لم يحسم الجدل المثار حول شخصية "ابن عروس"، هل هو شخصية خيالية أبدعها روح الخيال الشعبي،أم شخصية واقعية يحيطها الغموض؟ وهي في أحيان لغز مغلق، حتي حول مولده ونشأته، فهناك من قال إنه تونسي، وهناك من قال إنه مصري من قري صعيد مصر تحديدا من قوص أو قفط . هل هو أحمد بن عروس، أم محمود بن عروس؟ هل هو لص وقاطع طريق، أم هو ولي متصوف؟ شخصية مازال يلفها الغموض، تحاك حولها حكايات يصعب تصديقها أحيانا، هل هو شخصية هلامية تجمع بين ماهو أسطوري وماهو خيالي وواقعي؟ كان أحدث الكتب التي تناولت شخصية ابن عروس وأشعاره هو كتاب "محمود الهندي" الذي أصدرته هيئة قصور الثقافة. لا توجد كتب أو مراجع تناولت سيرة ابن عروس باستفاضة، اللهم إلا كتيب هزيل لا يتعدي صفحاته عدة أوراق صغيرة بها أشعاره،وبعض أشعاره في الذاكرة الشعبية، حكايات صغيرة أقرب إلي نوادر الوجدان الشعبي، إلي جانب نتف متناثرة في صفحات كتب المتصوفين وكتب تناولت الأدب الشعبي، أما كتب التاريخ وموسوعات الأعلام كانت مازالت تحمل وجهة النظر الرسمية، ليس فيها مكان لذعر والشطار والعيارين، وابن عروس واحد من هؤلاء. تأرجحت غالبية القصص حول شخصية ابن عروس في مصر وتونس، إنه ولد ونشأ في قري صعيد مصرلأبوين فقيرين،لم يظهر له ميل إلي الاشتغال بأي مهنة أو حرفة، لذلك نشأ عاطلا مهملا حتي شب وكبر،فتي متين البنيان،ما لبث أن صار زعيما لأخطرعصابة من قطّاع الطرق، لمّا تاب الله عليه، ارتدي خرقة المتصوفة، تجول بين القري والنجوع وفي ربوع مصر وشتي البلدان العربية، عاش حياته زاهدا تقيا، يجوب الآفاق، وينشد أشعارا ذات صبغة وعظية، ومازالت تتلي علي أفواه الفلاحين في الصعيد علي مجالس السمر وحلقات الذكر، دون أن يلتفتوا بالاً أن مُنشد هذه العظات، كان قاطع طريق يسلب الأموال ويسطو علي الناس ويروع أمنهم وظل ابن عروس خارجا علي القانون ثلاثين عاما. كانت إدارة الحكم في عهد ابن عروس، قد أصابها الضعف وتغلغل فيها الفساد وسادها الفوضي، فوجد ابن عروس وأعوانه مجالا خصبا للسعي في البلاد والسطو علي القري الآمنة وفرض الاتاوات، حتي أصبح كأنه حاكم مُسلط تُرسل إليه الهدايا من جهات بعيدة في الوجه البحري والقبلي، استدرارا لعطفه وطلبا لمودته وسعيا لطلب نجدته عندما تقتضي الحاجة. فلما بلغ الستين، رأي ابن عروس شمس حياته تؤذن بالأفول، عافت نفسه المعاصي، فتاب إلي الله، ووزع أمواله علي الفقراء، وانغمس في حياة الزهد، وانطلق في البلاد يرسل حكمه ومواعظه للناس في نمط زجل انفرد به مستمدا من تجاربه في الحياة وخبرته بالناس، يدعو إلي الفضيلة ومكارم الأخلاق، حتي مات وقد تجاوز الثمانين. علي جانب آخر ينكر آخرون أن ابن عروس عاش في مصر في الزمن الذي حدده رواة سيرته في آواخر عصر العثمانيين،قبل مجيء الحملة الفرنسية علي مصر، فيري البعض أن ابن عروس أمضي شطراً كبيراً من حياته في هذه الفترة، ويرجع البعض أن ابن عروس ينتمي إلي قبائل الهوارة في الصعيد ورجحوا انتشار أشعاره وحكمه في شتي البقاع راجعاً إلي نفوذ قبيلته وسطوة زعيمها "همام الهواري" الملقب بأمير الصعيد. يرجح البعض أن تسميته بابن عروس راجع إلي جده"عبد القادر"الذي لم يمكث مع جدته في ليلة عرسها إلا ساعة ثم فارقها،لم يظهر له خبر، فلما أنجب "عبد الدايم" ابنه وشب عن الطوق عرف بابن عروس. في حين يري البعض أن ابن عروس ولد في تونس بقرية "المزاتين"بوادي الرمل، وظهر عليه الجذب منذ صغره، كان أهل قريته ينادونه ب "المرابط"، وانتقل ابن عروس إلي تونس العاصمة قبل البلوغ، ثم انتقل إلي المغرب، وتجول في مدنها، فأس ومراكش، وعاد إلي تونس ليسكن زاوية صغيرة، وأشتغل فترة من حياته بنشر الخشب وتخصص في تجارة المحاريث،ثم تفرغ للعبادة، واجتمع حوله المريدون من كل صوب وحدب،وأقام له السلطان زاوية يجتمع فيها مع مريديه. سمي ابن عروس كذلك بأبي الصرائر،لأنه كان يحمل الصرر الثقيلة ويمر بها في دروب تونس وأزقتها إذلالاً لجسده وتقويما لشهوة نفسه وتكفيرا عن ذنوبه،كان يعلق العدد علي طرفي خشبة ويحملها دون كلل. تناول كثيرون في إحصاء كرامات ابن عروس التي يصعب حصرها من كراماته: أن الطيور الجارحة تقف عليه وتأكل من يديه، كان يجمع عنده عددا وافرا من الفقراء ويمد يده في الهواء فيحضر لهم ما يكفيهم من القوت،وكان يركب الأسد ويتعمم بالثعابين، كما يحكون عنه. من مناقبه أن الطير لا تفر منه بل تنزل عليه،وكان يعرف كلامها وكان يحمل علي ظهره مايزيد علي عشرة قناطير من الحديد وينقل علي عاتقه نخلة كاملة، وينظر إلي الأقفال ويأمرها أن تفتح بلا مفاتيح، ونسب إليه، بعد وفاته، أنه تكلم وهو ميت محمول علي النعش. ويروون أن الحاكم أرسل إليه جماعة ليقبضوا عليه،فلما اقتربوا منه أمر الأرض أن تبتلعهم، كما أحرق جماعة من بني هلال أرادت الإمساك به، ويروي عن ابن عروس انه إذا اغتاظ من شيء يقف شعره ويخرج من قميصه، وكان يزاحم أعداءه فيغلبهم ولا يؤثر فيه ضرب الحديد والرصاص والرماح. أن الشخصية المصرية، كما يقول محمود الهندي في دراسته عن ابن عروس، شخصية عربية ذات ذاكرة ثقافية تاريخية تحتفظ بما مر عليها، ونجد العديد من القيم والسلوك والآداب الاجتماعية، ان استعراض المفاهيم والمضامين الكامنة في مربعات "ابن عروس" التي استنتج الباحث منها أن المربعات تستهل بتفريغ النفس وطلب المغفرة بعدما تاب وتتحدث المربعات، أيضا،عن الغناء وزوال الجاه والسلطان والعواقب الوخيمة التي تترتب علي البغي والتمسك بأمور الدنيا التافهة،ولاحظ "محمود الهندي"أن أغلب ما تناوله ابن عروس ليس بجديد، فكلها دعاوي قديمة عرفها الانسان المصري منذ القدم، لأنها عناصر ثقافية وإنسانية وسلوكية مشتركة للبشر، بقيت بصيغها القديمة واستمرت علي مر العصور، رغم التغيرات التي طرأت علي المناخ الاجتماعي والثقافي، اذا أمعنا النظر كما يقول الباحث في جذور ابن عروس لوجدنا اتصالا وثيقا بالماضي السحيق الذي يضرب أعماق التاريخ المصري منذ القدم، وتتبع الباحث تلك الجذور بمقارنة حكم وأمثال وأشعار ابن عروس بأشعار وأمثال مصرية قديمة تتوحد بقدر كبير من التقارب والتطابق.