شخصية فرس النبي في الرواية مهيمنة علي السرد الروائي وهي قادرة علي إدارة الصراع وصنع الحدث موضوع الرواية يلج مباشرة في أحشاء الواقع عبر نسق لغوي يتسم بالشعرية والمجاز عبدالحميد كشف عن مساحات عريضة في روايته من الهموم الإنسانية التي تحيط بالمواطن في رحلته لكشف المستور يحيا الإنسان في وسط سياسي بالضرورة ما دام يعيش في مجتمع، وهو ما يقتضي نوعا من الوعي بهذا الوسط وما يشتبك فيه من صراعات وتحولات.. والأديب الماهر يصنع نجاحه من القدرة علي الإدراك والتحليل وإدراك الجوهر الكامن.. ولعل الرواية تكون أحد الأنواع الإبداعية القادرة علي تقديم رؤية تحليلية لشبكة العلاقات الحاكمة لحركة المجتمع.. وتقف الرواية جماليا في زاوية استنفار عناصر السرد الروائي في مواجهة عناصر الفكر المجتمعي وحركة الواقع.. ساعية إلي إحداث تغيير في الرؤي، ورصد واع لظواهر الحياة. يكتسب العمل الأدبي قيمته من المجال الذي يتحرك فيه وينطلق منه، ومن النسق التعبيري الذي يصور هذا المجال.. ولقد اكتسبت رواية «فرس النبي» للروائي نبيل عبدالحميد صدقها الموضوعي من المجال الذي رصدته ومن النسق اللغوي الذي واكب الشخصية في جدلها مع الآخر. رواية انتقادية «فرس النبي» التي صدرت في جزءين عام 2005 رواية انتقادية، جاءت في لغة واضحة، سهلة الأداء، خلت من التكلف أو تعمد الرمز.. وتباينت جماليا مع ما لمسناه في أعماله الأولي التي اتكأت علي نسق لغوي يتسم بالشعرية والمجاز.. كرواية «مسافة بين الوجه والقناع» أو روايته التي حاز بها علي جائزة الدولة التشجيعية «حافة الفردوس» ذلك أن موضوع الرواية يلج مباشرة في أحشاء الواقع، وراح الروائي عبر نصه يفض أستار الواقع المشتبك ويكشف أبعاده.. ولقد نجح في تقديم الشخصية، ورسمها وتعريتها ورصد تحولاتها المواكبة لتحولات المجتمع، وثرائها المشبوه عبر الفساد والقرب من السلطة، وكشف بذلك عن مساحة عريضة من الهموم الإنسانية. لقد أجادت الرواية تصوير «فرس النبي» في رحلته وصعوده، من رجل يعمل بتجارة المخدرات إلي مصاف الكبار الذين يقبضون علي مقدرات المجتمع وحركته المادية ويسهمون في إشاعة القبح والفساد، فاستحلوا القيم واجترأوا من أجل المتعة والمنفعة الخاصة، واستغلوا المنصب السياسي لاكتساب الحصانة. تلون «فرس النبي» وارتدي لكل مرحلة زيها الملائم وعاث في الأرض فسادا وأضحي نموذجا واستقطب من حوله من يعاونه في اقتناص ما ليس له. قارئ النص يستطيع أن يدرك من خلال التلقي الواعي من هؤلاء الذين أصبح «فرس النبي» نموذجا لهم.. ولعل العنوان الذي ارتضاه الكاتب أن يكون مدخلا إشاريا للدلالة التي يسعي إلي رصدها.. ويصبح المتن الروائي تحقيقا للدلالة وتسجيلا لحركة الذات في حركتها اليومية الجانحة. «فرس النبي» حشرة نباتية تتسم بالشراسة والتوحش، تلتهم في شراهة النبات الأخضر، متعددة الأرجل، حادة الأسنان، قارضة متلونة بلون النبات، نطاطة، سريعة التخفي والانفضاض معا، تزهو بمنظرها.. وتخدع به.. ولعلنا بهذا ندرك معني الرمز اللغوي الذي يشي به العنوان، وما صاحبه من سلوك إنساني جانح يتسم بالقسوة والعنف واختراق القيم. الشخصية تنتمي «فرس النبي» إلي رواية الشخصية ف«فرس النبي» في الرواية شخصية محورية مهيمنة علي السرد الروائي.. وسعي نبيل عبدالحميد إلي تحقيق ذلك عبر أدوات فنية أبرزت الدور الفاعل للذات المهيمنة.. فهي قادرة علي إدارة الصراع وصنع الحدث وأنها تسهم في تشكيل اللغة وتدوير الحوار، وتنبئ الهيئة الخارجية والوجدان الداخلي بارتقاء الذات إلي مستوي النموذج.. وما بين المعلم فرس والحاج قطب رصدت الرواية مسيرة حياة واكبت في حدها الخاص مجريات الواقع وتحولاته. جاء علي لسان منصور أحد معاوني القطب توصيف هذه المسيرة بدقة، مما أثاره وأغضبه، لأنه أزاح الستار الذي غطي القطب به حقيقته.. وجاءت العبارة أيضا تسجيلا لمفردات الحياة في جنوحها وتوحشها. وجدت ملف المعلم فرس النبي أنظف بكثير من ملف الحاج قطب.. فالمعلم فرس النبي لم يستول علي أموال الناس بالباطل، لم يزور ويغش، لم يغدر برجاله ويلقي بهم في السجون، لم يقتل ولم يعتل كرسي السلطة بالبلطجة وتخدير الرءوس.. المعلم فرس كان مجرد لاعب مبتدئ.. أما الحاج قطب فقد تجرأ علي عرين الكبار. ولأن العبارة كشفت الوجه الحقيقي واستلت منه غضبا جامحا جاء رد الفعل عنيفا «انفجر غليان القطب رغما عنه اخرس». ارتدي تاجر المخدرات بعد عودته من الحج زي الحاج إمعانا في التضليل ووسيلة جديدة للخروج من الكمون الملازم لتجارة المخدرات إلي محاولة اللحاق بالكبار وانتهاز ما ساد في المجتمع من تحولات. في زيارة له للسيد البدوي شعر بصدره مغسولا مما فيه وبصيرته تستقبل نورا يضيئها «وهناك دعاه الرسول لزيارته، وهناك طلب منه أن يبتعد عن طريق المخدرات وأن يقترب إلي الناس ويرعي مصالحهم». اكتسي للحالة الجديدة كساءها.. فالوجه مبتسم في تواضع واليد مشغولة «بحبات المسبحة الكهرمان».. لم ينس أن يطمئن علي منظره «قام إلي المرآة، فرد هامته في تعاظم، وارتاح لمنظره».. وراح يحادث الناس بلغة جديدة، ووجه جديد.. وأن حب الناس زرع في صدره وأنه حريص علي خدمتهم. كان أحد معاونيه «أبوالعيون» وشركائه في تجارة المخدرات قد أشار عليه بأن الشكل الجديد أجدي وأكثر فائدة، وأنه وسيلة ناجحة لاكتناز المال وتحقيق الهيمنة. أكد له أن شخصية الحاج قطب ستكون أفضل مليون مرة من شخصية المعلم فرس، لأنه اكتشف طريقا آخر أجدع وأسرع في جمع المال وبلوغ مركز القوة، وهكذا استثمر الحاج قطب حجه، في الظهور بشكل جديد يغازل به العيون والقلوب. كان من طقوس لقائه مع الناس رجال ونساء الحرص علي أن يتصاعد البخور.. الذي يتهادي وهو ينظر في طلباتهم ومشاكلهم.. في لقاء له مع النساء «فرك مسبحته بين كفيه، وبدأ بالبسملة والصلاة علي نبي الهدي.. وبدأ دخان البخور يتهادي من الأركان، ويتسلل إلي الأعطاف والصدور دافئا ناعما، يدغدغ الحواس المرهقة، ويبعث فيها نشوة الترقب». أسهمت اللغة الوصفية في بيان لوازم شخصيته الجديدة التي كان يحرص عليها في لقاءاته.. وفي رسم الجو المحيط الذي يساعد علي التلقي والتأثير حتي تظل صورته في عيونهم.. الكريم معهم والعطوف عليهم. عمل القطب علي أن يحتمي بالنظام ويحصل علي الحصانة، ليحمي فساده ككل الفاسدين الذين يسعون إلي ذلك.. وكان يردد في زهو «أين ملابس مجلس الشعب» ومارس في الانتخابات.. المراوغة والخديعة، وتحلل من وعوده مع الآخرين، وظهر بمظهر مغاير، ورفع عقيرته يدين الفساد، وأن الانتخابات ستأتي بمن يواجه الفساد ويصلح الأمة.. «لابد أن نصل إلي مقعد مجلس الشعب لنعرف كيف نطهر البلد من تلك الحشرات الوضيعة..».. وهو تعبير ساخر ينقل ما حدث عادة في مثل هذه الحالات، ويكشف عن مداهنة الذات من أجل المنفعة الخاصة. كان منصور اللواء السابق هو المشرف علي حملته الانتخابية واعتبره القطب حائط الصد.. وقام بتسجيل الموتي وربات البيوت وكان يردد للحاج «الدنيا راكب ومركوب، ونحن جئنا لنركب». في مونولوج حميم سمتْ فيه اللغة إلي مستوي يعلو ويغاير لغة السرد كشف عن دخائل الذات، وأبان عن الهدف الذي اعتمل في داخله وحققه وتراءي له المجلس وهو يخاطبه «متي تتمطي في مقعد المجلس وأمامك الميكروفون» هذا الإحساس بالزهو الذي يُشير إليه الفعل «تتمطي».. كم هو سعيد به!.. «من اليوم أصبحت تعتلي رءوس العباد في شرعية مطلقة، أصبحت شخصية عامة ومحصنة.. صاحب رأي محسوب وكلمة مسموعة أصبحت قادرا علي أن تفتح ذراعيك علي اتساعهما وتجمع، تحصد من خيرات الله في حرية وأنت مطمئن، وأنت محصن، تحميك أقوي سلطة في البلد». إذا كانت اللغة مرآة لعقول متحدثيها ونفوسهم، فإن لغة القطب مرآة واضحة لفكره الذي انطلق منه واستحوذ عليه، ولنفسه المزهوة بالجاه والمال والسلطة.. فهو المحصن المطمئن حين ينهب ويستغل ويعيث في الأرض فسادا. هذا الفساد الذي استشري وتنوع وشمل المكان والإنسان والقيم. تعددت وسائل القطب في إفساد الذمم لأخذ ما لا يستحقه، وليضع يده علي أملاك الغير وأحوزة الدولة، وليقيم مشروعات يستغل فيها الأنظمة والمؤسسات.. ومن ثم تعددت علاقاته المشبوهة، وأفرز العنكبوت خيوطه السامة، فخرج من مجهول المخدرات إلي عالم رجال الأعمال. تنازل عن قطعة أرض بجوار قسم الشرطة استرضاء لمأمور القسم.. ووزع الإكراميات نظير التغاضي عن الأدوار المخالفة علي «مهندس التراخيص وعصابته، رئيس الحي وعصابته، مهندس الأشغال، مدير المرافق.. إلخ» ويضع يده علي قطع الأرض الصالحة للبناء وتاجر في الشقق والأراضي. تردد علي «عوامة» بالمعادي يعقد فيها صفقاته المشبوهة.. كمشروع مجمع الخدمات الخيرية الذي يشمل المستشفي والمسجد والحضانة.. والمكان المناسب هو «قطعة الأرض الكبيرة شرق الشرطة العسكرية، تلك التي استولت عليها الوزارة لبناء النادي الرياضي» ونظير الرشوة المالية الضخمة فإن الأرض ستؤول إليه ويحرم المواطن من رئة يتنفس بها، ونشاط يقوم به، كان يحرص ألا يلتقي في العوامة بمن يعرفهم ويعرفونه.. وهو ما أظهر لنا الجانب الخفي في حياة الرجل. عقد صفات من نوع آخر مع النساء الجميلات عن طريق العقود العرفية.. يصف الكاتب في صورة بليغة وساخرة، المشهد النسائي الذي ىُعرض علي الحاج «دخلت الحورية ومن وراءها تشكيلة منتقاة، أجسام مجهزة بطرق مبتكرة تحتقر ورقة التوت وتلفظها في نفور..» هذا المشهد الحسي تواكبه اللغة وهي ترصد الفعل الجنسي المثير والذي يتراءي أمام الحاج ليختار، ويقلب عينيه، وكان الكاتب ذكيا حين رصدت اللغة المصورة مراوغة الأنثي لاجتذاب الرجل والكشف عن الداخل، وتعرية الظاهر المتلبس بالشكل واللحية وحبات المسبحة «تهادت ساقانة بللوريتان ثم مال صدر يستنكر السترة، وناولته الأنوثة مبسم الشيشة وهي تركع أمامه، وينقبض ثقب شفتيها الممتلئتين ويتمدد إلي الأمام بينما تداعب الجمرات.. إلخ».