من الأمور المضحكة المبكية في واقعنا المصري تعليق أحد الكتاب في صحيفة يومية مستقلة علي دعوة وزير الثقافة لتنظيم مؤتمر للمثقفين بأنها نكتة ..! فان كانت ثمة نكتة فهي ألا يعقد هذا المؤتمر! ..واني أسأل الوزير الفنان فاروق حسني : لماذا لم يعقد مثل هذا المؤتمر من سنوات؟ ..بل أليست تلك الكوارث التي يشهدها قاع المجتمع المصري من تفشي ثقافة التغييب وانتشار فقه الفتنة وتشطير مصر التي عاشت ألف وأربعمائة عام أنا واحدة الي أنا وآخرعدو لدود بسبب غياب الفكر المستنير..تلك الكوارث ألا تستدعي تنظيم مؤتمر دوري للمثقفين كل عامين أو ثلاثة؟ بل مؤتمر لمصر المهددة ! وفي البيان الصادر عن وزارةالثقافة والذي دعا المثقفين المصريين بكل أطيافهم الفكرية الي رسم صورة جديدة لسياسة مصر الثقافية خلال العقدين المقبلين قال الوزير ان المؤتمر للمثقفين وليس لوزارة الثقافة ..! وكمواطن مصري أقول له .. بل مؤتمر لمصرالمهددة ..لانقاذ قاع مصر الذي تحول الي حقل ألغام من الأفكار المثيرة للرعب ..فما نريده مؤتمرا ينتهي برؤية واضحة لمواجهة حالة انفصام الشخصية التي يعاني منها الشارع المصري ..فالمساجد تفيض بالمصلين علي الشوارع والحارات ..والمصالح الحكومية يتوقف العمل بها ان أذن الظهر وويل لأي مواطن ان أبدي تذمره من الانتظار الي أن ينتهي الموظفون من صلاة الفرض والسنة والدعاء والتسبيح ..واللحي تتدلي حتي الصدور..تخفي ملامح الوجه ..وكأنها المعادل الموضوعي لنقاب النساء ..والجلاليب تختزل الي ماتحت الركبة بقليل.. والليل تستحله أبواق المآذن لترفع أذان الفجر الكاذب والصادق والصلاة .. وويل للمرضي والمرهقين ان اشتكوا ..فبشكواهم تلك يقدمون الأدلة علي كفرهم .. وفي المقابل ..الفساد يتفشي للركب! ..هذا الانفصام الكارثي أليس جديرا بأن يحتشد المثقفون من أجل معرفة أسبابه وصياغة روشتة لعلاجه ! التدين الزائف ظاهرة التدين الزائف مانمت واستفحلت الا بسبب تهميش دور المثقف الحقيقي ..وأعني بالمثقف الحقيقي كل صاحب بصيرة نافذة تعينه علي ادراك أبعاد أهمية مكنوزالماضي..أهمية ما لدي الآخر بلا تهوين أو تهويل في رسم خرائط مستقبل مصر.. ولدينا العشرات من هؤلاء المستنيرين ..مفكرين وأدباء واعلاميين ورجال دين ..منذ عدة أيام التقيت بالدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف ..وسألته عن ولاية القبطي أو المرأة ..فقال لو كانت تلك ارادة الأمة فما المانع أن يكون رئيس الجمهورية قبطيا أو أن تتولي المرأة ارفع المناصب ..! وارادة الأمة التي يعنيها شيخنا الجليل تلك التي تتحقق عبر صناديق الاقتراع ..! رجل ينتمي الي المؤسسة الرسمية المتهمة بالجمود يقول هذا..! ومثله العشرات .. بل المئات من رجال الدين المستنيرين سواء داخل المؤسسة الرسمية أو خارجها الذين يقرأون الدين " صح " ..! لكن صوت الشيخ سالم وهؤلاء محجوب عن قاع مصر..ومثله مثل الاعلاميين المستنيرين الذين حاولوا أن يقولوا خلال أزمة تصفيات المونديال للشارعين المصري والجزائري ..انها مجرد مباراة كرة قدم لاينبغي أن ندعها تتسبب في حرب بين بلدين شقيقين ..لكن جنرالات الفضائيات هنا والشروق هناك كان لهم الغلبة في الشارعين المصري والجزائري ..وروج هؤلاء الاعلاميون السفهاء صورة شديدة التسطيح والتفاهة للمنتمي ..أنه هذا الذي يلبي نداء الوطن كلما أقيمت مباراة في كرة القدم فخرج الي الاستاد والشوارع ملوحا بعلم بلاده ..مرددا الأناشيد الوطنية ..هاتفا بأسماء لاعبين ومدربين باعتبارهم أبطالا قوميين وتاريخيين ينبغي أن تنصب لهم التماثيل في الشوارع ..! أليست هاتان الظاهرتان ..التدين المزيف والانتماء المسطح في حاجة الي أن يعبيء المثقفون قواهم لمواجهتهما ..!! وثمة أكثر من أمر خطير يستدعي انعقاد المؤتمر .. من خلال الكتابات التي ظهرت في الصحف يعيب البعض علي الوزير أن جدول أعماله المقترح للمؤتمر هو برنامجه الذي تقدم به لليونسكو خلال ترشحه لمنصب مدير عام المنظمة ..ورغم أن الوزير قال ان الفرصة متاحة للمثقفين خلال المؤتمر لطرح كل ما يرونه متعلقا بمستقبل الثقافة والمثقفين ..الا أنه علينا أن نتعامل مع الأمر بصراحة أكثر ونذكر أن أحد أهم بنود برنامج فاروق حسني خلال معركة اليونسكو هو تعميق مشاعر التسامح الديني ..! أليس هذا ما نحتاجه لانقاذ مصر من الفتنة الطائفية المفتعلة في الكثير من جوانبها..فان لم يجتمع المثقفون لأمر مهم مثل هذا فعن أي شيء يجتمعون ! هل غابت مصر ؟ شاعرنا الكبير أحمد عبد المعطي حجازي يري أننا بالفعل في حاجة الي المؤتمر لبحث تراجع الدور الثقافي المصري عربيا ودوليا ..فهل تراجع دورمصر الثقافة علي الساحتين العربية والدولية؟ ..لا أظن ..فما زالت الهيمنة في المعارض العربية للكتاب المصري .. ومازال الناشرون المصريون هم الأكثر نشر لكتاب العربي والمترجم وانتشارا .. ومازالت الهيئة العامة للكتاب هي أكبر دار لنشر الكتاب العربي في العالم ..ومازال المبدعون المصريون الأكثر انتاجا ومشاركة في المسابقات الاقليمية واستحواذا علي جوائزها " خلال ندوة نظمت في نادي القصة الكاتب عبد الفتاح صبري أحد المشرفين علي مسابقة الشارقة للابداع العربي أن ثلث المشاركين في المسابقة مصريون ..وثلث الجوائز أيضا يقتنصها مبدعون مصريون " .. مازلنا حاضرين وبقوة ..بل إن معركة اليونسكو تقدم دليلا قويا علي حضورنا الثقافي العالمي ..هل خسرت مصر منصب مدير عام المنظمة الدولية ..؟ لكن بعد أربع جولات في حرب غير نظيفة.. واجهنا فيها خصوما شرسين ..اللوبي اليهودي في الغرب والذي يعد أقوي جماعة ضغط في العالم .. التراجع في الداخل مشكلة الثقافة المصرية ليس في تراجعها عربيا وعالميا ..بل تراجعها مصريا..من يمسك بتلابيب الشارع المصري الآن ..مشايخ التكفيرالذين يحاولون تسويق الله كمدرس ابتدائي معقد ..بيانات رقمه القومي التي يقدم بها نفسه لتلاميذه فلقة وعصا طولها نصف متر.. واعلاميون مسطحون يشكلون العقل المصري من خلال كليب لمطربة اغراء أو ماتش كورة ..! ويبدو أن الكاتب الكبير محمد سلماوي قد أدرك خطورة انزواء المثقف الحقيقي ..ومنذ توليه مقاليد الأمور في الاتحادين المصري والعربي وهو يكابد ليعيد المثقف الي الساحة .. وأظنه نجح في تقوية أجهزة استشعار الاتحادين لترصد هموم الأمة ..لكن ماذا بعد الرصد ..لاشيء سوي مؤتمرات حاشدة تطلق فيها البيانات الحماسية ..وهذا أضعف الايمان ..ولاأظن أن درجات أخري من الايمان متاحة أمام محمد سلماوي واتحاده في ظل الواقع السائد ولم يلجأ اليها..! الا أنه في ظل تجييش المثقفين من خلال مؤتمر عام دوري يمكن أن يصل ايمان المثقف بدوره مستوي أعمق من هذا بكثير.. الا أن هذا الدور لايمكن أن يتحقق دون البحث عن الأسباب التي أدت الي حجب كلمة المثقف عن قاع المجتمع .. ليضعف الجهاز المناعي للمصريين ويصبحون فريسة سهلة لفيروسات الجمود والانغلاق والتكفير. ان بعض كتابنا ومثقفينا لايكفون عن التفاخر باصداراتهم الخمسين والستين والجوائزالتي حصلوا عليها والأوسمة التي علقت علي صدورهم ..انهم سكاري بكؤوس الشهرة والجوائز والاصدارات الغزيرة ..ولو دققوا لأدركوا أنهم في النهاية مثقفو مؤسسات ..وكل شهرتهم لاتتجاوز المؤسسة ..المؤسسة التي تتبني والمؤسسة التي تنشر والمؤسسة التي تمنح الجوائز..ولا أحد خارج تلك المؤسسات يشعر بهم..فكيف يؤدون دورهم في انقاذ الشارع المصري والشارع المصري لايعرفهم ؟ أيعزي ذلك الي انقراض الرأي ..ان كان الأمر كذلك فليتصدر هذا البند جدول أعمال المؤتمر ..اعادة تخليق القارئ..فحين يقرأ القاع لجابر عصفور وحسن حنفي والسيد ياسين وكل أصحاب الفكر المستنير في الأمة ..عندئذ يمكن القول إننا وضعنا أقدامنا علي الطريق الصحيح لانقاذ مصر من الكفراتية.