هل يحق للسيناريست الذي يتصدي لكتابة مسلسل عن سيرة حياة أحد الرموز أن يكتفي بالمعلومات المستقاة من الشخصية محور العمل؟ وهل يحق لصناع عمل منتم إلي هذا اللون أن يتبنوا رؤية هذه الشخصية وأن يقدموا حياتها بعينيها؟ مناسبة المفتتح هي عرض مسلسل «الشحروة» الذي انبني علي قماشة صنعتها «صباح» بنفسها واكتفي كاتبه ب«تسريج» حوافها! ملائكة.. وشياطين لأن «صباح» كرهت أباها بفعل قسوته عليها في طفولتها وصباها واستغلاله - ماديا- لموهبتها حين بدأت تضع قدميها علي طريق النجومية والثراء.. فقد كان من الطبيعي - وقد تبني النص رؤية صاحبة السيرة - أن تظهر شخصية والدها «جورج فغالي» سوداء تماما لا محل للخير بها! وعلي الجانب المقابل شاهدنا الأم «منيرة» -التي أحبتها صباح- ملاكا لا يشوبه هوي وقد انتهت حياتها بكارثة مفجعة حين قتلها ابنها بعدما ضبطها في حجرة نوم «كبير الضيعة» وحرص النص علي تبرير الواقعة بأن «منيرة» كانت بمنزل الرجل من أجل إعادة الخاتم الذي أهداه إلي خالة صباح فرفضته وطلبت من شقيقتها «منيرة» الإسراع بإعادته - في منتصف الليل- إلي الرجل، علي جانب آخر سعي النص إلي تجميل تصرفات صباح المندفعة واخطائها.. فمثلا تسافر مع الشيخ الخليجي إلي قصره بباريس - ونجدها بعد الوصول إلي فرنسا وكأنها تتذكر فجأة أن تسأل الرجل.. هل سنتواجد بمفردنا بالقصر؟! ويطمئن قلبها حين تعلم أن بالقصر خدما!! وكأن موقفها هكذا صار مبررا مشروعا بعيدا عن الشبهة وهي تثور علي عبدالله - الخليجي- حين تعلم بأنه متزوج وتقسم أنها لم تكن لترتبط معه بأي علاقة لو كان قد نما إلي علمها أمر زواجه (مع أننا نجدها تتواصل معه بعدها وترفض الابتعاد عنه حتي تتعرض لاعتداء من جانب أسرة الشيخ!) ثم حين يرفض زوجها الأول «نجيب شماس» الاستمرار في الإقامة معها بالقاهرة ويصر علي العودة إلي لبنان ثم يخيرها بين مصر وفنها، أو لبنان وبيتها .. تختار صباح عملها وتتنازل عن ابنها لكن المسلسل لا يتوقف عن محالة تبرير مواقفها فيظهرها متمسكة بالطفل - تحاول خطفه والهروب به إلي مصر، لكنه - مع الأسف- يخفق في تبرير موقفها وهي توافق علي شروط «شماس» للطلاق وعلي رأسها ترك الابن بالإضافة إلي تنازلها عن بناية سكنية كاملة ل«شماس» بدعوي أنها ستؤول إلي ابنها!!، هي دائما المظلومة المستغلة - بفتح الغين- فزوجها الثاني «أنور المنسي» كان يسدد فواتير إدمانه للقمار من أموال صباح، أما الزوج الثالث «أحمد فراج» فقد ذابت به عشقا إلا أنه وبفعل تشدده ورغبته في اعتناقها الإسلام- عن حق وقناعة- وتحفظاته علي عملها ومظهرها المتحرر يغدر بها ويرفض الاستمرار معها ويتركها لجراحها! «الصبوحة» والبطولة السياسية! لم يتوقف الحال عن المحاولة اللحوح لتصوير «صباح» كضحية و(الدنيا عليها وساعات الفرح ياعيني بتتعد علي صوابع إيدها كما تقول كلمات التتر) لكن أراد الكاتب أن يجعل من «الصبوحة» بطلة سياسية ودون أي مبرر نراها وكأنها تتحدي رغبة مجلس قيادة الثورة في احيائها حفلات الإخوة بالجزائر وسوريا، يصور السيناريست لقاء عضو مجلس قيادة الثورة ب«صباح» وكأنه حوار دار بين قائدة يصدر أمرا عسكريا و«صول» مسكين عليه أن ينفذ الأمر في الحال - وليست نجمة غناء وسينما ملء السمع والبصر، يزعم المسلسل أن مجلس القيادة كان منذ بداية الثورة يهوي توجيه الأوامر لكبار المطربين لإحياء الحفلات بالداخل والخارج - وهو أمر لم يعرفه نظام يوليو الوطني سوي في مرحلة استثنائية متأخرة من الستينات وجرت معالجته علي العموم، هذا من منظور المصداقية التاريخية ومعيار الدقة ثم إذا افترضنا صدق هذا الادعاء - ألم تكن استجابة المطرب -في النهاية- أو المطربة لذاك الأمر أو التكليف بمثابة أداء لواجب قومي ولدعم العلاقات العربية التيار الثوري الوحدوي؟! ومن ثم يكون التقاعس عن أدائه بمثابة تقاعس - بدافع نرجسي - عن القيام بالدور المفترض للفنان ورسالته؟ ماذا نريد من دراما السير الحياتية؟ برغم ما أوردناه من تحفظات علي رؤية نص «الشحرورة» يهمنا أن نشير أولا إلي أن العمل ليس سيئا من ناحية التنفيذ فالمخرج قدم صورة جميلة ونجح في استغلال الطبيعة اللبنانية الجميلة التي ساعدته علي تكوين كادرات بديعة، والحق أيضا أن كارول سماحة اجتهدت ومعها أحمد سلامة «أنور منسي» وأسامة أسعد - الواعد- «أنور وجدي» وكارمن لبس، ومعظم نجوم التمثيل اللبنانيين المشاركين بالعمل. ثانيا: إن «الشحرورة» لم يكن العمل الأول الذي حاول تصوير شخصيته المحورية مثالا للصدق والعطاء ورمزا للحب والخير والنبل - وإنما تكرر هذا الأمر في غالبية الأعمال الدرامية التي تناولت الرموز المصرية بدءا من طه حسين «الأيام» إلي أم كلثوم إلي حليم إلي اسمهان، لم تستطع هذه الأعمال أن تقدم لنا هذه الشخصيات كبشر من لحم ودم وخير وشر وضعف وقوة بل قدمت لنا شخصيات اسطورية لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها، لم يأت «الشحرورة» بجديد سوي أنه لم يرهب هذه المرة «الورثة» بل صاحبة الأمر ذاتها لذا تبني رؤيتها تماما وسلمها زمام الأمر - الدرامي- والمهم .. أننا ونحن نعيد ترتيب أوراقنا كلها - منذ انتصار ثورة الخامس والعشرين من يناير - فعلينا أن نؤسس لمعايير جديدة ترسم منهجا مختلفا لتقديم السير الحياتية يرتكز علي دقة اختيار الشخصية، والدقة والموضوعية في سرد محطات سيرة حياة الرمز المختار، مع ضرورة وجود رؤية إبداعية خاصة - بالكاتب، تشمل ثم تتجاوز حدود السيرة إلي طرق زوايا ذات صلة بما نعيشه وما سوف تعيشه الأجيال القادمة هذا هو المراد.