من قصص الفلكلور والتراث اليمني اختار الكاتب الكبير محفوظ عبدالرحمن موضوع المسرحية التي يختتم بها مسرحنا القومي موسمه المسرحي الشتوي 2010-2011 علي مسرح ميامي، والغربة علي داره الأم موجعة لكل الأعين المدربة علي قياس الفوارق من حيث بهاء المبني، فلا مقاومة بين بهاء وجمال وعراقة مبني المسرح القومي الكائن في ميدان العتبة وبين هذا «المستوصف الخيري» القابع في جوار ماخور ليلي في قلب شارع طلعت حرب والمسمي بمسرح ميامي الذي كان ملكا للفنان الكوميدي إسماعيل ياسين وفرقته المسرحية ثم آلت ملكيته لفرقة «تحية كاريوكا» والتي كان يديرها المخرج الممثل المحامي زوج تحية كاريوكا «فايز حلاوة» ثم ظل المسرح عرضة للهجر والتصحر حتي جاء أمر الله علي يد المسئولين عن قيادة البيت الفني للمسرح وقاموا بتطوير المبني ليصبح لصيق الشبه بالمستوصفات الخيرية، وأن خشبة المسرح الخابتة لأي إبداع تشكيلي وجيرة المسرح، المستوصف لسينما ميامي والكباريه أي الملاهي المسماة علب الليل في مدخل هذا المستوصف، أو الممر أو المسرح، ناهينا عن سوء واجهة المسرح مهما ضعفت العلاقات العامة من وسائل الدعاية عن أي عرض مسرحي، فالمكان بالتعبير الشعبي «فطيس» ولننتقل إلي العرض المسرحي التراثي عن الأميرة بلقيس قبل أن تتوج ملكة لمملكة سبأ باليمن الذي كان سعيدا قبل الأحداث السياسية الأخيرة التي حولته لليمن التعيس!! نظرا للأحداث الدامية وسقوط القتلي وعناء السلطة وإصرار الشعب علي الحرية المطلقة غير المشروطة. الرؤية الشيفونية الإبداعية لقد ارتأي الكاتب المخضرم الكبير المقام في مسرحنا المصري وإبداعاته التليفزيونية الجيدة، محفوظ عبدالرحمن، حيث وجد في تراث اليمن بغيته وهواه، حيث عثر علي سبيكة درامية وقدر أن يحولها إلي «منمنمات درامية» باسم «الملكة بلقيس» أو «بلقيس فقط» وقد اقتنع بأن التراث اليمني فيه ما يصلح كمسرح عميق يحمل في أعطافه قدرا كبيرا من التعبير عن قضايانا المعاصرة ، قبل أن يعبر عن قضايا مبدعيه. بلقيس في رأي الكاتب هي المرأة التي ملكت الدنيا، ولا يجب أن تعيش مكبلة بقيود الاستبداد، وأن هذه المرأة في الربع الأخير من العرض يتم تتويجها بتاج من القش يقدمه هدية لها أحد المقعدين من ابناء شعبها، وتتوج ملكة لسبأ وسط عدد من اتباعها لا يزيد علي عدد أصابع اليد الواحدة، ذلك ناهينا عن جانب الصدفة التي ساقت إليها أمها، والصدفة التي توجتها، والصدفة التي حولتها من سيدة إلي ملكة، والصدفة التي جعلتها تثور لكرامتها التي ديست بأقدام الأعداء فمن هم هؤلاء الأعداء، ومن هو ذلك الملك الذي يطلب الزواج ببلقيس دون أن يراها أو تراه، وما هذه الأحداث والصدف التي امتلأ بها وقت العرض ثم ثورة هذه الملكة التي قررت أن تضحي بحياتها ولا تفرط في ذرة من كرامتها، واعتبر الكاتب أن الكبرياء وسام تضعه - بلقيس - علي صدور الشعوب. ومن خلال صياغات حوارية تخضع للتنميط حين يكون الحوار بديلا عن الأحداث والصراعات الدرامية الحقيقية!! استضافة للوقفات الاحتجاجية لقد كانت المشاهد بتتابعها تمثل استضافة درامية لكل الوقفات الاحتجاجية في وقتنا الراهن، فمن كوميديا لقطية إلي استعارات لنماذج من حكامنا العرب لصياغة مواقف يختلط فيها التراثي بالسياسي بالاحتجاجي بالمعاصر وملء المشاهد بالمحسنات المسرحية مثل اللوحات الغنائية الاستعراضية الراقصة التي حصلت علي الرقم القياسي في التحميل والتجميل للمشهد الدرامي والذي اعتبرها مفردات أحسن المخرج الكبير أحمد عبدالحليم اختيارها وبالتالي توظيفها، وإن كانت كثيرة فلا أري موانع مادام الإنتاج فيه ما يسمح بذلك الثراء الفرجوي، حيث فخامة الأزياء وثراء الديكور وروعة الموسيقي ورغم هذه الاستضافة للوقفات الاحتجاجية الدرامية التي تمثلت في مشاهد المبارزة والقتل بالسيوف والطعن أمام المشاهدين وبالرغم من خلو دور الملكة من العنصر الدرامي الثوري لأنها كانت شخصية موصلة لردود الأفعال ولم تقدم بكونها شخصية تاريخية ودرامية «فاعلة» ولعل زخم الانتقال المكاني قد تراجع أمامه الانتقال الدرامي للمشاهد وتتبع الحدث، أو الأحداث التي غابت في الكثير من المبهمات الادائية إذ التمثيل الكلاسيكي الصارخ في معظم المواقف إن لم يكن في مجملها، لكن أمام خبرة المخرج الممثل الإنجليزي الثقافة المصري المزاج والهوية أحمد عبدالحليم الذي أجاد في صنع بعض الموازنات المشهدية إذن لكان الأمر فوق طاقة احتمال المتلقي، لقد ركز المخرج علي حال العباد في طول البلاد العربية وعرضها علي جانب سياسي، هو اننا نحيا في زمن توحش فيه الكبار ضد الصغار وتحول الصغار إلي التطلع نحو الأفضل فاشتد الصراع بين الأحفاد ليعرض النص زمنا مليئا بالقهر والأحلام والمرادفات والافتراضات. حديث المفردات إن قصة العرض أو الحدوتة للراغبين في تتبع الأصول المعمول بها تأليفا هي أن هذه الأميرة بلقيس، أميرة سبأ ابنة الملك الهدهاد والتي قهرت حين تزوجت ملكا لم يرها ولم تره، وأنها إن لم تقبل عرض هذا الملك بالزواج به فإنه ينذر بتدمير مملكة سبأ وقتل أبيها وتدرك هذه الأميرة أن الظلم والقهر والدمار سيحل بشعبها فاستقر أمرها علي أن تفضل الموت ولا تقبل هذا العرض الاستبدادي وقد أخذت علي عاتقها أن تقتلع الذل القابع في قلبها وفي قلوب ابناء شعبها، وواجهت الجميع بالمقاومة والكفاح والذهاب إلي ديار الأعداء المتغطرسين لتعيد الحق إلي نصابه وتقتلع جذور الظلم والمستبد الغبي في امتلاك حرية الآخر! أول مفردات العرض هي بطلته الفنانة السينمائية التليفزيونية السورية الأصل رغدة التي غاب عنها وهج العشق للدور فأدته بصوت متحشرج وإحساس فاتر واستعراض للأزياء وليس استعراضا لعمق الأداء وللشخصية. وقد شارك في الأحداث بالتمثيل كل من صبري عبدالمنعم في دور الملك الهدهاد الذي يُغتال في الثلث الأول من الجزء الأول برغم محاولته التمثيلية أن يكون الشخصية كما رسمها الكاتب وأدارها المخرج ونفذها بحرفية صبري عبدالمنعم، ونجم من نجوم المسرح القومي- وهم قلة في هذا العرض- الفنان مفيد عاشور الذي قام بدور «حيرم» فقدمه علي أنه أحد الأدوار الكلاسيكية في إحدي درامات وليم شكسبير سعيا وراء التميز، وقد حصل من الجمهور علي التقدير للأداء والفنان أحمد سلامة في دور «آصف» كان بارعا ومقبولا ومنتميا إلي الأداء الرصين، والممثل الكبير أحمد عبدالوارث في دور «فاتك»، كان فاتكا للصمت بالأداء المليء بالحماس وبالإحساس بالتفرد، ولعل مفاجأة العرض كانت تخص كلا من الكوميديان المحترم عهدي صادق في دور الملك المسرور الذي اضفي علي أحداث الجزء الثاني بهجة وحيوية، والثاني الممثل الشاب شادي سرور في دور «عاني» الذي أداه بمذاج كوميدي رائق، لكني أعيب عليه توزيع الأصدقاء المروجين بخفة ظله في قاعة التلقي واؤكد له أنه ليس في حاجة إلي «شد التكعيبة». أما باقي الأبطال مثل نجمة القومي نهير أمين في دور «نجية» والتي جسدته بروعة وعشق للمسرح، وهمام عبدالمطلب في دور «الملك المنذر» بأدائه - البلغمي- الذي أضاع كثيرا في نهايات الحوار.. والفنان علي فرج في دور «جعفر»، والمتميز الأكاديمي محمود ذكي في دور «الشاعر الفيروزي»، وزينب وهبي في دور أم بلقيس «رواحة»، والمتميز في موهبته مازن الغرباوي في دور «علاء الدين»، والذي بذل جهدا جسديا وأدائيا رائعا، ثم رحاب الغراوي في دور «جميلة»، وابنائي الذين ضلوا طريقهم في الإدارة المسرحية والإخراج التنفيذي والإخراج كل من سامي المصري، وفوزي المليجي، لقد حاولتما أن تكونا ممثلين ولكن الأجدر أن تعودا إلي المهنة القيادية للأعمال المسرحية حتي وإن كانت أقل دخلا. الأزياء لقد حاولت الفنانة الشهيرة نعيمة عجمي المتميزة في تصميمها للأزياء أن تكون مناسبة من حيث العصر والشخوص التاريخية فكانت ملابس مسرحية بلقيس كلها نموذجا للذوق الدرامي والرفيع المتعدد في درجات الجماليات التي ساهمت في اثراء العرض والأحداث والأشخاص. الديكور إنها منمنمات من الجمال الذي اشتهر به ذوق رفيع خص الله به التشكيلي الفنان صلاح حافظ الذي لم أندم قط علي أني جعلته يترك المناصب والمكاسب في العراق الشقيق ليساعدني الصديق الفنان أحمد عبدالحليم إبان إدارته للمسرح القومي أن يضم صلاح حافظ إلي قبلة المبدعين المتميزين في الديكور المسرحي فلقد كان ديكور بلقيس مدرسة فنية وضع بصمته وتوقيعه عليها صلاح حافظ سواء بالتعدد في المشاهد أو التصدي لضيق خشبة المسرح الخانقة، أو لصعوبة «الميكانيزم» في هذا المستوصف المسرحي، ولقد أحاله صلاح إلي متحف درامي خليق بأن تدار عليه مشاهد وأحداث بلقيس. وأقف أمام أهم مفردات المشهد المسرحي بجمالياته المغناة لأشعار الرائع مصطفي سليم الذي كان دراميا وكان جماليا وكان كلاسيكيا وكان معاصرا وكان في النهاية متميزا. استعراضات عاطف عوض خطوات محفورة في ذاكرة التلقي لم يطرأ عليها أي تغيير. الموسيقي والألحان للفنان هيثم الخميسي كانت ألحانه دراما واعية للحدث المسرحي. تحية لمنفذ الديكور ناصر عبدالحافظ ومصمم الضوء عاصم البدوي وللنحات التشكيلي الرائع فادي فوكيه، ثم تحية واعتزاز وتقدير للجهد الكبير والمضني الذي قام به المخرج الكبير أحمد عبدالحليم.. وكذلك تحية لإدارة المسرح القومي فؤاد السيد، أحمد شاكر، باسم بطرس، فوزي أبو المجد، وإدارة دار العرض أو المستوصف العميد علاء بكر وتحية للجمهور الرائع الذي استقبل العرض بكل الحب والترحاب.