فاجأتنا (الجزيرة) وبلغة بسيطة سلسة خالية من أي دهشة أو أي دمعة حزن لا لا لا، أن عدد الضحايا الليبيين الذين سقطوا علي هامش التدخل الأطلسي الذي باركته الجزيرة ورعاه الأمين السابق لجامعة عرب الجزيرة قد بلغ خمسين ألفا وفقا لتقديرات (المجلس الوطني) الانتقالي الحاكم الآن في هذا البلد. كما بشرتنا نفس القناة بأن المهلة الممنوحة لمدينة سرت الليبية من قبل المجلس الانتقالي للاستسلام تنتهي يوم السبت 3 سبتمبر 2011، وأضافت أن قوات الناتو رضي الله عنها قامت بقصف المدينة اليوم عدة مرات تمهيدا لاقتحامها من قبل الفاتحين الجدد الذين حلوا محل الفاتح المخلوع. في نفس الوقت كانت القناة التي نصبت نفسها منظرا ومبشرا ونذيرا وناطقا باسم الثورات العربية تعيد وتزيد في صور الضحايا الذين سقطوا برصاص الأمن السوري والذين بلغ عددهم حسب تقديرات مشابهة ألفي قتيل. أن يسقط ألفا قتيل (نصفهم من قوي الأمن) في مواجهات بين أي سلطة وشعب منتفض فهذا رقم كبير فما بالك إن بلغ العدد خمسين ألف نفس خلقها الله ونفخ فيها من روحه أغلبها عن طريق التدخل الهمجي الأطلسي الذي ما زال يقصف مدينة سرت حتي هذه اللحظة رغم رحيل مجنون ليبيا عن السلطة. أن يجري الحديث عن مهلة زمنية لاستسلام مدينة عربية قبل اقتحامها فتلك كارثة ومصيبة أخلاقية لا يمكن تبريرها. سقطت تلك الادعاءات التي ظل عرب الجزيرة يطنطنون بها عن المصلحة والمفسدة وعن حرمة سفك الدماء خاصة وأن أغلب الدماء التي سفكت في ليبيا لم تكن برصاص ليبي بل برصاص الأطلسي الذي لا يبالي بحرمة دم إسلامي أو عربي. من المفيد أيضا أن نشير إلي أن فرانكشتاين الأطلسي يكشر عن أنيابه تحرقا لإسالة المزيد من أنهار الدماء العربية في سوريا وقد سعي جاهدا لتحقيق هذا الهدف عبر حلفائه الأتراك والعرب الذين خططوا لخلق أزمة لاجئين سوريين في تركيا العثمانلية ومناطق محررة ومجلس انتقالي يطالب بقرار دولي يسمح بقصف مواطنيه وإبادة مائة ألف أو يزيدون من السوريين خاصة وأن النظام السوري سيصمد في ساحة القتال أطول مما صمد النظام الليبي ومن ثم فغزو ليبيا لن يكون شيئا إذا قورن بغزو سوريا الذي يتمناه ما تبقي من عرب الاعتدال أو عرب الدماء وفقا لأرجح الروايات. جحافل التضليل الإعلامي قبل ثمانية أعوام وقع الغزو الأمريكي للعراق وسط تواطؤ ومشاركة عربية رسمية سمح فيها للإعلام المضلل أن يقوم بدور النائحة المستأجرة رفضا لاستباحة بلد عربي ثم عاد هذا الإعلام ليطالب بالثأر للدم العربي المراق، من إيران وليس من الفاعل الأصلي لا لشيء إلا لأن الأمور لم تسر وفق أهوائهم. كان ومازال السؤال الخبيث الذي يطرحه هؤلاء عن دور إيراني مزعوم في تسهيل الغزو الأمريكي للعراق لأنها لم تشارك في القتال جنبا إلي جنب مع سيء الذكر صدام حسين التكريتي. الآن وعندما أعلنت إيران عن تضامنها مع سوريا في مواجهة أي عدوان أجنبي محتمل معلنة أنها ستمطر "إسرائيل" بالصواريخ إذا ما ضربت سوريا، أبدي هؤلاء امتعاضهم وغضبهم من هذا الموقف وكأن العقل والمنطق يوجبان أن يصبح أي بلد يغضب الأطالسة علي نظامه سداحا مداحا مستباحا أمام هؤلاء الغزاة البرابرة. أن يثور الشعب السوري علي نظامه ويطالب بإسقاطه فهذا حقه أما أن تفتح أبواب البلد ومن ثم المنطقة بأسرها أمام الاحتلال الأجنبي بل ويسُتدعي هذا الاحتلال فلا شك أن هذه هي الخيانة والعمالة بعينها. التغيير العربي والقوي الإقصائية من البديهي أن النظام البعثي الحاكم في سوريا يقوم علي أساس التفرد بالسلطة وهذا أمر واضح في إطار الدستور المفترض تغييره والذي يؤكد علي ما يعرف بالحزب القائد وهو أمر لم يعد ممكنا ولا مقبولا بعد كل ما جري في العالم والمنطقة. الضربة الأثقل التي تلقاها البعث السوري تمثلت في سقوط توأمه اللدود في العراق عام 2003 وكان علي القادة السوريين أن يدركوا أن صمودهم أمام الضغوط والمطالبات الأمريكية لا يعني بقاء طويلا لهذا النمط الفكري التسلطي. مهما قيل عن فروق السلوك بين البعثين السوري والعراقي وهذا صحيح إلا أن زمن هذا النوع من الأحزاب الفاشية قد مضي وانقضي. ارتكب البعث السوري نفس الخطأ الذي ارتكبه المخلوع حسني مبارك وهو تجريف الساحة السياسية من كل القوي غير الموالية له وطبعا بقيت جماعة الإخوان ذات القدرة علي الاستمرار تحت الأرض رغم أنها تندرج ضمن نفس النمط الإقصائي الذي يري أن من ليس معنا فهو علينا. ليت الأمر اقتصر علي الإخوان فهناك تنظيم القاعدة الذي لعب دورا رئيسيا في الحرب علي نظام القذافي ويكفي أن يكون قائد اقتحام العاصمة طرابلس تابعا لهذا التنظيم. الرغبة في الإقصاء ليست قاصرة علي الجماعات المحلية فهي مرتبطة بالصراع علي الحاضر والمستقبل الذي تعيشه المنطقة في ضوء الانسحاب الأمريكي المرتقب من العراق والهلع السعودي من مواجهة الخطر الإيراني بصورة منفردة مما دفع السعوديين لركوب قطار الثورة السورية والخروج عن المسار الداعم للديكتاتوريات العربية كما هو الحال في مصر والمعادي لأي حركة ثورية تنهض في المنطقة. سعي الخليجيون ومن خلال دعمهم المطلق للانتفاضة الشعبية السورية ورديفها المسلح لإسقاط تحالف إيران سوريا حزب الله إرضاء لحلفائهم الإسرائيليين والأمريكان سعيا لإنجاز ذات الهدف الذي فشل الصهاينة في تحقيقه عام 2006. شيزوفرينيا الديمقراطيين الجدد الآن امتشق عتاة الديكتاتوريين العرب سيف جورج بوش الصغير مطالبين بنشر الديمقراطية في العالم العربي ولكن وفقا لخارطة طريق جديدة جري التوافق عليها مع أمريكا وتركيا الكمالية لصالح قوي كانت تزعم سابقا أنها أعدي أعداء الأتاتوركية! دول أرسلت قواتها لقمع ثورة الشعب البحرايني المسالم ترفع الآن عقيرتها قائلة كفي قتلا!!. حسنا: كفي قتلا في ليبيا والبحرين وسوريا! نريد إصلاحات سياسية ديمقراطية في سوريا. موافقون ولكن: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)؟! تري متي وكيف وأين ينتهي ربيع الثورة العربية الذي حوله طغاة العرب إلي ربيع أنهار الدماء؟! عندما يجتمع خريف العظمة الأمريكي المقبل علي الانتهاء مع شيزوفرينيا العقل العربي القبلي المولع بسفك الدماء والراغب في منع الانهيار بالانتحار يمكننا أن نتوقع في زمن ليس بالبعيد حفلا عالميا للجنون يتضاءل معه كل ما قيل عن جنون القذافي والقمع البعثي السوري وتوشك نهاية هذا العالم علي الاقتراب. أيها العرب أليس منكم رجل رشيد؟!