لا شك فى أن اختيار حياة ومسيرة الدكتور والعالم المصرى الكبير على مصطفى مشرفة موضوعا لمسلسل تليفزيونى كبير يذاع فى رمضان هو خطوة مهمة نحو تقديم المادة العلمية والثقافية والفكرية التى يحتاجها جمهورنا اليوم أكثر من أى يوم مضى. ومحاولة جادة لتحويل العروض التليفزيونية من مجرد مادة استهلاكية للتسلية والترفيه إلى مادة ثقافية تضىء العقول وتثير الضمائر وترفع عن طريقنا الملىء بالأشواك الستائر السوداء والأحجار الصم التى أحاطت به. هذا المسلسل الذى يجمع ببراعة بين الوثائقية والدرامية فى مزيج متجانس شديد التأثير كتبه كاتب جاد وأخرجته مخرجة ملهمة عرفت كيف تجمع فى تقديمها له بين الأسلوب الأرسطى القائم على الوهم والخيال والأسلوب البرختى القائم على كسر الايهام وتشغيل العقل والفكر بصورة مستمرة دون أن نسقط فى ميلودرامية لا نحتاج لها أو تفسيرات واستغاثات تبعدنا عن فكرة الموضوع المطروح. تقاليد جامدة حياة «مشرفة» كانت حياة عادية قوامها الفكر والاجتهاد والبحث عن نظريات علمية جديدة تكسر التقاليد الجامدة السائدة منذ عصر نيوتن ومن حياة عاطفية متأرجحة من قصة حب لم تكتمل مع فتاة إنجليزية تعرف عليها أثناء فترة دراسته الأولي التى يقف فى طريق تحقيقها أب متعصب مازال يعيش فى وهم «الإمبراطورية العظمى» التى تتسيد على رعاياها المتخلفين فى كل أقطار الأرض التى تخضع للسيطرة الإنجليزية وبين فتاة مصرية تزوجها وأخرجها من ظلمات «جهل» كانت تعيش فيه كأغلب الفتيات المصريات فى ذلك الحين «فترة العشرينات من القرن الماضى» إلى واقع مضىء غيَّر من منهج حياتها ومن نظرتها إلى الكون. ومن خلال رحلة مشرفة فى دروس العلم وإثبات نظرياته الجديدة. يستعرض المسلسل أحداثا تاريخية وسياسية بالغة الأهمية.. ويقدم لنا شخصيات عامة سبق لنا أن رأيناها فى مسلسلات سابقة وفق إنارة جديدة ووجهة نظر مختلفة ومبتكرة لم نعهدها فيهم قبلا كشخصية مكرم عبيد وحبه للغناء وشخصية الدكتور أحمد زكى ومواجهته للأزهر.. والدور المدهش الذى لعبه الدكتور طه حسين فى حياة مشرفة ومسيرته.. والصداقة الروحية المتينة التى ربطته بالنقراشى وسواهم من الشخصيات العامة. كل ذلك من خلال توازن وثيق بين حياة مشرفة العامة وحياته الخاصة الأسرية التى تمثلت فى شخصية أخته «نفيسة» وفى اشقائه الثلاثة الذين رضعوا مثله حب العلم وإن اختلفت بعد ذلك اتجاهاتهم وطرق كفاحهم. الدفء العائلى المسلسل الذى أخرجته إنعام محمد على اقتدار كبير عرف كيف يخلق جو الدفء العائلى فى أسرة مشرفة رغم تناقضاتها أحيانا.. وكيف يروى بعذوبة فائقة قصص الحب التى تشتعل به الثنايا كالقلوب الحمراء الصغيرة.. وكيف يعبَّر بجدية بالغة عن المسيرة العلمية لمشرفة وكيف يشرح نظرياته الثورية فى الكتلة والشعاع بأسلوب علمى تبسيطى يسهل فهمه على الجميع، كما لجأ إلى أسلوب جديد ومبتكر فى دمج الحوار الإنجليزى مع الحوار العربى وذلك أولا لخلق جو انجليزى والأبطال الإنجليز الذين يمرون بحياة مشرفة واعطاء هذه الجمل الحوارية مصداقية حقة .. ثم نقلها بعد ذلك ببراعة من السطور إلى لغة عربية متماسكة ومفهومة بالإضافة إلى هذا كله نجحت إنعام محمد على كعادتها فى خلق أجواء العشرينات فى مصر والعشرينات فى بريطانيا (عن طريق اختيار أمكنة تصوير مدهشة وشديدة الإقناع) وعن طريق التدقيق الشديد فى طراز الأزياء وفي نوعية اكسسوارات مما جعلها تخلق أجواء واقعية تتناسب مع الجو الوثائقى الذى أرادت له أن يحتل مكانا مميزا إلى جانب الجو الدرامى. كما لجأت إلى أسلوب سرد خاص بها يتأرجح بين التقليدية وأكاد أقول التبشيرية لأسلوب مختلف ومغاير عن كل ما قدمته قبلا.. (وأخص بالذكر مشاهد الحلقة الأولى .. التى لجأت فيها المخرجة إلى تكنيك تليفزيونى بارع جمع بين الماضى والحاضر بشكل مؤثر). وأبقى أخيرا مع الأداء التمثيلى فى هذا المسلسل الملفت للنظر من أكثر من زاوية. صدق الأداء قد تعودنا فى مسلسلات إنعام محمد علي السابقة أن نرى الممثلين فيها مهما بلغت شهرتهم وكأنهم يؤدون أدوارهم للمرة الأولى متمتعين بهذه الحماسة وهذه العفوية وهذا الصدق المدهش فى الأداء، صفقنا مثلا لصابرين وأعدنا اكتشافها فى «أم كلثوم» وها نحن نعيد اكتشاف أحمد شاكر عبداللطيف فى «مشرفة» بعد أن أدهشنا أداؤه لشخصية فريد الأطرش فى مسلسل اسمهان.. إنه فى «رجل من هذا الزمان» يجسد بل يتقمص شخصية مشرفة بكل تناقضاتها وحماسها وعنادها وعاطفيتها وعذوبتها إنه العالم والموسيقى النابه والأخ الرحيم والأستاذ الذى لا يقبل التنازلات والمصرى المعتز بكرامته وكبريائه لقد عرف كيف يمسك بخيط الشخصية وكيف يتطور معها وكيف ينتقل من عاشق حبيب إلى عالم مناضل يقف فى وجه أستاذه الإنجليزى المتعصب.. يعرف كيف يفيض حنانا أمام اخوته.. ويعرف كيف يواجه بعناد وحشى غباء مسئول إنجليزى يملك السلطة والتحكم فى مصيره. انهيار نفسى أداء متميز لفنان كبير يعرف كيف يحترم نفسه وكيف يختار أدواره وكيف يجعل من موهبته أداة طيعة فى أصابع مخرجة تجيد صنع «السحر» اللفظى والصورى معا.. إلى جانب أحمد شاكر عبداللطيف يتألق أحمد خليل فى دور عابر .. جعلته موهبته دورا أساسيا لا ينسى عبَّر فيه عن تعصب الإنجليزى الأحمق .. ثم عبَّر بسهولة منه إلى التعبير عن انهياره النفسى والروحى بعد فقدانه لزوجته واحساسه بضياع ابنته.. وارتخى على الرصيف تائه النظرة يفكر فى ماض كان يعتقد أنه ملىء بالزهو والكبرياء .. واكتشف فجأة أن هذا «الماضى» هو الذى دمر حياته وغيَّر من رؤيته للعالم كله. أداء عبقرى لممثل خارق .. ترك بصمته على المسلسل كما تركها «إبراهيم يسرى» فى تجسيده البارع للدكتور طه حسين كاد ينسينا أداء أحمد زكى نفسه لهذا الدور.. ومنال سلامة التى حولت شخصية «نفيسة» اخت مشرفة من شخصية ثانوية إلى رمز للوفاء والأنوثة والأخوة المصرية التى نحن إليها وننادى بها.. أداء مفعم بالحيوية والدفء والعذوبة.. ألقى علي مشاهدها نفحة «غنائية» حلوة جعلتنا نحس أحيانا أنها تفنى حوارها أكثر مما تنطقه. هذه العذوبة أيضا نلمحها فى أداء هبة مجدى التى جسدت دور «ليز» الفتاة الإنجليزية التى ربطتها بمشرفة قصة حب .. انتهت بشكل مأساوى.. والتى تحولت بين يدى إنعام محمد على إلى قيثارة حلوة تطلق لحنا شجيا لا ينسى.. خصوصا فى مشاهدها الأخيرة التى قررت أن تهب نفسها فيها إلى مساعدة الفقراء والمرضى .. بعد أن تحطمت جدران معبد الحب الذى شيدته بقلبها وأحاسيسها.. إلى جانب ياسر فرح الذى لعب دور مصطفى مشرفة الثائر الذى يضطر للبعد عن بلده خوفا من البطش الإنجليزى .. والذى يعانى ضمورا فى عضلات ساقه.. أو باقى الأخوة وباقى الشخصيات التى كانت تتوالي أمامنا وكأنها مقاطع غنائية فى سيمفونية عالية المقام .. تنشد جميعا لحنا واحدا يشيد بكرامة الإنسان وقوة العلم ومجد الإنسان المصرى. رجل من هذا الزمان مسلسل كبير.. كبير حقا جدير بأن يكون أمثولة ودرسا لرجال حقيقيين نعدهم بقوة لزمن آخر جميل.