليا ملامحه ونافذا إلي أعماقها جلاء لكنهها، فالشعر يكثف الوجود تكثيفا جماليا يتجاوز الاستمتاع بزهور الحياة في ظاهريتها المبتذلة وانما يعتصر مكنون أوراقها ليقدمه رحيقا عذبا مقطرا، مثلما أعلن «هنري مور» بأنه لم يعد الجمال هدفا لأعمال في النحت، فالعمل الفني عندي ينبغي ان تتوفر له حيويته الخاصة، انه قد يتضمن طاقة مكبوتة، حياة خاصة مكثفة بغض النظر عن الموضوع الذي يقدمه، فإن الحياة في الفن تصبح تحديا للعدمية، ولليأس الناجم عن الزخرف المثالي أو الثقافي. عودة الروح مع فورة الأحداث التي تشهدها الأمة العربية بقيام ثوراتها الشعبية الهادمة قلاع الاستبداد والمشيدة أبنية الكرامة المطاولة سماوات الحرية يجيء الشعر المعهود عنه أنه ديوان العرب الجمالي ليواكب هذه الحركة الثورية، ومن طليعة الشعراء الذين اجتاحوا ميدان القصيد ليطلقوا قصائدهم الثائرة شاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي والذي جاءت عودته القوية إلي الشعر ليروي ظمأ أشواق جماهير الشعر التواقة دوما للاستمتاع بإبداعه الشعري المتوهج والتهام كلمات قصائده الشهية، ويرصد حجازي في إحدي قصائده الثورية المعنونة ب «عودة الروح» والتي تتناص مع عنوان رواية توفيق الحكيم عودة الروح، والتي ترصد أحوال المجتمع المصري إبان ثورة 1919، فيرصد «حجازي» في قصيدته «عودة الروح» مظاهر عودة الروح الثورية إلي هذا الوطن الذي رزح أهله طويلا تحت نير الاستبداد، فتسجل الذات الشاعرة عودة الروح في مظاهرها المتكاثرة المجسدة فاعلية العمل الثوري، مثلما تخبرنا في مقطع القصيدة الأول: إنها عودة الروح!/ عودة مصر إلي نفسها/ عودة الجزء للكل/ والفعل للقول/ والملكوت لأصحابه الفقراء/ بعد أن دنسه اللصوص/ يعود وقد طهرته الدماء، فيبدو لنا ان ثمة تناصا مع تعاليم السيد المسيح ووعوده بأن يرث الفقراء الملكوت، كما بشرهم في إنجيل متي «طوبي للمساكين لأن لهم الملكوت»، كذلك ترصد اللوحة الشعرية أفعالا متقابلة بما يدعم درامية القصيد، فالملكوت الذي دنسه اللصوص يطهره الثوار بدماء شهدائهم، وتطل في خلفية هذا القول أطروحات مثيولوجية وعقائدية ذهبت إلي دفع الدم ثمنا للتطهير كما ورد في التوراة عن «خروف الفصح» وما دار في انساق ذلك من القول بالافتداء بالدم ثمنا للخلاص، وتستمر حركة الكاميرا الشعرية في رصد المتقابلات: الحجارة لينة تحت أقدامكم، والسماء/ السماء التي خاصمتكم طويلا، ولم تستجب للنداء/ تعود إلي الأرض/ والأرض تفتح أبوابها للسماء، فيبدو التقابل بين الحجارة الموسومة بالصلابة فإذا بها تصير لينة تحت أقدام الثوار امارة علي فاعلية العمل الثوري، ثم يتسع مدي الكاميرا الشعرية فتتراوح حركتها بين السماء والأرض راصدة المصالحة بينهما، كما تمتد فاعلية العمل الثوري لتغيير الأبعاد وتبدلها: والمكان الذي تقفون عليه يصير زمانا/ ويحمل أسماءكم أبد الدهر، يا أيها الشهداء، فالمكان يصير بفضل الفعل الإنساني زمانا أي يكتسب خلودا سرمديا علي امتداد التاريخ بفضل الشهداء، وتستمر الذات الشاعرة في رصدها للتواشج الزمكاني الدينامي، فتجلي رصد الزمان للفاعلية الثورية في أطر المكان في المقطع الثاني للقصيدة: إن سبعين قرنا تطل عليكم/ وأنتم بقلب المدينة/ بل أنتم قلبها النابض الآن/ أنتم مدينتكم/ هذه القاهرة/ لم تكن غير سجن/ وها هي ساحاتها وشوارعها العامرة/ جنة حرة، ومدي وفضاء، فيستحضر هذا المقطع حركة التاريخ الوطني التي ترصد قلب المدينة، فيلوح لنا لفظ المدينة الذي طالما أطل علينا من نافذة «حجازي» الشعرية، فيصبح الثوار هم قلب المدينة النابض، بل هم المدينة نفسها، فكأن المكان/ المدينة إنما يستعيد كينونته من خلال الإنسان/ الثوار الذين حرروا مدينتهم بعد أن أمست سجنا، ثم يدور مقطع القصيدة الثالث في فلك سالفه، فيتناول انبهار الأجداد وكأنهم قد بعثوا من جديد ببطولات الأحفاد: وكأن الحياة تعود إلي المومياء/ فينهض أجدادكم واقفين/ يطلون من شرفات متاحفهم/ وكأن الزمان يعود بهم فيعيشونه من جديد. الواقعية السحرية كما يصنفه الناقد الكبير صلاح فضل فإن شعر حجازي في هذه القصيدة وكأغلب شعره يأتي في منطقة التعبيرية، بل لنا ان نقول أيضا إن شعره يضفر تعبيريته بجدائل من الواقعية السحرية، فبعد ان يسجل لنا الانتفاضة الثورية يصور لنا ابتعاث الأجداد/ عودة الروح للتاريخ وهم يصحبون أحفادهم الثوار/ الشهداء إلي عتبات الخلود: إن أجدادكم في المتاحف يصحون من نومهم/ بعد ليل طويل/ يشقون أكفانهم/ ويزيحون عنهم سقوف توابيتهم.. ويرون جموعكم تملأ الأرض هادرة/ متدفقة كالسيول/ ويلقونكم حين يسقط منكم شهيد/ يقودونه في الطريق الذي طالما عبروا الموت فيه/ إلي عتبات الخلود. الموسيقي كذلك فإن للموسيقي دورا محوريا تضطلع به في صياغة حجازي الشعرية، وأقرب مظاهر الموسيقي المماثلة للعيان التقفية، فيعتمد حجازي كما هو غالب في شعره قافية متنوعة في حروف رويها مع استئثار حرف منها بمساحة أكبر من رقعة القوافي، فيغلب حرف الهمزة علي اثني عشر سطرا شعريا بما يمثل 23% من مساحة القصيد، والهمزة صوت انفجاري شديد يتصف بطول مداه الزمني، يأتي مسبوقا بحرف المد «الألف» كإسناد له ليجسد لنا هذا المقطع الزائد في الطول المنتهي بساكنين يسبقهما حرف متحرك «/ْْ ْ» يجسد حالة ثورية متمادية في مظاهرها المتكاثرة تأتي ردا علي حالة استبداد وانتهاك متجاوزة في بشاعتها، كذلك يكرر الشاعر أكثر من جملة لأكثر من مرة علي امتداد قصيدته «إن سبعين قرنا تطل عليكم»، وكذلك يكرر نداءه التفخيمي والمستنهض لجموع الثوار «أيها الفتية، الفتيات/ الشباب، الشيوخ/ الرجال، النساء» إنما تمثل هذه الجمل المكرورة مرتكزات تضبط مسافات الإيقاع الموسيقي للقصيدة، وتمثل منابع تخرج منها فروع الدلالات النصية، كما يكرر الشاعر غير كلمة في مختتم سطر شعري ثم ما يلبث ان يستهل بها السطر التالي تسليطا لأضواء الانتباه علي الأهمية الدلالية لتلك الكلمة، كما يتبدي ذلك في: الحجارة لينة.. والسماء/ والسماء التي خاصمتكم.. / تعود إلي الأرض/ والأرض تفتح أبوابها للسماء، فأمست كلمتا «السماء» ثم «الأرض» جسرين يصلان الجمل الشعرية ويجسدان تعانق السماء والأرض احتفاء بالعمل الثوري المعجز، كما ينوع حجازي من ضمائر القصيد التي تتراوح بين الغائب والذي يستخدمه في السرد والمخاطب الذي يستخدمه في استنهاض الحماسة الثورية وكذلك ضمير المتكلم الجمعي في إشارة إلي توحد الجموع الشعبية وتلاحمها الثوري، كما ينوع الشاعر في أفعاله بين المضارع الوصفي التقريري والماضي الإثباتي بما يخدم شعرية القصيد.