تتوالي هذه الأيام الأخبار عن مهرجانات سينمائية تلغي الواحد تلو الآخر، وبالتأكيد تواجه هذه القرارات بحالة من الغضب في أوساط الفنانين والنقاد ورجال الثقافة السينمائية في مصر، وقد يري البعض أن إطفاء مشاعل المهرجانات الفنية يكشف عن حالة من الضعف والتراجع والاستسلام أمام التيار الديني المتشدد ، أوتجنبا وتأجيلا لصدام سوف يأتي إن آجلا أوعاجلا. وعلي الرغم من كوني عضوا أساسيا في معظم لجان المهرجانات السينمائية بل ورئيسا لأحدها ، لم يتحدد مصيره بعد ، إلا أنني أري أن هذا الغضب كثيرا ما يأتي في غير محله، فالأحوال الأمنية غير مستقرة منذ قيام ثورة 25 يناير وإن كانت شهدت حالة من التدهور من قبل قيامها .. كما أن الأحوال الاقتصادية غير مواتية لإقامة مهرجانات علي مستوي دولي حتي ولو كان هناك سفه في الإنفاق في أمور كثيرة، ولكن الأمر اللافت للنظر أنه في ظل هذه الأجواء بدأ وزير الثقافة د. عماد أبوغازي في الحديث عن مهرجان القاهرة كفعالية سنوية أصبح انتماءها لوزارة الثقافة يشكل عبئا علي ميزانيتها، والوزير بالطبع يتحدث عن تركة من الديون والهموم هوغير مسئول عنها. وبدأ الوزير يعلن عن نيته في أن ينقل تبعية المهرجان إلي إحدي الجمعيات الأهلية وعن الشروط التي يجب توافرها في هذه الجمعية التي يمكن أن يؤول لها هذا الحق، بالتأكيد يفكر الوزير بشكل صحيح وعملي، وهويسعي إلي أن يرفع عن كاهل الوزارة مهرجانا دوليا كبيرا يستحق أن يقام تحت رعاية جمعية سينمائية تمتلك من الكوادر والطاقات ما يؤهلها لتحقيق فعالية تليق باسم مصر بعد الثورة ، بعيدا عن المعوقات الروتينية، وتجنبا للتهمة الجاهزة بإهدار المال العام، وبالاستقلال عن التبعية الحكومية التي أعلم بحكم خبرتي في العمل بمؤسساتها كم هي قاتلة لأي فعل ثقافي حقيقي، ولكن نية الوزير إذا كانت صادقة، فإن النوايا الغريبة والمريبة بدأت تسفر عن نفسها في صورة مساعي بعض مسئولي المهرجان السابقين في تأسيس جمعية ثقافية لاستعادته، وكما لوكان الأمر لا يخرج عن تغيير المسمي أوالانتماء ، بينما يظل القائمون نفس الأشخاص، وكما لوكانت مسألة تأسيس جمعية ثقافية هي مجرد غطاء للتقدم لمناقصة أولتقديم عطاء لاقتناص مهرجان. الرجوع للأصل لكن الأمر الذي يثير الغضب حقا هوأن البحث السريع في تاريخ هذا المهرجان يكشف عن أنه كان يتبع في الأصل جمعية سينمائية مازالت متواجدة علي الساحة ومازالت تواصل أنشطتها وتتوسع فيها، وهي جمعية لها تاريخها الكبير في إنشاء وإقامة المهرجانات، إنها جمعية كتاب ونقاد السينما التي أسسها الكاتب الصحفي الراحل كمال الملاخ، كما أن قصة اغتصاب وزارة الثقافة في عهد الوزير الأسبق عبدالحميد رضوان لمهرجان القاهرة من هذه الجمعية هي قصة يعرفها الكثيرون، فقد استغل مسئولو الوزارة في عام 1985 تعثر إحدي الدورات ، وبدلا من دعم الجمعية ومساندتها بعد ما عانته من مصاعب مالية ، قرروا أن ينتزعوا منها المهرجان وينقلوا تبعيته إلي وزارتهم، ومن يعرف قصة إنشاء هذا المهرجان يمكنه أن يدرك فداحة الجرم الذي ارتكبه مسئولو الوزارة ضد هذه الجمعية الثقافية الوطنية التي أنشأته. تبدأ الحكاية من مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورة عام 1975 حين شارك به وفد ضم عددا من النقاد برئاسة الكاتب الصحفي الراحل كمال الملاخ، وكان الجميع في حالة إعجاب وانبهار بروعة تنظيم المهرجان، وربما كان البعض يتحدث في غيرة عن فكرة إقامة مهرجان شبيه في مصر ولكن باعتبارها مجرد طموح بعيد وأمل صعب المنال، وتزايد الحماس مع نشر خبر بنشرة فاريتي عن مهرجان سينمائي من المزمع عقده بالقدس وتنظمه هيئة السينما في إسرائيل، أثار هذا الخبر انفعال أعضاء الوفد المصري، وظل الملاخ صامتا ثم تساءل في دهشة واستنكار "كيف تنظم إسرائيل مهرجانا سينمائيا وليس لها صناعة سينما، ونحن في مصر لدينا أول صناعة سينما في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط ولا نقوم بتنظيم مهرجان سينمائي دولي،" ومن هنا بدأ الحديث بجدية عن إقامة مهرجان سينمائي يحمل اسم مصر ويتمتع بصفة الدولية ويقف جنبا إلي جنب ضمن المهرجانات الدولية الكبري في العالم مثل كان وفينيسيا وبرلين. السادات وإليزا كانت علاقة مصر بالمهرجانات السينمائية في تلك الفترة تتوقف تقريبا عند حدود المهرجان الآسيوي الأفريقي الذي كانت تقيمه المنظمة الأفروآسيوية، وكان مهرجانا مشتركا في هويته محدودا في أنشطته وفعالياته وحضوره الإعلامي كما أنه كان أيضا بعيدا عن صفة الدولية .وفور العودة إلي مصر بدأ العمل الجاد نحو تأسيس جمعية سينمائية تسمح بإقامة المهرجان، بل وتمتد طموحاتها لتشمل إقامة الندوات ونشر الدراسات والأبحاث السينمائية وإصدار مجلة سينمائية وإقامة حلقات دراسية لتعليم هواة النقد والإبداع السينمائي، حول هذه الأهداف اجتمع فريق من كبار كتاب ونقاد السينما، وتأسست الجمعية وتشكل أول مجلس إدارة من كمال الملاخ رئيسا وحسن إمام عمر نائبا وعبد المنعم سعد السكرتير العام وأحمد ماهر أمين الصندوق. وضمت بين أعضائها أحمد صالح وفوميل لبيب وماري غضبان ومحمد الحيوان ومفيد فوزي ويوسف جوهر. بفضل جهود هؤلاء انطلق مهرجان القاهرة السينمائي دوليا منذ دورته الأولي وافتتح يوم الاثنين 15 أغسطس سنة 1976 بدار سينما قصر النيل بحضور رئيس الوزراء الأسبق ممدوح سالم ويوسف السباعي الرئيس الفخري للجمعية المنظمة للمهرجان، وحققت الدورة الأولي للمهرجان نجاحا كبيرا وتوالت النجاحات مع توالي الدورات، وكان المهرجان يقام تحت رعاية وبحضور العديد من الوزراء وكبار رجال الدولة، بل إن الرئيس الراحل السادات كان يتدخل أحيانا شخصيا لحل بعض المشكلات أوالعقبات التي تواجه المهرجان، ومن أشهر هذه المواقف حين تدخل السادات لحل مشكلة حضور النجمة العالمية اليزابيث تايلور التي كانت لديها شروط خاصة للحضور كان أصعبها توفير طائرة خاصة لها، ولم يكن بإمكان المهرجان تحقيق هذا المطلب لولا موافقة الرئيس علي تخصيص طائرته الخاصة للنجمة السينمائية الكبيرة، هكذا كانت الدولة تقدر الفن وتقدر جمعية سينمائية ومهرجانا دوليا، مع نجاح المهرجان وارتفاع مكانته الدولية وما شهده من تقدير دولي ومن حضور نجوم السينما العالمية، تزايد طموح جمعية كتاب ونقاد السينما مع التفكير في إقامة مهرجان بكل محافظة لتتحول كل بقعة في مصر إلي واحة اشعاع ثقافي وحضاري ، كانت الإمكانيات محدودة ولكن الحماس كان عظيما وصنع النجاح حالة من الثقة والرغبة في المزيد من الإنجازات. مهرجان في كل مكان وتقرر تأسيس مهرجان الإسكندرية الذي كانت بدايته قوية جدا كما القاهرة مع احتفاظ المهرجان بخصوصيته كمهرجان لدول حوض البحر المتوسط، وتوالت مهرجانات جمعية كتاب ونقاد السينما كل منها ينطلق من محافظة ويحمل صفة خاصة.. مهرجان أسوان للسينما الأفريقية ومهرجان مجاويش للأفلام القصيرة واللذان لم يكتب لهما الاستمرار.. ونتيجة للظروف التي تعرض لها مهرجان القاهرة أصبح يحظي برعاية مباشرة من وزارة الثقافة، بينما ظل مهرجان الإسكندرية يتبع جمعية كتاب ونقاد السينما حتي الآن كشاهد علي إنجازات هذه الجمعية وتاريخها ودورها الكبير في صناعة المهرجانات، وهي في طريقها أيضا لإصدار مهرجان جديد يحمل اسم الغردقة السينمائي، لتواصل مشوارها مع المهرجانات الناجحة ولتؤكد أنها الأقدر علي تحقيق هذه الفعاليات ذات الطابع الدولي والإقليمي بنجاح. كانت هذه الجمعية التي ضمت في عضويتها مجموعة من ألمع الأسماء في مجال الكتابة والنقد غير قادرة علي أن تحتفظ بمهرجانها من دولة لم تحترم التخصص ولم تؤمن بفكرة المدنية وظل جاثما علي قياداتها شخصيات ليست لها أدني علاقة بالتخصصية ولا بالمدنية ، في ظل دولة غاشمة أمكن بجرة قلم سحب المهرجان من مؤسسيه وصناعه ورجاله، وأمكن ببساطة أن ينتقل مهرجان القاهرة إلي تبعية وزارة لم يكن لها أي دور في تأسيسه أوإقامته، ولم تكن وزارة الثقافة تمتلك أي كوادر لإدارته، ولولا نجاح الناقد الكبير سمير فريد في إعادة صفة الدولية للمهرجان في الدورة الوحيدة التي أدارها لما أمكننا أن نتحدث عن أي إنجاز حقيقي أوإضافة فعلية حققتها وزارة الثقافة لهذا الحدث الذي بدأ عملاقا علي أيدي صناعه ومؤسسيه. وهكذا ارتكبت وزارة الثقافة أعمال البلطجة واغتصبت مهرجانا من جمعية أهلية في عهد كانت البلطجة هي قانونه الحاكم وكان الرئيس المقصي هوالمغتصب الأعلي بعد أن اغتصب حرب أكتوبر المجيدة واختزلها في الضربة الجوية الأولي، وفي ظل إعلام فاسد من المنافقين والفاسدين وبجهود متواضعة من ترزية القوانين يصبح الباطل حقا وتضيع الحقوق والحقائق، ولكن في ظل عهد جديد حققته ثورة مجيدة وفي أيام مفترجة مثل التي نعيشها الآن، هل يمكن أن يعود الحق لأصحابه وأن تستعيد جمعية كتاب ونقاد السينما مهرجانها الذي أقامته لعشردورات متتالية من عام 1976 حتي 1985، أم نظل ندور في فلك المهاترات والأساليب الملتوية لنصبغ علي الجرائم صيغا مختلفة وأشكالا جديدة ويبقي الوضع علي ما هوعليه وعلي المتضرر اللجوء للقضاء ؟