يدأت أكتشف الآن أن هناك أعمالا كثيرة يمكن أن نعيد النظر إليها من منظور مختلف طبقا لمتغيرات الواقع والظروف . وربما لم يشهد جيلي الذي أدركته الكهولة، تغييرات بحجم ما حدث بعد ثورة 25 يناير، وهي التي كشفت لنا عن أن تناول فنانينا للواقع الفاسد ورؤيتهم له في أفلامنا، بمختلف أنواعها ومستوياتها، اعتمد علي أساليب مختلفة ومبتكرة . وتضمن إشارات وملامح لم ننتبه لها . وربما لم تثر أفلام كثيرة بما تضمنته من ظواهر اهتمامنا بالقدر الذي تستحقه. من بين هذه الأفلام ( الطريق الدائري) للمخرج تامر عزت الذي شهدناه مؤخرا، كعرض ختامي في احتفالية جمعية الفيلم بأفلام الثورة . وكان قد سبق للفيلم أن شارك في مسابقة الأفلام العربية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي السابق. لم يحظ الفيلم باهتمام أوبمتابعة نقدية تتناسب مع جهود صناعه الجدد . فمن الواضح أن الفيلم يعد تجربة شبابية خالصة، ومغامرة جريئة من مجموعة من الفنانين الموهوبين. فتامر عزت يحقق من خلاله أول أعماله في مجال الفيلم الروائي الطويل مؤلفا ومخرجا، بعد خبرة طويلة في مجال المونتاج، ثم إخراج الأفلام التسجيلية التي حقق من خلالها نجاحا كبيرا خاصة بفيلم عنوانه ( مكان اسمه الوطن). صناعة شبابية يمثل ( الطريق الدائري ) أيضا البطولة المطلقة الأولي للفنان الشاب نضال الشافعي الذي عرفناه في دور سيد ميكروباص في مسلسل ( تامر وشوقية ) ثم توالت أدواره القصيرة المهمة في السينما في أفلام (الجزيرة) و(إبراهيم الأبيض ) و( الديلر ) وغيرها . وينضم لفريق الجدد في هذا الفيلم المنتج إيهاب أيوب في تجربته الأولي أيضا . فهل استطاع هذا الفريق الجديد أن يقدم سينما جديدة، وهل نجح صناعه بدمائهم الشابة في الخروج عن الأطر الضيقة والأساليب التقليدية للسينما المصرية ؟. اختيار الموضوع في حد ذاته يكشف عن جدية صانع الفيلم المخرج المؤلف . ويعبر عن اهتمامه وسعيه لكشف قضايا الفساد التي استشرت في الوطن . وانتماء تامر عزت إلي تيار السينما المستقلة بما حققته من موضوعات جريئة ينعكس في هذا الفيلم . بل إن انتقال صناع السينما المستقلة إلي مجال الفيلم الروائي قد كشف النقاب عن قضايا لم يكن للسينما التقليدية أن تتناولها بهذه الكثافة والجرأة . وإذا كان إبراهيم البطوط قد تناول في فيلمه «عين شمس» ظاهرة انتشار الأوبئة الناتجة عن فساد الأغذية والمزروعات كأحد محاوره الرئيسية، فإن تامر عزت يختار موضوعا جديدا وساخنا أيضا ليطرحه من خلال فيلمه كمحور وحيد لقضيته ، وهوالفساد في المجال الطبي وبالتحديد في علاج الفشل الكلوي . وهويحقق دراسة جيدة لموضوعه، بحكم خبرته في مجال السينما التسجيلية، فيلقي الضوء علي مافيا الإتجار والتلاعب بفلاتر غسيل الكلي . ويكشف عن هؤلاء الذين ينتفعون بدعم الدولة لمرضي هذا الوباء من مواطنين مزورين وسماسرة جشعين ومسئولين فاسدين . كما يلقي الضوء علي المخاطر الجسيمة والضحايا الذين يسقطون نتيجة لتحالف هذه الشبكة الملعونة . خدعتني امرأة يتمكن السيناريومن الدخول إلي الموضوع بأسلوب درامي وشيق . فالصحفي الشريف المغامر - نضال الشافعي - يدخل إلي هذا العالم عندما تقع ابنته ضحية لهذا المرض اللعين . فتمتزج الدوافع الشخصية في إنقاذ ابنته وحمايتها من الفلاتر الملوثة مع المصلحة العامة والدور الوطني والمسئولية الإعلامية، التي يحملها البطل علي عاتقه . ويتواصل الهجوم الحماسي والعنيف من الصحفي ضد زعيم هذه المافيا - عبد العزيز مخيون - بلا لين أوهوادة أو استراحة لالتقاط الأنفاس . وتفشل كل محاولات إسكاته ولكنه يقع ضحية لمؤامرة، يستخدم فيها خصومه امرأة - فرح - للإيقاع به وتصويره في أوضاع مشينة لمساومته وتخييره بين إيقاف حملته أوفضحه والتشهير به وتحطيم صورته وكسر مصداقيته . في بناء السيناريو يلجأ الكاتب المخرج إلي أسلوب تشويقي يعتمد علي البدء من أعلي نقطة خطر، حيث نري أحد أعوان الصحفي يلقي مصرعه في ظروف مريبة وغامضة في مشاهد الفيلم الأولي ، لتتوالي مشاهد من الحكاية بأسلوب الفلاش باك ولنتعرف علي خلفية البطل وحكايته . ينجح المخرج في اختيار زواياه بأسلوب جديد، يخرج عن الشكل المألوف للصورة ويضيف إلي طابعها التشويقي بما يخفيه من أجزاء وبتركيزه علي بعض التفاصيل . وجدير بالذكر أن الفيلم تم تصويره بكاميرا " ريد " وهي تجربة رائدة في هذا المجال حققها مدير التصوير الشاب أيضا شريف وهدان بامتياز، وبقدرة علي إظهار الصورة بمنتهي الإتقان والنقاء وقوة التأثير . والحقيقة أن أفلام الديجيتال والسينما المستقلة عموما قد منحت أفلامنا قدرا من التحرر . وكسرت من تقليدية الصورة وحرصها المبالغ فيه علي الوضوح والنقاء وضبط التكوين مع أن تشويهه المتعمد كثيرا ما يكون في صالح الدراما والتأثير البصري . مؤامرة مكشوفة وقد اعتمد شريف كثيرا علي أسلوب الكاميرا المحمولة، مع السيطرة الكاملة علي الضوء، مهما طال حجم اللقطة أو انتقلت من مكان إلي آخر . كما تتحقق مشاهد الفلاش باك بأسلوب مونتاجي مريح لا يؤدي إلي أي تشتيت . ولكن هذا الإحكام السينمائي لا يوازيه نفس القدر من الإحكام الدرامي . فالفيلم يفقد طابعه التشويقي في توقيت مبكر، وبالتحديد مع بداية ظهور فيدرا، حيث تنكشف المؤامرة التي تحاك حول البطل للإيقاع به في حبائلها نتيجة للمبالغة في أدائها وإخراج مشاهدها لإبعاد الشبهات عنها . علي الجانب الآخر تبدو سامية أسعد في دور الزوجة أكثر تماسكا في سيطرتها علي إنفعالاتها وفي أدائها لشخصية الأم التي أفقدها حزنها علي ابنتها طعم الحياة . كما أدي شعورها بخيانة زوجها إلي مزيد من الاكتئاب . تضيف سامية أسعد بهذا الدور إلي رصيدها وتكشف عن موهبة حقيقية وقدرة علي التلون إذا ما قارننا دورها وأداءها هنا بما قدمته في رسائل البحر من جوانب مختلفة تماما لشخصية كارلا، الإيطالية المقيمة في مصر والتي تنخرط في علاقة مثلية، تتسبب في إنهاء علاقتها بالبطل . يتميز حوار ( الطريق الدائري) في مواضع كثيرة بالذكاء والتميز في تركيبته ومفرداته غير المألوفة وهوفي الغالب حوار درامي ومعبر ومراوغ تماما كالشخصيات التي لا تكشف كلماتها عما يجيش في صدرها، ولكنها تتكامل مع مفردات الصورة والمواقف للتعبير عنها . وهوما يتحقق بشكل واضح في شخصية البطل بأزماته وتحولاته والذي يجتهد نضال الشافعي في التعبير عنها بالصمت والنظرات مع قليل من المفردات . والشخصية التي يلعبها نضال هي ليست فقط البطل المطلق ولكنها المعبرة في تحولاتها وانتكاستها عن الفكرة التي يسعي السيناريولطرحها. فهوليس البطل الشعبي القادر علي المواجهة والتحدي حتي النهاية لصالح قضيته . ولكنه البطل المنهك المهيأ للسقوط والذي لن يتمكن من مواصلة الصراع إلا من أجل اقتناص مبلغ يساعده علي إنقاذ ابنته وتأمين مستقبله . وهكذا يحمل الفيلم إدانة للواقع الذي ينكسر فيه الأبطال ويضطرون للسير في طرقه الدائرية ليحيدوا عن اتجاهاتهم المستقيمة . بطل مقهور فإذا كان شعار البطل عادة هو ما جدوي أن يكسب الإنسان العالم ويخسر نفسه، فإن بطلنا الجديد في (الطريق الدائري) يضطر لأن يرفع شعار : ما جدوي أن يتحدي الإنسان العالم ويخسر ولده، الذي يخيم عليه شبح الموت مع عجز الأب عن تدبيرنفقات العلاج . يحقق الفيلم هذه المقولة من خلال المقابلة الواضحة بين الصحفي بطل فيلم الطريق الدائري والصحفي بطل فيلم ( الغول )- عادل إمام - الذي يعرض الفيلم مشاهد منه . فالطريق الدائري لا يدين بطله ولكنه يدين واقعا عزت فيه البطولات . ويدين الفساد والمستغلين والظرف الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه البطل . والبطل بكل ما في حمله لهذه الصفة من تجاوز، يتمكن أخيرا من الحصول علي الكاميرا التي زرعها بدوره في مكتب رجل الأعمال، والتي تحتوي فيلما له يكشف عن صفقته مع أحد كبار المسئولين . حتي هذه المنطقة من الأحداث قد تصدمك بعض المواقف الضعيفة أوالأحداث غير المحبوكة ، ولكن المنطق يغيب أكثر عن المشاهد التالية، تلك التي يقتحم فيها الصحفي مكتب رجل الأعمال ويتمكن من تقييده ومساومته علي تسليمه الفيلم حتي يتمكن من إجباره علي تحويل مبلغ من المال لحسابه فورا عن طريق شبكة الإنترنت .. فهل سينجح في ذلك ؟ . كان صناع هذا الفيلم في طريقهم لتقديم فيلم جديد وجاد ولكن غياب المنطق وضعف تنفيذ مشاهد النهاية حاد بهم إلي طريق دائري . علي أي حال سيبقي هذا الفيلم، رغم نظرته المتشائمة وثيقة إدانة لنظام ما قبل الثورة وشهادة براءة للفيلم المصري، الذي لم يتجاهل قضية الإتجار والتلاعب بفلاتر غسيل الكلي في ظل نظام استباح لنفسه ولأتباعه اغتيال شعب بأكمله كان واقعا تحت الأسر ولم يتحقق له الإفراج إلا بفضل ثورة 25 يناير . ولولاها لأستمرت السينما تعكس إحباط صناعها ويأسهم من ظهور بطل حقيقي لا يسير في طريق دائري.