الأمثال الشعبية هي ذلك القاسم المشترك بين جميع الثقافات في العالم، سواء علي مستوي التنوع الجغرافي، أو التنوع الزماني التاريخي، فقد عاني الإنسان منذ أن عرف شكل المجتمعات ممن يتسلطون عليه، ويستبدون به، فكانت الأمثال الشعبية هي الإرهاصات الأولي للثورات علي الطغاة، وهي المعون الذي يعاود الأحرار النهل منه كلما جفت منابع الحرية، وهي الدافع الذي يحطم القيود، ويكسر الأغلال، ويجلي ليالي الظلم السوداء عن الشعوب، فكما أن النار تولد من مستصغر الشرر، فكذلك الثورات علي اعتي الطغاة تولد من اصغر الجمل، في الأمثال الشعبية المحفوظة في الوجدان الجماهيري، فتمكنهم من نقل مثالهم من حيز القوة إلي حيز الفعل، وتصبح ثورة يناير ثورة علي المستقر في الوجدان المصري من الخنوع، والخضوع للحاكم، إلي ثورة علي ذاكرة الشعب نفسه، التي مُلئت بأمثال قبول الأمر الواقع. قالوا في الأمثال عموماً جعلت د."نبيلة إبراهيم" في كتابها "أشكال التعبير في الأدب الشعبي"، المثل ذو طابع شعبي خالص، وان كان "أحمد أمين" في قاموسه للعادات، والتقاليد، والتعابير المصرية، وجد انه من الصعوبة معرفة قائلي الأمثال، أو تاريخها، أو منبعها، إلا أنها تبقي محفوظة بحيوية في الوجدان الشعبي، فأرخ قائل المثل المجهول لنفسه بالمثل القائل"لو عرفت مين اللي قال الأمثال؟ اعمل له قبه ومزار"، ودائماً يهتم المفكرون الاصلاحيون، والليبراليون بالأمثال الشعبية، فالأمثال هي نتائج تجارب ماضية، يستخلص منها العبر، إلا أنها لا تعتبر إلا القوة فقط، ولا يشترط أن ينتج عنها الفعل الذي يؤسس الاستفادة منها، مما حدي بالمفكر الاصلاحي الديني الحر"سباستيان فرانك"(1499 1542م) أن يقول:"إن الأمثال حصيلة تجارة مفلسة!" فالتقي مع رأي المؤرخ"احمد حسين الطماوي" في كتابه"سيم العشاق"، في فصل العلاقة بين قوة القول كمثل شعبي، وتحول المثل الشعبي إلي فعل يؤثر في الناس باتباع نتائج تجربته، وتمتاز الأمثال الشعبية فيما يميزها عن القول الشعري، بأنها تصيب الحقيقة مباشرة، وتنأي بنفسها عن الخيال والوهم، كما أن الأمثال الشعبية تتحول إلي قوالب قولية سابقة التجهيز، مجهولة المؤلف يتم التضمين بها داخل البناء الثقافي الشفاهي، ولذا فهي في كل مرة تقال فيها تتجادل مع موقف مختلف، ومن ثم يعاد صياغتها وصقلها باستمرار، إلي أن أدركت الثقافة الكتابية، فأحُكمت عن طريقها بالتدوين، إلا أن حركتها لا تزال مستمرة في المجتمع حين تنطلق معبرة عن موقف استحضاري لها. الأمثال السياسية الشعبية يعد كتاب "الأمثال العامية" للعلامة"احمد تيمور باشا" المرجع الأم للأمثال العامية، خاصة طبعته الثانية، والتي أضاف إليها المزيد من الأمثال، فقد ضمت عدد 3188مثلاً، والتي صدرت في عام 1956م، عن مطبعة "لجنة نشر المؤلفات التيمورية"، وقد صنفها أبجديا حسب الحرف الأول من المثل، وضمنه بالشرح، وعبر ما حصره من الأمثال العامية، يمكن رصد موقف العقل الشعبي الجمعي المصري من الحاكم بعدة معان، ومضامين متحولة، بعضها ينظر إلي الحاكم نظرة الخادم إلي المخدوم فيقول المثل"آخر خدمة الغز علقة"، والغز هم الحكام الأتراك أثناء الدولة العثمانية، وهو مثل امتداد لمثل آخر هو" حكم عثمنلي لا يترك ولا يخلي"، وهو نفس معني المثل القائل "آخر المعروف الضرب بالكفوف" فالشعب المصري يجد في حكامه عدم الوفاء في مقابل العبودية المطلقة، والخدمة المخلصة لرجل السلطة، كما أن المصري جعل شخصية الفرعون هي المعادل الموضوعي لكل غدر يجده من الحاكم، فيقول في المثل"جبتك تكون ليا عون طلعت عليا فرعون"، وتمتد الأمثال المعبرة عن موقف المحكوم من الحاكم، نتيجة سلبية الحاكم فيقول المثل:"الحكومة حبالها طويلة"، و"ثلاثة ما لهم أمان، البحر، والسلطان، والزمان"، حتي تتحول علاقة المصري بحاكمه كما قيل في المثل:"ضرب الحاكم شرف"، و"الناس علي دين ملوكهم"، فقد أمن المصري بما يؤمن به حاكمه حتي ولو كان في الأمور الغيبية. قبول الواقع تعكس الأمثال الشعبية، إلي أي مدي الشعب المصري من أصعب الشعوب تحريضاً علي الثورة، حيث قبوله للأمر الواقع، بصورة حتمية، ووقوفه موقف العاجز عن التغيير دائماً، فيقول في المثل:"المكتوب ما منوش مهروب"، و"من يوم ما ولدوني وفي الهم حطوني"، و"قضيت العمر في قهر، هو العمر كام شهر؟"، كما انه يقف من التغيير موقف الريبة، فيقول:"كنت بالهم القديم راضي، جاني الجديد زود أمراضي"، أو" اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش"، و"حط راسك وسط الروس تسلم"، ويفتخر الشعب المصري في أمثاله بقدرته علي التحمل، والمعاناة، والصبر فيقول:"يا قلب يا كتاكت، يا ما فيك وأنت ساكت"، و"أرضي بقردك، ليجيلك أقرد منه"، بل انه يري أن حل مشاكله يكون بالهروب منها بالنوم فيقول:" الأيام الوحشة فايدتها النوم"، أو" الأيام الزفت ما لها إلا النوم"، و"الصبر مفتاح الفرج"، و"اصبر علي الحصرم يصير عنب"، ويفتخر بأحزانه فيقول:"كتر الحزن يعلم البكا"، و"حيلة العاجز دموعه"، و"اشكي لي، وأنا أبكي لك"، و"أشكي لمين وكل الناس مجاريح". كما سيطرت التواكلية علي مقدرات الشعب فقال:" اجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش"، و"ما حدش واخد منها حاجة"، وتقبل الدوران في فلك الأمر الواقع فقال:" الدنيا مش دايمة، يوم عسل، ويوم بصل"، و"الدنيا زي الغازية ترقص لكل واحد شوية"، و"موت يا حمار علي ما يجيلك العليق"، وعدم اعتباره بحكمة التاريخ الماضي ولا تجاربه، فعاش المصري في حدود يومه، وغاب عنه المستقبل، فقال:"احنا ولاد النهارده"، بل امتدت حالة اليأس من تغيير الواقع والمصير عند المواطن المصري إلي مرحلة ما بعد الموت فقال:" المغلوب مغلوب، وفي الآخرة يضرب بالطوب"، و"إذا كان الكفن مخلق، والمغسل اعور، والدكة مكسورة، والأرض سبخة، يكون الميت من أهل جهنم". خير مصر من كثرة مرور المستعمرين بمصر، وحكم الأجانب لها، واستنزاف حكامها لثرواتها، استقر لدي العقل الجمعي مفهوم خاص عن وطنه مصر، فرآها عبر رؤية المستعمر، فالرومان وجدوا مصر سلة غلال، ووجدها العرب ثور ممسوك من قرنيه يحلب، وامتدت هذه النظرة إلي اليوم الذي يباع فيها غازها الطبيعي لأعدائها بثمن بخس، فقال المصريون:" مصر للغريب"، و" ديار مصر خيرها لغيرها"، ووجدوا في اسم مصر ملخص لتاريخها الاقتصادي فقالوا:" أول سنة تضيق زي الميم، وتاني سنة تفتح زي الصاد، وثالث سنة تتسع زي الراء". الظلم مفتاح الثورة أما موقف الشعب المصري من الظلم، فهو من قبيل قبوله بالقدر، بل جعل منه مبرر لنفاق الحاكم، ولا سبيل لمواجهته، فيقول:"أبدان مسلطة علي أبدان"، و"إذا كان خصمك القاضي مين تقاضي؟"، و"اليد اللي ما تقدرش تدوسها بوسها"، و"ماحدش يقول يا غولة عينك حمرا"، و"الناس مقامات"، و"العين ما تعلي عن الحاجب"، كما تحكم رجال الدين بالوازع الديني في الشعب المصري بجعله يقبل الظلم، علي سبيل المقدرات الإلهية، فقال:"الشكوي لغير الله مذلة"، و"الخيرة فيما اختاره الله"، و"ربك رب قلوب"، و"الله جاب، الله خد، الله عليه العوض"، بل تمادي الشعب في الحلول السلبية إلي أقصي مدي حتي قال:"ربك يمهل، ولا يهمل"، وغلب علي المصري العفو فقال:" المسامح كريم"، و"يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم"، و"يا بخت من قدر وعفي". أصبحت المحسوبية، والوساطة من ثوابت قيم المجتمع، وليس القانون هو الذي يمنح الحقوق، ويحدد الواجبات، فقال:" الريس يحبك امسح ايدك في القلع"، و"اطعم الفم تستحي العين"، و"أرشوا تشفوا"، و"إذا كان لك عند الكلب حاجة، قوله يا سيدي"، ويري المصري انه حتي الموت يختار انفع الحكام لهم، ويأتي لهم بالأشرار فقال:" ما يبقي علي المزاود، إلا شر البقر"، واعترف المصري بالصبر كحل وحيد لمشاكله فقال:"الصبر مفتاح الفرج"، بينما نادراً ما جاء فرج. حكم القوي يري د."حامد طاهر" في كتابه"الفلسفة المصرية من الأمثال الشعبية" أن الأمثال الشعبية المصرية كانت هي المتنفس لحالة غياب الحرية، التي كانت تفتقدها مصر عبر تاريخها، إلا انه كان شعباً يميل إلي الاستقرار، فقال المصري:"سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، و"آفة الرعية مفارقة الطاعة"، وبرر هذا القبول للاستقرار بما وجده في استبداد الحاكم، فقال:"سيف السلطنة طويل"، و"حكم القوي علي الضعيف"، بل أصبح موقف الشعب من ظلم الحاكم متوقف فقط علي أمل أن يغيب الحاكم عن الحكم، ليس بالثورة عليه، وإنما بنوم الحاكم، فقالوا:"نوم الظالم عبادة"، كما أدرك الشعب المصري طرائق استبداد الحاكم المتناقضة فقال عنه:" الحاكم يقول للسارق اسرق، ولصاحب البيت احفظ متاعك"، و"يقتل القتيل ويمشي في جنازته"، و" زي الحاكم ما لوش إلا اللي قدامه"، وتفنن المصري في مدارة حكامه فقال:" ارقص للقرد في دولته"، و"اللي الحكومة تاخد مراته ما يتعايرش"، بينما عرف الوجدان الشعبي توجيه النصح والإرشاد إلي حكامه بالأمثال الشعبية، في الوقت الذي لم يتمكن فيه من مواجهته بعيوبه فقال له:"يا ظالم لك يوم"، و" بيت الظالم خراب"، و" دار الظالم خراب، ولو بعد حين"، و" يا والي لا تجور، الولاية لا تدوم"، وكان الشعب يذكر الحاكم دائماً بيوم تركه للحكم، فيقول:"ذل العزل يضحك من تيه الولاية"، كما يلوح له بيوم موته فيقول:"ابن الحاكم يتيم"، وأدرك المصري موقفه مبكراً وابتعد عن الحاكم ليأمن تقلباته فقال:" اللي يأكل عيش السلطان يضرب بسيفه"، و"من أكل مرق السلطان، احترقت شفتاه ولو بعد حين"، و"السلطان من بعد عن السلطان"، بل إن المصري برر سخطه علي حكامه في السر بأنه نتاج لعظمتهم فقال:" الملك من هيبته، بيشتم في غيبته"، و"الزعلان يسب السلطان". أمثال عصور الاستبداد لا شك أن عصر "محمد علي"(17691849م) كان اقرب النماذج لعصور الاستبداد للحكم المطلق التي مرت بها مصر في تاريخها الحديث، حيث يرصد الرحالة السويسري"جون لويس بوركهارت"( 1784 1817م) ، في كتابه"العادات والتقاليد المصرية من الأمثال الشعبية في عهد محمد علي"، طبعة1875م، الأمثال الشعبية المصرية الموجودة في الذاكرة المصرية، والتي جمعها نتيجة معايشته للمجتمع المصري في مطلع القرن التاسع عشر، في بداية حكم "محمد علي" حيث وصل إلي مصر في عام 1812م، وانخرط في الحياة المصرية، حتي عمل بائعاً للسبح، ومقرئاً للقرآن الكريم، وزار جميع القري، والبلاد، فوجد أن الشعب المصري من الشعوب المتقلبة، والتي يصعب إرضاؤها، فبعد أن كانوا رافضين لحكم المماليك، باتوا أيضاً رافضين لحكم "محمد علي" فقالوا في المثل:"من لا يرضي بحكم موسي، رضي بحكم فرعون"، ثم عادوا يقولون"جور الترك، ولا عدل العرب"، كما أنهم كانوا دائمي التهكم علي"محمد علي" في أول سنوات حكمه، بالمثل القائل" دب لا يحلب، ولا يجنب، ولا يركب" حيث كان قد جاء مع"محمد علي" الاتراك، ومعهم دببهم إلي مصر، فلما سمع"محمد علي" بالمثل طرد الدببة، وأصحابها من مصر، كما وقف المصريون موقف الرافضين من حركة العمران التي كان يقوم بها"محمد علي" فأطلقوا المثل السائر"يبني قصراً، ويهدم مصراً"، تعبيراً عن سخطهم من بناه للقصور، والفيلات لسكنه، وعائلته. الدين والسياسة يرصد"محرم كمال" في كتابه" الحكم والأمثال والنصائح عند المصريين القدماء"، كيف كانت مصر دائماً خاضعة لسيطرة الكهنة، رجال الدين، الذين كانوا يكرسون فكرهم لصياغة العقائد الدينية التي تكرس حكم الفرعون، إلي الحد الذي جعله الهاً، ودائماً ما عاني الشعب المصري سيطرة رجال الدين وتطلعهم للحياة السياسية، والتدخل في شئون الحكم، وأنهم كانوا دائماً ما يستغلون بساطة خبرات العامة في التلاعب بعقولهم، كما ورد في مخطوطة"خزينة الأمثال" تأليف"عبدالرحمن شاه" والمطبوع بمطبعة مصطفائي، في عام 1853م، ومحفوظ بمكتبة نيودلهي العامة في الهند، أن قال المصري في مثله الشعبي:" آفة العلماء حب الرياسة، وآفة الرعاء ضعف السياسة"، ويقصد بالعلماء هنا، رجال الدين، كما ورد المثل الشعبي:" آفة الرياسة ضعف السياسة". لا شك أن ثورة يناير 2011م، كانت أكثر من ثورة علي نظام حكم، فهي ثورة علي طبائع شعب، كان قد ارتضي الخنوع، والاستسلام لحتمياته القدرية، فلم يكتب العقل الشعبي في ذاكرته أي نتائج لتجربة تمرد، أو عصيان علي الحكام في أمثاله، فجاءت تلك الثورة لتعلن مثلها السائر"الشعب يريد تغيير النظام" ليكون أول مثل تنتجه الثورة علي العادات، والتقاليد، حيث أراد المصريون لأول مرة في تاريخ تجربتهم الإنسانية إحداث التغيير، فسوف يتحول شعار الثورة"الشعب يريد تغيير النظام" إلي مثل سائر، بديل للمثل القائل"اللي ما يجي معاك تعالي معاه"، ويضرب كلما رفض المصريون واقعهم، وتمردوا عليه.