للجدار عبر التاريخ معني رمزي في معظمه مفجع أو مأسوي.. فهو دائماً ما يخفي عنا ضوء الشمس والحقيقة. يواصل الجدار عمله.. فخلف أحد الجدران داخل مبني رائع المعمار أنشئ ليكون «متحفاً للحضارة» اكتشف سرداب مظلم وفي عمق لحوالي سبعة أمتار أخفيت لوحات وخرائط ورسوم معمارية واسكتشات لفناني مصر، وبني هذا الجدار ليفصل السرداب عن ممرات وصالات عرض متحف للحضارة الإنسانية التي نشأت علي الأرض المصرية. وظلت محتويات السرداب أو خبيئته بعيدة عن جيلين لم يشاهداها والتي هي تمثل بشكل تسجيلي تعبيري جزءا مهما من تارخ مصر الفني والسياسي، والمثير أنه علقت فوق الجدار الفاصل بين الضوء والظلمة خريطة حوض وادي النيل من منبعه حتي مصبه ليوقف الجدار بوجوده هذا الدفع ليس لتدفق النهر بل لتدفق مسار الفن المرتبط بتاريخ مصر السياسي. وجاء اكتشاف هذا السرداب والإفراج عما به من كنز مصري منذ أيام أثناء عمليات فريق الترميم بقطاع الفنون التشكيلية للمتحف. وابتهج الجميع واعتبروه استعادة «للمستخبي» ولكني أراه استعادة «للمسروق» فهذا الإخفاء العمدي هو سرقة لجزء من تاريخنا، لقد سرق وأخفي عنا منذ حوالي ستين عاماً وحرم من رؤيته جيلنا والجيل السابق علينا. وهذه التي أطلق عليها «خبيئة» يجري حالياً توثيقها فنياً بلجنة يرأسها الناقد الكبير صبحي الشاروني وأعتقد انه يجب أيضا توثيق الواقعة ومحاسبة أو علي الأقل معرفة إن كان قد رحل»- من أخفي جزءاً من تاريخ مصر عن أبنائها وتحكم في التعتيم عليه حتي ولو كان بنية حمايته والحفاظ عليه ثم اهماله ونسيانه، كما ان معرفة سبب إلقاء جزء من تاريخ مصر الحديث بملوكها السابقين خلف جدار في نفق مظلم مادياً ومعنويا سوف يضيف بعداً آخر علي فكرة اكتشاف خبيئة أو الإفراج عن خبيئة لأنها لن تكون حينها مجرد لوحات تسجيلية لأحداث مهمة بل ستكشف جزءا من تاريخ مصر السياسي بصرياً وفكرياً. ومن جانب آخر، فإنه من داخل هذا السرداب المظلم وبمجرد تحطيم جداره اندفع نور مبهر فوجئنا بأنه أضاء روحنا وعيوننا مع كل نظرة لمحتواه ليكون في نفس الوقت وفي ازدواجية رمزية هو سرداب الظلمة والنور معاً. ومع هذه الازدواجية يطرح تساؤل حول مصادفة اكتشاف هذا الجزء الذي يبدو أنه كان محظوراً من تاريخ مصر حتي الآن، ليكشف عنه في هذا التوقيت - إن لم يكن مصادفة- مع مناخ الحرية بعد ثورة 25 يناير، وهل حين تم إخفاؤه تم إعلان ذلك أو كان بتوجيهات من جهات أمنية وحالياً وبطريقة ما أعطي الضوء الأخضر للإفراج عن الخبيئة؟ اسئلة كثيرة ومحيرة تنتظر إجابة لأن تاريخنا ليس ملكا لأفراد ولا أقدارنا أيضاً. وهذه التساؤلات لدىّ حول ظروف اخفاء أو الحفاظ أو نسيان الخبيئة الفنية قدم لها الناقد الكبيبر صبحي الشاروني مبررا لزاوية واحدة فقد أرجع الناقد الكبير سبب اخفائها إلي أن الحكم الذي جاء بعد عام 1952 كان يخشي من الحكم السابق عليه، فكاتالوج المتحف تصدرته صورة الملك فاروق والذي جمع كله في كراتين داخل السرداب، كما ان اللوحات الزيتية والمائية تصور المواقف المختلفة للأسرة العلوية كلها وهي أسرة محمد علي وفيها اسكتشات وتجارب خاضعة للموافقة علي تكبيرها. وكذلك من اللوحات التي تظهر الملك فؤاد والملك فاروق في جولاتهم والجوانب الإيجابية التي صاحبت فترة حكم الأسرة العلوية، كما ان وجود لوحة لرئيس مصر حينذاك محمد نجيب مع مجلس قيادة الثورة ووسط الجماهير جعل الناقد الكبير يعتقد ان السرداب أغلق علي اللوحات بعد ازاحة الرئيس السابق محمد نجيب من السطح. ان صحت رؤية دكتور الشاروني فلماذا أخفيت أيضاً اللوحات التي تصور الحياة الاجتماعية في مصر الفرعونية والحديثة بأسواقها ومناسباتها؟ وكذلك بعض من اسكتشات العصر الإغريقي الروماني في مصر والكثير من لوحات العصر العربي والعثماني والمملوكي وخرائط مصر والإسكندرية؟ هل يعني هذا ان المتحف أفرغ من جزء كبير من محتواه والذي بلغ بعد اكتشافه مائتين واثنين وعشرين عملاً فنياً وخرائطياً ومعمارياً. ويؤكد رؤية الدكتور الشاروني ما قالته مديرة المتحف دكتورة منال شلتوت في المؤتمر الصحفي للخبيئة بأنه «بعد عام 1952 تم إغلاق قاعات فؤاد وفاروق ومحمد علي وتم تحطيم تماثيل فؤاد وفاروق أما باقي المتحف كان مفتوحاً للجمهور». وقد رأي الدكتور أشرف رضا رئيس قطاع الفنون التشكيلية ان ما حدث من اكتشاف للخبيئة «يتواكب مع ثورة ستشرق آفاقاً جديدة نحو الحرية وصون وجه مصر الحضاري»، وقال: «إن متاحفنا العربية مازالت تكشف عن أسرارها وخباياها التي قد تتواري سنوات لكنها تبقي قيد الانتظار لتعلن عن نفسها لمن يقترب» ووعد رئيس القطاع بإقامة معرض لهذه الخبيئة هذا الشهر- مايو- مع إصدار كتاب يضم أعمال الخبيئة بعنوان «خبيئة الحضارة». وعن حال هذه الخبيئة قال الفنان أحمد عبدالفتاح رئيس الإدارة المركزية للخدمات الفنية للمتاحف والمعارض: «إن حالة لوحات الخبيئة جيدة جداً ولن تستغرق وقتاً طويلاً في ترميمها». وهذا المتحف الفريد في نوعه صمم طرازه المعماري العبقري مصطفي باشا فهمي وهو كبير مهندسي شرف الشئون الملكية وقد عثر علي تصميمات المتحف المعماري مع الخبيئة، هنا سؤال مهم: هل في هذه الرسومات المعمارية الدقيقة رسم لأحد الممرات بالطابق الثاني إلي اليسار طوله سبعة أمتار تتلوه مساحة مسطحة بارتفاع حوالي متر؟ أم انه استحدث بعد ثورة يوليو 1952 لغرض متعمد؟