"الثقافة وتحديات التغير".. هذا عنوان مؤتمر آخر عقده اتحاد الكتَّاب بالقاهرة مؤخرا.. وتابعت أخباره مثل كل مؤتمراتنا الثقافية بانزعاج! فلا أظن أن دولة في هذا الكوكب تبارينا في عدد ما تكتظ به أجندتنا الثقافية من مؤتمرات منزوعة الجدوي.. وطافحة لفيروسات الجمود والعجز والمؤتمر كان من الممكن أن يصبح علامة فارقة في علاقة المثقف بالسلطة ..لوصارت الأمور كما تمنينا ولبي الدكتور عصام شرف الدعوة وحضر الافتتاح .. ليس لالتقاط الصور مع المثقفين ..بل لينصت اليهم ..باعتبارهم وجدان وعقل وبصيرة الأمة.. فيقولون له بهدوء وحكمة الثوري ..وليس غروره وحماقته ربما ما ينفع الأمة في هذه المرحلة .. لكن لأن المثقفين علي ما يبدو صوتهم خفيض ..وبلا أظافر .. لم يحضر رئيس الوزراء ربما لانشغاله بالانصات إلي معتصمي التحرير ..ليتعرف علي مطالبهم فيما يتعلق بالتغيير الوزاري .. لأنهم أصحاب الصوت الأعلي والأظافر الطويلة حتي لو كانت أغلبية الشعب بدأت تضجر من استبدادهم.. هذا لايعني أن مثقفي مصر مستبعدون من خريطة اهتمامات الحكومة ..فقد أرسل رئيس الوزراء الدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة الذي يحظي بمساحة كبيرة من الحب في وجدان غالبية المثقفين لينوب عنه في حضور افتتاح المؤتمر ويثني علي وثيقة كتَّاب مصر التي يراها معينا لكل من يبحث عن مستقبل أفضل لمصر.. وبدون الوثيقة التي منحت المؤتمر مذاقا مختلفا لأصبح مثل عشرات المؤتمرات الثقافية التي تنظم في مصر سنويا..فعل متعمد لإهدار المال العام! الهيئة العامة لقصور الثقافة تنظم وحدها ما بين 15 إلي 20 مؤتمرا.. بدءا من المؤتمر الأب ..مؤتمر أدباء الأقاليم ..وانتهاء بمؤتمرات اليوم الواحد في المراكز والعزب والنجوع ومرورا بستة مؤتمرات لأدباء شرق وغرب وشمال وجنوب.. بالاضافة إلي مؤتمرات في المسرح والفن التشكيلي وربما مؤتمرات في فروع أخري.. ومفردات كل مؤتمر شنطة ابحاث وربما أكلة جمبري ..خاصة لوعقد المؤتمر في مدينة ساحلية .. وصخب اعلامي في جلسات الافتتاح والختام.. وقاعات خاوية فيما بين الافتتاح والختام ..! "وهذا ما أشار إليه الشاعر سعد عبدالرحمن رئيس الهيئة خلال افتتاح مؤتمر أدباء إقليم القناة وسيناء الذي استضافته الاسماعيلية الشهر الماضي ..حين طالب الاعلاميين بألا يقتصر تركيزهم في المؤتمرات علي جلسات الافتتاح فقط" أخيرا.. توصيات يكنس أوراقها العمال وهم ينظفون المكان عقب انتهاء المؤتمر..والمحصلة النهائية ملايين الجنيهات من أموال الشعب تهدر بسفه فيما لاجدوي منه!.. وطبقا لما ورد في مجلة محيط علي لسان الفنان التشكيلي محمد عبلة فقد تم إيقاف مؤتمر الفنون التشكيلية الأول الذي أقيم في عهد الرئيس السابق للهيئة أحمد نوار بعد اكتشاف مخالفات مالية كبيرة منها إعادة طباعة كتاب المؤتمر والذي تكلف 120 ألف جنيه - بحجة سرعة نفاده! ومع ذلك يشكو بعض المثقفين من أن نصيب المواطن المصري من ميزانية الثقافة 35 قرشا فقط في السنة ..ورغم هذا فقروش الثقافة القليلة تلك تهدر فيما لاجدوي منه ..بل إن الكثير من هذه المؤتمرات كما يقول الشاعر الصديق شعبان يوسف خلال محادثة هاتفية حول همومنا الثقافية يقام لمجرد أن ثمة بندا خصص سلفا في الميزانية للمؤتمر ..وبالتالي ينبغي ان يقام ..أما مسألة هدف المؤتمر وعنوانه والمشاركون فهذه أمور يجري تدبيرها فيما بعد ..واختيار المشاركين بل والمكرمين يأتي علي أساس المجاملة ..سبوبة يتيحها رئيس المؤتمر لأصدقائه وأحبائه .. مؤتمرات " واشمعني أنا " خارج جغرافية الهيئة العامة لقصور الثقافة ..ثمة جهات عديدة مدمنة مؤتمرات ..المجلس الأعلي للثقافة .. وكليات الأداب بالجامعات .. ومكتبة الإسكندرية ..وأن كانت مؤتمراتها أكثر تحديدا لأهدافها ..وأخيرا نادي القصة الذي نظم مؤتمرين يفتقدان إلي أي دافع حقيقي لعقدهما إلا "واشمعني أنا" ..وهو الدافع الذي كان أيضا وراء تنظيم المجلس الأعلي للثقافة مؤتمرات دورية للشعر والقصة القصيرة والترجمة. كما نعرف في عام 2002 انطلق الملتقي الأول للرواية مصحوبا بصخب اعلامي .. أما الملتقي الثاني فليس من السهل أن يسقط من الذاكرة العربية ..انه الملتقي الزلزال كما وصفته حين ذاك في صحيفة القاهرة..حيث صعد الروائي الكبير صنع الله ابراهيم إلي المنصة عقب اعلان فوزه بجائزة الرواية معلنا رفضه للجائزة لتهتز جدران شارع الثقافة في العالم العربي جدلا بين مؤيد ومعارض ! وعقب الملتقي الثالث الذي نظم عام 2006 وفاز بجائزته الراحل الكبير الطيب صالح بدأ الشعراء يجهرون بالشكوي : ولم الرواية وحدها التي يجري الاحتفاء بها ؟ وكللت مساعيهم بتنظيم ملتقي للشعر في عام 2007 ..واذا بكتّاب القصة القصيرة أيضا يجهرون بالشكوي : ونحن ..ألا يحق لنا أن يكون لنا أيضا ملتقي ؟ ونجح لوبي القصة القصيرة في دفع المجلس الأعلي إلي تنظيم ملتقي لهم وأيضا توج بجائزة منحت للكاتب السوري الكبير زكريا تامر ..! إذا بأرباب الترجمة في العالم العربي تدفعهم الغيرة إلي ممارسة ضغوطهم ليحظوا بمؤتمر وكان لهم ما أرادوا! عناوين هلامية أما عناوين المؤتمرات فلاشيء منها يبقي في الذاكرة ..لأنها عناوين هلامية وغامضة ..وليس مؤتمر اتحاد الكتاب المزمع عقده هذا الشهر متفردا في عنوانه بكلمة "تحديات". في ديسمبر من العام الماضي نظم المجلس الأعلي للثقافة مؤتمرا تحت لافتة "الكاتب الأفريقي وتحديات العصر" وفي مايو عام 2010 نظم إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي مؤتمره الإقليمي الأدبي الحادي عشر بعنوان "التحديات المعاصرة في شعر الإقليم"! أظن أن نصف مؤتمراتنا الثقافية خلال السنوات العشر الأخيرة لم تخل عناوينها من هذه الكلمة "التحديات "علي شاكلة الابداع وتحديات العولمة.. الثقافة وتحديات الألفية الثالثة ..الأدب وتحديات العصر! اللغة العربية وتحديات العصر..! الترجمة وتحديات العصر وكما نري عناوين فضفاضة لاتنم عن جدية منظمي المؤتمر لبحث قضية ما .. فهل يبدو مقنعا تخصيص مئة أو مئتي ألف جنيه أو حتي 50 ألفا لتنظيم مؤتمر لبحث التحديات المعاصرة في شعر الاقليم " ..! ولا أدري ما الذي يقصدونه بعبارة التحديات المعاصرة "..فعباءة المعاصرة قد تشمل القرون الخمسة أو الستة الأخيرة ..اي مع موار عصر النهضة ثم عصر التنوير في أوروبا..فهل يمكن ان نلملم التحديات التي طفحت بها هذه الفترة وتهدد مثلا اللغة العربية ..في مؤتمر لمدة يومين أو ثلاثة تحت لافتة " اللغة العربية وتحديات العصر " .. ! وحتي لو اختزلت عباءة المعاصرة إلي نصف قرن فقط ..فخلال العقود الخمسة الأخيرة انتشرت في عالمنا العربي ظاهرة التعليم الأجنبي والتوسع في تدريس اللغات الأجنبية في المرحلة الابتدائية بل وما قبلها ..والاحتفاء بالعامية في أجهزة الاعلام الحديثة .. والانفجار العلمي والتكنولوجي الهائل والذي يتناثر مصطلحات بلغات المنشأ تغزو ألسنتنا لنتداولها بدون وعي ..وثورة المعلوماتية وماطفحت به من ركاكة في الحوارات علي مواقع التواصل الاجتماعي .. وولع رجال الأعمال والتجار وحتي الحرفيين بالمصطلحات الأجنبية من كوافير عباسكو إلي بوتيك ام السعد و سوبر مارك أبو دراع .. إلي هايبر محمد سكلانة ومول كيدالنسا!! وكلها تحديات هائلة تهدد لغتنا ..فهل نكون جادين في مواجهتها حين نحشدها في مؤتمر من عدة جلسات تحت لافتة " اللغة العربية وتحديات العصر"! هل يعقل؟! "كأنه سوق وليس مؤتمرا للرواية" عبارة رددها الناقد الكبير الدكتور محمد عبد المطلب في ذهول وهو يتابع علي مدار أربعة أيام مؤتمر الرواية الخامس الذي عقد اواخر العام الماضي و شارك فيه ثلاثمائة باحث ..أي بمعدل 75 بحثا في اليوم الواحد .. فاذا كانت خمس جلسات تعقد كل يوم ..وكل جلسة تستغرق ساعتين.. فيتعين علي المشاركين مناقشة ما يقرب من ثمانية أبحاث في الساعة الواحدة. هل يعقل؟! ليس سؤالي وحدي ..يقينا سؤال كثيرين في الشارع الثقافي .. وهو مفتتح لسؤال آخر: ما هي الجدوي من تنظيم مثل هذه المؤتمرات ! كما نوهت في مقال سابق علينا أن نفرق بين الندوة والمؤتمر ..الندوة قد تنظم لرصد حالة أوظاهرة ..مثل الواقعية السحرية في الرواية العربية أو ظاهرة المسرواية في الإبداع العربي.. وهكذا.. فالندوات تقوم بدور المرصد لظواهر أو حالات ليست بالضرورة سلبية.. ولا مانع من أن تنتهي بتوصيات ..أما المؤتمر فلا ينبغي أن ينظم إلا تحت وطأة مشكلة ما في حاجة إلي تشخيصها وادراك أبعادها ومخاطرها والبحث عن السبيل الأمثل لمواجهتها ..وبالتالي يتعين أولا تحديد الهدف من تنظيم المؤتمر ..ومن الهدف ينبثق عنوان واضح ومعبر بدقة عن هذا الهدف ينظم تحت لافتته المؤتمر..نموذجا .. ظاهرة انقراض القاريء بشكل عام ..والتي لاتهدد الإبداع فقط ..بل كل أحلامنا بتحديث الدماغ العربي ليكون القاطرة التي تقود المشروع التنموي القومي الذي يضع الأمة في قلب الخريطة الحضارية للقرن الواحد والعشرين ..!فلا يمكن تحديث الدماغ المصري بدون كتاب وقاريء ..أليس هذا بالمأزق التاريخي الجدير بأن تنظم حوله العديد من المؤتمرات! أحدها مثلا يبحث دور النظام التعليمي في تأجيج شهوة القراءة .. وثان عن دور التليفزيون ..وثالث عن دورالصحافة ..ورابع عن الوسيط الثقافي ممثلا في وزارة الثقافة وهيئاتها .. وكل مؤتمر يعد له جيدا من حيث تحديد المشاركين فيه من أهل الاختصاص ومنحهم مايكفي من الوقت ليعدوا أبحاثهم التي تجذر المشكلة وتشخصها وتحدد الخيارات المتاحة لمواجهتها ..علي أن تشكل لجنة مراقبة من قبل رموز ثقافية وتحت إشراف جهة سيادية مثل مجلس الوزراء لمتابعة تنفيذ هذه التوصيات ..! بل وتمنح فترة لتنفيذ التوصيات ..ومساءلة المسئولين علي مالم يتم تنفيذه ! وعودة إلي مؤتمر اتحاد الكتاب الذي عقد تحت تلك اللافتة الهلامية "الثقافة وتحديات التغير" .. فلاأدري ما يعنونه بالثقافة ..ان كان المعني حزمة القيم التي ينبغي أن تجسد في سلوكيات وعادات وتقاليد ايجابية من أجل تحديث المجتمع.. فرغم بساطة التعريف.. فالتحديات كثيرة. أبرزها هذا المد الجاهلي الذي لايقبل بأقل من الارتداد بمصر إلي ما قبل التقويم الهجري ..خيمة في صحراء الربع الخالي ..ومقاومته ليس بالمهمة السهلة وقد ضرب بجذوره في القاع المصري .. وأمامنا الأمية ..فكيف يجري تحديث الدماغ المصري ..وبيننا ما يقرب من ثلاثين مليونا لايعرفون القراءة والكتابة ..ثم ثقافة التسول التي استشرت ..واستسهال الحصول علي المال من خلال مهن طفيلية بدلا من العمل الجاد ..وغياب روح العمل التطوعي والجماعي ..وانتشار الفكر الخرافي والشعوذة ..حتي بين المتعلمين .. تحديات كثيرة تمثل ثقافة مناوئة لثقافة التنوير - قيما وسلوكا وعادات - التي ننشدها ..وكل تحد منها في حاجة إلي أكاديمية لدراسته وتشخيصه وايجاد الحلول .. وتطبيق هذه الحلول ..وبالتالي من السخف أن أحشد هذه التحديات في مؤتمر لمدة يومين تستهلك ميزانيته في احتفائيات الافتتاح ومكافأة باحثين علي أبحاث مستهلكة أو لا تمت بصلة للافتة المؤتمر .. بل إنه خلال تلك الجلسة التي نوقشت فيها قضايا مؤسسات المجتمع المدني أثارالكاتب نبيل عبد الحميد رئيس مجلس ادارة نادي القصة والروائية نجلاء محرم قضيتين بالغتي الأهمية .. الأولي تتعلق بأنيميا المال التي تعانيها المؤسسات الثقافية - نادي القصة علي سبيل المثال - والثانية حالة العزلة التي تواجه هذه المؤسسات ..حيث تبدو كل مؤسسة وكأنها جزيرة منعزلة انقطعت بها السبل بالمؤسسات الأخري - مؤسسة نجلاء محرم نموذجا - وكل قضية من هاتين القضيتين في حاجة إلي مؤتمر قائم بذاته ينعقد تحت عنوان واضح ..وتشارك فيه الجهات المعنية وتوضع توصياته تحت عين جهة سيادية للتأكد من تنفيذها .. فمثلا مؤتمر حول تمويل المؤسسات الثقافية .. ينبغي أن نكف عن مد أيدينا للدولة ورجال الأعمال. كما يقول المثل الإنجليزي من يدفع للزمار يعزف له أعذب الألحان ..فأي مؤسسة ثقافية لن تقوي علي مواجهة ممول أن رأت في سلوكه اعوجاجا ..وقد تقدمت باقتراح أن يأتي التمويل من قبل الجامعات والمدارس الخاصة ..فاضافة مائة جنيه لدعم الثقافة علي الرسوم الدراسية التي تتراوح مابين 4 ألاف إلي مائة ألف لكل طالب لن يمثل مشكلة ..خاصة أن هؤلاء الطلاب هم - أو يفترض هذا - مستفيدون من المنتج الثقافي ..ويضاف إلي هذا ما قاله الناقد القاص سيد الوكيل عن الدعم الذي تقدمه مؤسسات دولية للثقافة ..بشرط أن تكون غير مسيسة .. وتأطير هذا المقترح في خطط واجراءات في حاجة إلي مؤتمر ينظمه مثلا اتحاد الكتاب وتشارك فيه وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي ..ليكونا الجهتين المشرفتين علي تنفيذ التوصيات.. لكن ثمة قضية أراها ملحة الآن.. ويتعين علي الاتحاد سرعة تنظيم مؤتمر حولها .. عنوانه "هل نحن في حاجة إلي خمسين مؤتمرا ثقافيا كل عام ..!"