في صدفة أكبر من الصدف الدرامية صدر منذ أيام قليلة للكاتب الكبير "حلمي النمنم" كتاب "حسن البنا الذي لا يعرفه أحد" الكتاب يقع في 259 صفحة من الحجم الكبير وصادر عن مكتبة مدبولي، ويتواكب صدوره مع توهج الإخوان المسلمين في الشارع المصري في الوقت الذي تلقي فيه صفحات الكتاب بالأضواء الناقدة علي مؤسس الجماعة الذي تصل مكانته لحد التقديس عند أفرادها، وعن ذلك يقول "حلمي النمنم": "في أدبيات الجماعة، فإن شخصية حسن البنا أو الإمام الشهيد تكاد تكون مقدسة، والغريب في الأمر أنه لم يكن كذلك في حياته فقد اختلف معه بعض الإخوان وانشق عنه بعضهم وهاجمه عدد منهم واتهمه كل من انشق عن الجماعة بالتسلط والديكتاتورية وأنه يتحدث عن الشوري لكنه لا يعمل بها بالمرة، أما بعد عودة الإخوان إلي النشاط في السبعينات فقد اجتهدوا في تقديم مرشدهم الأول في صورة الإنسان المثالي". وعلي مدار فصول الكتاب الثلاثة عشر قام حلمي النمنم بقراءة واعية وناقدة وعميقة لفكر مؤسس جماعة الإخوان، واستخدم معول الوثائق والأسئلة الحادة في هدم الكثير من المسلمات المرتبطة بالبنا وجماعته، فمثلاً السائد أن البنا أسس جماعته عام 1928 لكن الوثائق التي نشرها شقيقه جمال البنا تجعلنا نتشكك في ذلك التاريخ، فهناك مذكرة أعدها البنا وأحمد السكري وحامد عسكرية بعنوان "مذكرة في التعليم الديني" عام 1929 ولا يوجد بها أي ذكر للجماعة. ويقول النمنم إنه إذا اتخذنا اللائحة الأولي كوثيقة رسمية لجمعية الإخوان المسلمين فنجد أنها تأسست عام 1930 . كما يؤكد الكاتب أن هذه اللائحة الأولي قد استبعدت السياسة بشكل نهائي، في حين أن اللائحة الثانية التي صدرت عام 1935 والتي حولت الجمعية إلي جماعة فتحتل السياسة فيها المرتبة الأولي وتكون للجماعة "جيتو" خاص بها بقوانين وأحكام تعزلها عن المجتمع أو تؤسس لدولتها الخاصة. التكفير والإرهاب وفي الفصل المعنون ب "التكفير في تعاليم المرشد" يؤكد الكاتب علي أن الجماعات المتطرفة التي خرجت علي المجتمع ورفعت السلاح عليه، كلها خرجت بشكل أو بآخر من معطف الإخوان. ويقدم الكتاب مجموعة من أخطر تعاليم البنا في تكفير المجتمع ومقاطعة التجار غير المسلمين والمحاكم الأهلية. وفي الفصل التالي مباشرة "طريق الدم" يتعرض الباحث لأعمال العنف والاغتيالات التي نفذها التنظيم الخاص للجماعة. البنا وسرجيوس ومن أخطر الفصول بالكتاب: الفصل السادس الذي جاء تحت عنوان "القمص ودولة عم حسن" والقمص المقصود هنا هو الأب سرجيوس خطيب ثورة 1919، والذي تصدي لكتابات ودروس حسن البنا التي أثارت قلق الأقباط واليهود، وقد تحول القلق لفزع بعد وقوع أعمال إرهابية تجاه بعض اليهود ومنشآتهم وحرق كنيسة الزقازيق وكنيسة السويس. وقد هاجم أفكار البنا بضراوة المفكر المستنير سلامة موسي الذي طالب بفصل الدين عن الدولة مؤكداً علي وطنية الأقباط مذكراً بدورهم في ثورة 1919 . أما القمص سرجيوس فنشر أكثر من مقال في مجلته "المنارة المصرية" ضد الإخوان، ومن أهم مقالاته التي أوردها الكتاب مقال تحت عنوان "الموت ولا حكم دولة عم حسن البنا" وجاء فيه "ها نحن قد عشنا وشفنا ووقفنا مع الذين سبقونا ورددوا هذا القول لأننا ما كنا نحلم أو نتصور أنه في القرن العشرين وفي عهد الدستور والديمقراطية والقنبلة الذرية يقوم في مصر هنا، في عروس الشرق وقدوته، يقوم عم حسن البنا يجمع حوله رهطاً هم أعلم الناس بحقيقة أنفسهم، يتطلعون إلي الحكم في مصر وإخضاع البلاد وإذلال العباد. ويقول النمنم: "من المؤكد أنه كان لسرجيوس موقف من الإخوان فهو ابن لثورة 1919 وأحد رموزها، وجاءت الإخوان من البداية تعلن العداء لحزب الوفد وترفض مبدأ الوطنية المصرية داعية إلي دولة الخلافة الإسلامية، وكان ذلك مصدر قلق لدي كثيرين، وكانت حدة القمص سرجيوس في مقالاته تؤكد علي أنه متابع جيد لمسيرة البنا وجماعته ويدرك الكثير من الخبايا عن التوظيف السياسي الذي قامت به الحكومات المختلفة للجماعة، وفضلاً عن ذلك كان القمص ينتقد بعمق كتابات ومقالات البنا، وأثبت القمص أن لديه إلماماً واسعاً بالثقافة الإسلامية وعلي دراية كاملة بالآيات القرآنية وأقوال كبار المفسرين حولها، فقد اتهمه أنه يقدم تفسيراً ملتوياً للقرآن الكريم، وكان البنا يقدم سلسلة مقالات بعنوان "نظرات في القرآن الكريم" وحاول أن يفسر الآيات القرآنية التي تتعلق بالمسيحيين وأهل الكتاب، والحقيقة أنه لم يكن مفسراً ولا كان ملماً بخبايا وأسرار علم التفسير، وكذلك كانت ثقافته المعاصرة محدودة، لذا راح يطلق أحكاماً بالكفر علي أهل الكتاب مما أثار عليه ليس القمص سرجيوس فقط بل وآخرين، وترصده سرجيوس بالبحث والرد مفنداً كل ما يقول في سلسلة أخري من المقالات حملت عنوان "حسن البنا يحرض علي قتال الأقليات". يذكر النمنم مثالاً علي ذلك فيقول: "كان البنا قد توقف أمام الآية القرآنية الكريمة: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتي يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة29)، وجاء في تفسير البنا لها "وقد وصفت الآية الكريمة وهم في عرف الإسلام اليهود والنصاري بثلاث صفات بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وبأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله وبأنهم لا يدينون دين الحق وذلك معلوم من سيرتهم وكتبهم" وقال البنا أيضاً: "وأهل الكتاب فيقاتلون كما يقاتل المشركون تماماً إذا اعتدوا علي أرض الإسلام أو حالوا دون انتشار دعوته". وراح القمص سرجيوس يرد علي هذه الآراء بعبارات غاية في الانفعال والقسوة فأطلق علي حسن البنا "شيخ السوء" وبدلاً من لقبه المرشد العام قال عنه "المفسد العام" والواقع أن الآية القرآنية لم تدن أهل الكتاب عموماً لكن فئة منهم هم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولذا راح سرجيوس يستشهد بأقوال مفسرين آخرين وبآيات أخري من القرآن الكريم تشيد بأهل الكتاب، وكان عدد من علماء الأزهر ومن هيئة كبار العلماء قد ردوا علي البنا واستشهد بهم سرجيوس قائلاً: "ولعل في فتاوي حضرات علماء المسلمين التي نشرت ضدك في الصحف ما يجعل المسلمين في بلاد الشرق أن يضربوا بأقوالك عرض الحائط لا شك أصبحت غير ذي ثقة في أمور الدين" ويتساءل النمنم: "هل كان القمص سرجيوس مبالغاً في مخاوفه ومتحاملاً علي حسن البنا؟" ويرد: "الواقع أن تفسيرات البنا كانت مقلقة ومخيفة وإذا كان عدد من علماء الأزهر قد أصابهم القلق من آراء البنا وراحوا يردون عليه، وقلق أيضاً من هذه الأفكار الليبراليون واليساريون المصريون، فما بالنا بغير المسلم؟"