من المدهش حقا أن تكون إسرائيل الرابح الأكبر - فنيا وسياسيا - في الدورة الرابعة والستين لمهرجان "كان" السينمائي الدولي (11 - 22 مايو الحالي)، في عام الثورات العربية، وفي دورة اختارت مصر أول ضيف شرف للمهرجان العريق، لكن هذه هي الحقيقة للأسف الشديد.. غطت واقعة ذبح المخرج الدانماركي العالمي الكبير لارس فون ترير بسكين معاداة السامية، خلال المهرجان، علي الاحتفال بمصر في كل وسائل الإعلام الدولية.. كما شاركت إسرائيل في المسابقة الرسمية للمهرجان، وفازت بجائزة السيناريو، في الوقت الذي عرض فيه الفيلم المصري "صرخة نملة" علي "بلاج" المدينة الفرنسية الساحلية، وتبادل السينمائيون والنقاد المصريون - علي البلاج أيضا - السباب والاتهامات بالعمالة والخيانة، في إطار الخلافات والانقسامات المعروفة حول الفيلم الآخر "18 يوم"، ومدي علاقة صناعه بالنظام الحاكم السابق. أثبت مهرجان "كان" مجددا أنه سياسي قبل أن يكون فنيا، وخسر مسئولوه - بكل سهولة - مخرجا بحجم ترير، من أهم مخرجي العالم وأهم رواد المهرجان، لمجرد كلمات عابرة اعتذر الرجل عنها، وقال إنها كانت دعابة، لكن المشكلة أنها كانت كلمات في حق الذات السامية العليا، ولذلك كان التغاضي عنها مستحيلا! كان المهرجان قرر طرد لارس فون ترير بعد تصريحات له، خلال المؤتمر الصحفي لفيلمه "ميلانكوليا" أو "اكتئاب"، الذي شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان، قال فيها ممازحاً إنه يتعاطف مع الزعيم النازي أدولف هتلر ويرفض الدولة الإسرائيلية لأنها "مصدر إزعاج". وأردف: "لوقت طويل اعتقدت أنني يهودي وكنت سعيداً بأنني يهودي، ولكن تبىّن أنني لست كذلك ووجدت أنني فعلاً نازي وهذا ما منحني بعض السرور". أضاف أنه "يفهم" هتلر، وقال: "من الصعب ان يوصف هتلر بالرجل الصالح مثلاً، ولكني أفهم الكثير عنه وأتعاطف معه بعض الشيء ولكني لست مع الحرب العالمية الثانية ولست ضد اليهود". ولكنه أوضح أن هذه "مزحة أيضاً"، واستدرك قائلاً: "ولكني لست كثيراً مع اليهود. لأن إسرائيل مصدر إزعاج"، وتابع: "يا إلهي كيف أتنصّل من هذه العبارة.. حسناً، أنا نازي". كيف تذل فنانا كبيرا؟ وفي رد فعل فوري - ولا أريد أن أقول إجباري - ذكر المهرجان في بيان أنه "يوفر لفناني العالم كله منبراً استثنائياً لعرض أعمالهم وللدفاع عن حرية التعبير والإبداع". وأضاف أن مجلس إدارته عقد اجتماعاً استثنائياً وعبر فيه عن "أسفه لاستخدام لارس فون ترير لهذا المنبر للإدلاء بأقوال غير مقبولة ولا يمكن التساهل بشأنها وتتناقض مع المثل العليا للبشرية والسخاء السائد في أصل المهرجان نفسه". أعرب البيان عن إدانة مجلس إدارة المهرجان "وبحزم" هذه الأقوال واعتبار ترير "شخصاً غير مرغوب فيه" في المهرجان، علي أن يسري القرار "بشكل فوري". وجاء البيان بعد اعتذار ترير بالفعل عما قال بناء علي طلب إدارة المهرجان، فيما يعد مخططا لإذلال المخرج الكبير والنيل منه إرضاء للصهاينة، في واقعة مؤسفة الخاسر الأكبر فيها - في رأيي- هو مهرجان "كان" نفسه، وليس ترير الذي تتنافس كبري مهرجانات العالم علي أن تكون أفلامه علي قائمة عروضها ومسابقاتها الرسمية. العجيب أن إدارة المهرجان طردت ترير من دون أن تطرد فيلمه، وأعلنت أن القرار لا يستبعد المخرج من المسابقة الرسمية للفوز بالسعفة الذهبية والجوائز الأخري، وأنه في حالة حصوله علي جائزة، لن تتم دعوته إلي حفل الختام لتسلمها! لكي تدرك مدي سطوة ونفوذ الصهاينة في "كان" وسائر المحافل الدولية، يكفي أن تعرف أن لارس فون ترير، الذي ذبحه المهرجان وخسره للأبد، من أبرز أعضاء نادي "كان" للمخرجين الكبار، وشارك في المهرجان 11 مرة، سواء كصاحب فيلم أو عضو لجنة تحكيم.. وفي عام 1996 نال فيلمه "تكسير الأمواج" جائزة لجنة التحكيم الخاصة، أما تحفته "راقصة في الظلام"، فقد حصل علي السعفة الذهبية عام 2000 . دوجما 95 ترير، المولود في 30 إبريل 1956 بكوبنهاجن، هو مؤسس مدرسة "دوجما 95"، التي تعد من أهم الحركات السينمائية التي ظهرت في القرن العشرين، حيث كسرت العديد من القواعد الأساسية في العمل الفني ككل لصناعة فيلم قليل التكلفة يعتمد علي الميزانيات المتاحة من الحكومات الأوروبية أو قنوات التليفزيون. ولكي يصنف أي فيلم علي أنه من أفلام الدوجما يجب علي صناعه أن يلتزموا ببعض القواعد التقنية الأساسية منها: أن الفيلم كله يجب تصويره في مكان الحدث من دون استخدام أي وسائل مساعدة أو إضاءة صناعية ويكتفي بالاعتماد علي إضاءة المكان الطبيعية من دون فلاتر، أيضاً الصوت يجب أن يسجل في مكان التصوير والكاميرا من المستحب أن تكون محمولة علي اليد طوال الوقت.. وأقصي طموح لدي صناع سينما الدوجما أن يقدموا عملهم بدون أدني ضغوط إنتاجية أو تسويقية من أي نوع. يقول لارس فون ترير إن أفلامه لا يشبه أحدها الآخر، لكن من الواضح في الوقت نفسه أنها من صنعه هو بالذات، حيث يمكن تتبع بصمته علي الدوام، وأبرز مظاهر هذه البصمة، العاطفة.. ويضيف في كتاب "دروس أساتذة السينما" قائلا: "صناعة الأفلام كانت علي الدوام عن العواطف. ما استنبطه من المخرجين الكبار الذين أعجبت بهم أنه إن أريتني خمس دقائق من أفلامهم، فسأعرف أنها من صنعهم. ورغم كون معظم أفلامي مختلفة عن بعضها بعضاً، فإن بإمكاني ادعاء الشيء نفسه، واعتقد أن العاطفة ما يجمع بينها.. علي أية حال، لم أبدأ يوماً في صناعة فيلم للتعبير عن فكرة محددة. أعي تماماً كيف سيري المرء ذلك في أفلامي الأولي، لأنها ستبدو باردة بعض الشيء وذات بنية رياضية، لكن مع ذلك فإنها في العمق كانت عن العاطفة بالنسبة إلي. والسر في أن الأفلام التي أصنعها اليوم قد تبدو أقوي، بالمعني العاطفي للكلمة، يعود إلي هذا السبب فقط.. فأنا كشخص، أصبحت ناقلاً أفضل للعواطف". جائزة "فوق البيعة" لكي تكتمل مجاملة "كان" لإسرائيل، تم منح الفيلم الإسرائيلي "حيرات شولايم" أو "هامش"، الذي شارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، أهم أقسام المهرجان، جائزة السيناريو لمخرجه وكاتبه جوزيف سيدار.. ويقول الناقد الكبير أمير العمري، الذي حضر المهرجان وشاهد الفيلم، إن وجوده في مسابقة "كان" يمثل علامة استفهام كبيرة، ليس لكونه فيلما إسرائيليا، فهناك من الأفلام الإسرائيلية ما هو جيد فنيا، ولكن لأنه ربما يصلح للعرض أكثر علي مشاهدي التليفزيون الرسمي الإسرائيلي، أي انه يبدو فيلما مصنوعا للجمهور الإسرائيلي دون أن يحمل أي أبعاد إنسانية كبري يمكن أن تلمس مشاعر المشاهدين في العالم. يضيف أن موضوع الفيلم يدور حول قضية أخلاقية بالأساس، تتعلق بالعلاقة بين أب وابنه، وكيف يمكن أن يواجه الابن والده بعد أن أصبح منافسا له في العلم والمعرفة، بل وأصبح أيضا يتفوق عليه.. هل يمضي قدما ويتيه فخرا بما حققه حتي لو سبب ذلك للأب ألما بل وأدي إلي سحقه سحقا وهو الذي يتطلع قبل أن يختم حياته، إلي نوع من التحقق لم يعرفه طيلة حياته؟ كان الناقد والمخرج المصري "أحمد عاطف"، عضو لجنة تحكيم اتحاد النقاد الدوليين (فيبريسي) في دورة "كان" هذا العام، قد طلب انسحابه من المشاركة في تحكيم أفلام المسابقة الدولية في المهرجان، علي أن يكتفي فقط بالإدلاء بصوته في الأفلام المشاركة في قسم "نظرة ما" - وهو ما وافق عليه أعضاء لجنة التحكيم - بسبب مشاركة الفيلم الإسرائيلي في المسابقة. وجاءت مشاركة الفيلم الإسرائيلي وسط غياب عربي معتاد عن المسابقة الرسمية للمهرجان.. ولا يعرف أحد متي ينتهي هذا الغياب، أو إلي متي ستدوم السطوة الإسرائيلية.