مع بزوع شمس الثورات العربية، يهشد الخطاب الأدبي إبداعاً راصداً ونقداً محللاً، حركة موازية تواكب حركة المد الثوري، فيما أطلق عليه «أدب الثورة» أو «أدب مقاومة الاستبداد». حيث يرصد الأدب جماليات الحرية وأعراض الاحتقان والغليان المجتمعي المفضية إلي اندلاع الثورات، فكثيراً ما كان الأدب محرضاً علي الثورات وملهماً لها، مثلما رأينا الشعوب تتزود بأدبيات داعية إلي الانتفاض نشدانا لنيل الحرية لتكون وقوداً يدير محرك الوعي الثوري كأبيات الشابي الشهيرة: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر ولابد لليل ان ينجلي ولابد للقيد ان ينكسر وغني عن البيان ان ثمة عري وثيقة ووشائج جدلية تربط بين الفن عموماً والأدب خصوصاً، وبين الواقع الذي يعد الإبداع الفني مجلياً له، فالفن ومنه الأدب انما لا ينقل لنا الواقع كما هو بما يمثل تطابقاً معه، بل يعيد صياغة هذا الواقع المادي الملموس ويشكله في قالب جمالي بما يتهيأ له من وسائل فنية فاعلة تعتمد أدوات إبداعية خلاقة، ومن فنون الأدب المعني برصد الواقع وإعادة خلقه خلقاً جمالياً يأتي فن الشعر الذي هو رسم بريشة الكلمات يقوم علي دعائم الموسيقي بما لها من إيقاعات تنغيمية، كما ينهض أيضاً علي فاعلية التخيل الذي يضطلع بمهمة التشكيل الفني للصور المبثوثة عبر الخطاب الشعري. ومن أروع ما أبدع شعراً تغنياً بثورة يناير المجيدة رائعة الشاعر الكبير «محمد إبراهيم أبي سنة» ، «كأنما أتوا من الخيال»، التي تقع في ثمانية وستين سطراً شعرياً تجيء في سبعة مقاطع يستهلها الشاعر بمقطع يؤكد فيه علي مفارقة هذه البطولة الثورية لما كان يشكل حدود التصور الواقعي إلا أنه يعود في مقطع القصيدة الثاني ليؤكد ان هذا إنما هو عودة الروح لنساء ورجال مصر الذين قامت قيامتهم. (1) كأنما أتوا من الخيال/ من شرفة التاريخ/ والمآذن الطوال/ من غابة الأحلام/ في الصبا/ ولوعة المحال (2) كأنما أتوا لينفخوا / في الصور/ كي تقوم للقيامة/ النساء والرجال. سردية القصيدة ودراميتها وترتدي القصيدة ثوباً سردياً يجلي مشاهد الاحتشاد الثوري يأتذر بمنطق الدوافع المؤججة لاندلاع الثورة، فتنقل لنا عدسة الشاعر مشهداً كرنفالياً محتشد العناصر، كما لا يخلو نسيج القصيد من درامية مبثوثة بين عناصر متقابلة به مما يضفي حيوية ناجمة عن تفاعل جدلي بين المتقابلات، فترصد لنا القصيدة عمل المنطق الثوري المتمثل في عملية هدم تصحبها عملية بناء، فالثوار يحررون مصر/ من قيودها الثقاف/ من صبرها الطويل/ من قرون ذلها/ الذي يفوق الاحتمال/ يحطمون في صباح هذا/ اليوم من يناير/ المجيد قلعة الضلال/ ويحرقون في الميدان/ وسط رقصة الأعلام والهتاف والغناء/ سلاسل الأغلال.. والجموع في اندفاعها/ تطاول الجبال. فعملية استعادة الحرية وبناء الكرامة لا تتأتي إلا بعد كسر أغلال الذل وتحطيم قلعة الضلال، كما تتجلي الدرامية في بيان أن قلعة الضلال التي حطمها ثوار يناير والتي مهما بلغت من ارتفاع شيده الطغيان فقد هزمها وتجاوزها ارتفاعاً اندفاع جموع الثوار الذي يطاول الجبال، وذلك بما أتوا من شامخ الأقوال/ والأفعال، وهنا يلح الشاعر علي عنصرين دراميين متلازمين وهما القول المصحوب بالفعل الذي يصل بقامة الإنسان حد الشموخ فيجعله مطاولاً الجبال، كذلك يتبع تحطيم قلعة الضلال إحراق سلاسل الأغلال، لتشرق مصر في المدي ويحرقون في اليمدان/ وسط رقصة الأعلام/ والهتاف والغناء/ سلاسل الأغلال/ وتشرقين في المدي/ يامصر يا رطيبة الظلال/ يا حلوة الخصال. وبين عمليتي الإزالة متمثلة في إحراق سلاسل الأغلال والإحلال المتمثل في إشراقة مصر يتبدي لنا عنصر مشترك فاعل في كلتيهما، وهو عنصر النار، فالثوار يحرقون سلاسل الأغلال، وعملية الحرق تستلزم بالطبع ناراً والتي تؤول بدورها في مخزون الوعي إلي كونها مادة تستخدم في التطهير والتنقية، وكأن التطهير من الأغلال يتبعه إشراقة مصر في المدي إلا أن هذه الإشراقة المتوهجة تصحبها ظلال رطيبة، وثمة مجلي لدرامية القصيدة تتمثل في الجمع بين قطبي الزمن متمثلاً في التاريخ الذي يعاد بعثه بما ينفخه الثوار في الصور من دفعة ثورية وبين المستقبل الذي يولد ويولد معه الوطن كأنما أتوا ليولد الوطن/ ويولد المستقبل الذي/ يزدان بالآمال، كما تمتد الدرامية إلي الفاعلية العقلية والإدراكية التي يعجز طرفاها «الجواب والسؤال» عن إدراك كنه الثوار. ضمائر القصيد: فواعله الدرامية وحوامل خطابه تضطلع الضمائر في النص الأدبي بدور الفواعل التي يبث عبرها شحناتها الدلالية والتي تعمل علي ترسيخ دراميته، فترتكز قصيدة أبي سنة علي ضمائر متنوعة بين ضمير الغائب الجمعي الذي يسرد حركة الثوار والحائز علي النصيب الأوفر بين دونه من الضمائر، وكذلك هناك ضمير الغائب المفرد الذي يسرد لانتشاء القاهرة وفرحتها التي تشمل كل مصر بكل أجيالها في موكب انتصارها، كذلك يستعمل الشاعر تقنية الالتفات بالتعبير بأكثر من ضمير عن نفس المضمر، فيعبر عن مصر مرة بضمير الغائب ثم المخاطب ثم يعود ليعبر عنها بضمير الغائب. معمار القصيدة وبناؤها الموسيقي يحتفي أبو سنة في هذه القصيدة، وكذلك في مجمل شعره بموسيقاه، ليشيد بناء شعرياً دعائمه إيقاع موسيقي منضبط وأساسه نغمات عذبة صداحة تأتي فيه القافية شريكا فعالاً ووسيطاً محورياً في عملية الصناعة الشعرية وإنتاج الدلالة النصية، حيث تقف بتعبير «جان كوهين» كتمثال صوتي خارجي يقوم شاخصاً ليتبوأ موقعه الذي يسهم من خلاله في تحديد مراكز الثقل الدلالي التي تتمحور حولها وحدات المعني بالنص، ويعتمد أبو سنة حرف اللام روياً يختم به خمسة وعشرين سطراً شعرياً بما يمثل 37% من رقعة القصيد، واللام صوت مجهور يمتاز بوضوحه السمعي، مما يؤكد حرص أبي سنة علي ان يكون إيقاع النهاية في شعره واضحاً جلياً، كما يسبق اللام حرف الروي بحرف الألف كإسناد له، والألف حرف مد حلقي يعكس معني التمادي وهو ما يشي إلي تمادي هذا العمل الثوري المعجز، في مظاهره المتكاثرة الحافلة بالإدهاش. كما يستخدم في إيقاع النهاية مقطعاً زائداً في الطول ينتهي بساكنين يسبقهما متحرك «/00» ويعد هذا المقطع وسيلة مهمة لضبط إيقاع النهاية في الشعر العربي المعاصر بعامة، بعد التخلي عن القافية الموحدة والضرب الموحد، ومما أهله لهذا الدور كونه يقترن - دائماً- بالنبر مما يؤدي إلي علو درجة الصوت في نهاية السطور، ولهذا المقطع- أيضاً- وظفيته التي تتنوع بين إحداث الوقفات الحادة عند نهاية السطور، وإحداث التوتر التنغيمي ما بين التوقف واستمرار القراءة في حالات التضمين. كذلك يعمد الشاعر إلي إحداث تكرار في بناء قصيدته الموسيقي بما يكفل ضبطاً لإيقاعاته ويحقق للنص تماسكاً ناجماً عن تشاكل بعض وحداته بما يخلق توازيات موزعة في نسيج القصيد، فيستهل أبو نسة ستة من مقاطع القصيدة السبعة بجملة كأنما أتوا، فيما يعرف بتقنية الأنافورا Anaphora التي تتمحور كمرتكز إيقاعي وتبدو متكأ دلالياً يشيد عليه الشاعر طوابق المعاني، كذلك نجد الشاعر يقول في مقطع قصيدته الأخير: كل هذه الأجيال /ومصر في زينتها/ تشيد التاريخ/ تنتمي لمجدها/ تبوح للقرون كلها بسرها/ تحاول الوصول للكمال/ تحاول الوصول للكمال/ كأنما أتوا من الخيال، فيكرر جملة تحاول الوصول للكمال مرتين تأكيداً علي المسعي الملحاح لبلوغ الكمال، ثم يختتم قصيدته بنفس جملة المفتتح «كأنما أتوا من الخيال» ليبرز دائرة المعني الذي تدور في فلكه القصيدة وهو إعجازية هذا العمل الثوري، وتجاوزه لآفاق التوقع مما أحدث دهشة، وهو ما ألح عليه في مقطع قصيدته الخامس كأنما أتوا من الخيال/ من دهشة الشوارع التي تغص بالأفراح/ والأطفال. ونجد أبا سنة وكما ألفنا من شعره الذي يمتاز بخصائص أسلوبية مائزة فيما يمكن عده بصمة إبداعية علي غرار البصمة الجينية لتشكل خريطة أسلوبية خاصة تميزه، فلا يجد قارئ الشعر مشقة بالغة في التعرف علي شعره حتي وان لم تمهر القصيدة باسم أبي سنة فنجد الشاعر وكما يغلب علي شعره عموماً يشيد بناء شعرياً يمتاز بقصر الأسطر الشعرية، كما يعمد الشاعر في نسبة غير يسيرة من جمله إلي التضمين وهو توزيع الجملة الشعرية في أكثر من سطر شعري. امتداد الصورة وتجسيد المشبه وتشخيصه يعمد أبو سنة في قصيدته هذه إلي رسم صورة بانورامية ممتدة تجسد حالة المد الثوري الزاحف للجموع المحتشدة، مع النفاذ لسبر أغوار الذات الجمعية للشخصية المصرية الثائرة بتبيان دوافعها الثورية رفضاً للذل ونشداناً للحرية، كما يغلب علي تشبيهات الشاعر الجزئية تجسيد المعنوي كما يتبدي ذلك في «شرفة التاريخ» و«قلعة الضلال» و«مصر تشيد التاريخ»، كما يعمد كذلك إلي تشخيص المعنوي أو المادي كما يتجلي ذلك في «كأنما أتوا ليولد الوطن» و«يولد المستقبل» و«وتشرقين في المدي يا مصر» و«يمضون للحرية التي تطوق الميدان بالأبطال».