في أوائل ستينات القرن الماضي، ظهر جيل جديد من الكتاب والأدباء، لايخفي عداءه للجيل السابق، بل وتمني له الموت كي يأخذ مكانه أومكانته!! حتي ان أحدهم صرح في أكثر من مناسبة، ان هؤلاء الكبار يقفون ضد تحققه وانتشاره، ورأوا في يوسف إدريس وتوفيق الحكيم، وعبد الرحمن الشرقاوي وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وغيرهم تهديداً مباشراً لإنتشارهم، وتفردهم، ثم ظهر من يعلن علي الملأ انهم: ( جيل بلا أساتذة)، وهو مايعني :عدم اعترافه بأي فضل للأجيال السابقة مشيرًا- في ذلك- لعدة تغيرات فعلية حدثت للواقع من حوله، لعل أوضحها مالحق بالحالة الثقافية والاجتماعية والسياسية ، لاسيما بعد أن خسرت الأمة العربية معركتها الثالثة - يونية 67 - وما تلاها من أحداث وتداعيات غير أن هذه (البداية الحرجة) مالبثت أن كشفت عن أنيابها ومخالبها في وجه كل من حاول الاقتراب منها أو مشاركتها في أي سلطة ،لاسيما حين تحالفت مع السلطة السياسية، فتفردت بجل المنابر، وفرضت سطوتها علي غيرها من أجيال، ومارست القمع والإقصاء بنفس آليات القمع الحكومية والحق أن هذه الممارسات، لم تقتصر علي الأدب وحده،أو الأدباء والكتاب وحدهم، وإنما امتدت لتشمل ُجل مجالات الثقافة والاجتماع والسياسة والإدارة، في تجل لافت للفساد، والاستئثار!! وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك علي مفردات الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وأن تضع يدنا علي الأحداث التي لحقت بأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية،من رفض وتمرد ودعوة للتغيير،مالبث أن انعكس علي واقعنا العربي - بعد هزيمة يونية67- فبتنا نسمع من يدعو للتغيير والفكر الجديد، ويطالب بالأغنية الجديدة ،والسينما الجديدة،والأدب الجديد الخ.. أماعلي المستوي السياسي والعلمي والاجتماعي، فقد نشطت بعض الفئات والجماعات السياسية والنقابية والطلابية التي تمردت علي سلطة الأب، وقدمت نفسها في عدة صور أوضحها مظاهرات الطلبة -68- وإضرابات العمال والعاملين الخ..كبديل وحيد، كما ظهر من قدم نفسه كبديل وحيد،وأعلن صراحة: ضرورة العودة للجذور، دون أن تكون لديه أي رؤية واضحة لآليات وأولويات تلك العودة ،وما إذا كانت التربة صالحة لذلك أم لا! و الحق أن هذا الجيل المتمرد، الذي ُسمي فيما بعد بجيل الستينات قد صنعته الأحداث، ولم يصنعها بنفسه، ومن ثم أفاد منها بكل تأكيد ، لكن مايهمنا في الأمر،أنه لم يضف الكثير لبنية النص السردي أو الشعري،ولم يبدأ بداية صفرية كما وعد ،بل ربما ساهم في تنفير ما كان يسمي بالقارئ العادي ،الذي اسسه وأوجده الجيل السابق ،لاسيما إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وغيرهم، كما نلاحظ أن أغلب هؤلاء كانوا من القصاصين لا الروائيين أو الشعراء، وهو ما يحتاج لاجتهادات علم الاجتماع الأدبي . لكن مايهمنا في هذا المقام هو أن هذا الجيل لم يحرص أيضاً علي التواصل مع القارئ العادي، أو يستكمل ما بدأه السابقون ،ومن ثم كان من الطبيعي أن يتهم بالغموض والاستعلاء، وأن يفقد رصيده- وظهيره -الاجتماعي،رغم كثرة المتعلمين، وزيادة عدد السكان. أما علي المستوي الأدبي فقد بات بإمكان الراصد أن يفك مرجعية أغلب فرسانه،وأن ويقف علي منطلقاتهم الفكرية والتقنية، ومن ثم يستطيع أن يحصرهم في مدارس ثلاث، أولها:المدرسة الواقعية بنوعيها أوالتسجيلية، ولا يتسع المجال هنا لرصد اسمائهم، وقد مزجت بين طبيعية (إميل زولا) وواقعية (مكسيم جوركي) وقد تمثل ذلك في عودة بعضهم للقرية أو مرحلة الطفولة الآمنة، ومنهم من تمركز حول ذاته أو تخيلاته، أو صمت، أو هاجر أو آثر السلامة وغير اتجاهه وثانيها: المدسة الاجتماعية بأجنحتها الثلاثة: الذاتية، والإستعارية، والإجتماعية، ولايتسع المجال أيضاً لشرحها ثم مدرسة الواقعية النقدية ما يهمنا منها جميعا انها تماست - أو تناصت- مع حيادية هيمنجواي، وتشاؤمية كافكا، وتمرد جون أسبورن، وذاتية - أو وجودية - كامو، وسيمون دي بوفوار وعبثية بيكيت ويونسكو وآداموف وبيطور وناتالي ساروت وجلهم فرنسيون أو يعيشون في فرنسا، ومن ثم يحار من يحاول أن يعرف كيف عبرت المتوسط بكل هذه السرعة إلي مصر، فظهرت في كتابات:محمد حافظ رجب، ويوسف القط، ومحمد الصاوي، ومحمود عوض عبد العال، وسيد حافظ وشفيق مقار ومحمدإبراهيم مبروك وغيرهم، في ظرف ثقافي واجتماعي و سياسي معاد للثقافة الأوروبية -ومنها الفرنسية - رغم أن اغلبهم لايعرفون اللغة الفرنسية - باستثناء محمد الصاوي وزهيرالشايب - مايهمنا في الأمر أن هذا الجيل الذي قتل أباه وتمرد علي أساتذته، هو نفسه من فرض سلطته وسطوته علي من أتي بعده من أجيال وتيارات، حيث شارك بدور لافت في تهميشه، كما لم تقف السلطات المتعاقبة علي مسافة واحدة من الجميع، ومن ثم احتكر كل السفريات والجوائز والمناصب والهيئات - من تعلم منهم، ومن لم يتعلم- لذلك لم نعد نسمع إلا عن:غزواتهم وفتوحاتهم وسفرياتهم، في إشارة لافتة الدلالةعلي حجم الفساد والأنانية ووصولهما لأبعد الآماد،قبل ثورة يناير وبعدها،لذلك بات علي من يراهن علي أي مكان بينهم أن يشرب من البحر،في ظل نظام قمعي بيروقراطي يبحث دائما عن شاعر واحد، ليكون أميراًعلي الشعراء ،وأديب واحد، ليكون أديبا علي الأدباء،حتي يقال برعايتها للفنون والآداب وهو مايجعلنا نعيد النظر فيمن كنا نراهن علي بصيرتهم وشفافيتهم،وحسهم الأخلاقي،ونضع الجميع علي المحك!! أما القول بانتهاء المواهب في مصر فهذه إهانة للثقافة المصرية، بوصفها ثقافة مركزية،عابرة للحدود،ومن مصلحتها ومصلحة منتجيها ومستهلكيها أن تقوم علي التعدد، والتنوع، والتناسب ،وأن تملك القدرة علي استيعاب كل التيارات ،ومن تخسره ككاتب قد تكسبه كقارئ ، خصما من رصيد التطرف،والجنوح الاجتماعي وتضاف لقواها الناعمة، ومن هنا يأتي دورالحكومة وقواهاالناعمة معاً، إن كنا نلتمس العذر لبعض الحكومات الجاهلة،بوصفها لا تريد ثقافة، ولا مثقفين، فماعذرالمبدعين:كتابًا ونقاداً ومثقفين؟! إن استمرارهذا الفراغ، هو في حقيقته تجريف ثقافي لايجب أن يؤجل حسمه معركتك المشروعة مع الفساد والمفسدين ،لاسيما وقد تشكل لدينا جيل كامل من المحبطين والمهمشين - السبعينيين- الذين تجاوز أغلبهم الستين، فهل يعقل أن يفتقر جيل كامل للموهبة؟وهل كل من عداهم عباقرة بحكم الولادة والضرورة؟ أم أن القضية في حقيقتها امتداد لمشكلة تداول السلطات في مصر؟! وهل الثقافة التي تضيق بمنتجيها وقواها الناعمة،تستطيع أن تستوعب الآخرين أو توصف بالمركزية؟! ماأستطيع تأكيده أن هذا: إهانة للقائل والسامع معا.. وناقوس خطر يجب أن ينتبه إليه الجميع،حتي لا نتصور أن شجرة واحدة تكفي لصنع غابة!