" تكدح الأجيال ، لتخلق زهرة صغيرة " هكذا يقول " وليم بليك " في قصيدته " أمثال الجحيم "ليحرضني علي هذه المداخلة مع حوار بوابة الأهرام مع الصديق الأستاذ الدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة ، الحوار الذي أعتبره نموذجا حضاريا راقيا وهادئا في كيفية تفكير رجل مسئول عن تفعيل ثقافة دولة بحجم ومكانة وروح مصر ، بثرائها المتنوع والمتعدد المصادر والمرجعيات ، مراعيا - بكياسة لافتة - خصوصية هذا البلد الكبير ، العصي عن الأحادية وثقافة الآقصاء والغاء الآخر . نعم ، هكذا يشجعني الوزير علي الكتابة اليه ، ملفتا سيادته الي " زهرة صغيرة " يجب أن نكدح معا لخلقها ،" زهرة"كانت توقظها في نفسي - بين الحين والآخر - اجاباته الصادقة علي مجمل أسئلة الحوار المذكور ، وربما لاأبالغ وأنا أصف كلماته ب" الصدق " ربما بأكثر مما أنعتها بالموضوعية ، اذ أن الموضوعية تظل دائما محل اختلاف والتباس وشخصنة ، كونها مسألة نسبية تنتمي الي سياقات ذهنية مختلفة في مقدماتها ، وبالتالي تتمخض دائما عن نتائج تحمل نفس جينات مقدماتها المتشاكلة والمتباينة ، أما الصدق ، فهو يصدر عن سياقات روحية ، لاتملك أمامها الا احترامها والانصات الي أطروحاتها ، بما يؤهلك لتمعنها ، بغية اكتشاف آفاقها ، بترو، يحمل اليك المتعة والمعرفة غير التقليدية . رؤي غير مسبوقة أجل ، لقد تضمن حواره الرائق : العديد من الرؤي غير المسبوقة ، والتي تستلهم - بالفعل - الروح الثورية الجديدة بكل امتداداتها الديموقراطية ،و التي تغمرنا هذه الأيام بعبيرها التسامحي النبيل ، في مناخ صحي من الاعتراف المتبادل ، ملغيا حقبة بائسة من ثقافة الاستقطابات الحادة مابين الفكريات المتباينة ، مؤمنا بحق الجميع في الحضور الفاعل ، شرط التوافق علي الحفاظ علي " قيم الدولة المدنية ومباديء المواطنة " علي حد قوله بالحوار ، وهو مايرهص بحقبة ثقافية تستشرف وتكرس التفاهمات المجتمعية التي تثري حياتنا ، من خلال انصهارها الجدلي الخلاق ، عثورا علي المشتركات القيمية المتناغمة مع مرجعيتنا الحضارية بكل تميزها وخصوصيتها . ودعوني أعترف أنني فوجئت بهذه الرؤي ، بعيدا عما اعتدنا عليه من مظاهر غرور الانتليجنسيا ، وطاووسية واستعلاء نخب التنوير علي اختلاف مشاربهم ، لنجد أنفسنا أمام مثقف يسعي للتعلم من الجماهير، بتواضع أخلاقي نادر ولائق . الأطفال أما" الزهرة "التي غابت ، بينما كانت تطل برائحتها طوال قراءتي للحوار ، فهي : الأطفال ، نعم الأطفال الذين غنوا ورقصوا فوق دبابات الجيش بميدان التحرير ، رافعين أعلامهم الصغيرة ، مشيرين بعلامة النصر ، الأطفال الذين تحولت وجوههم الجميلة الي حدائق ألوان زاهية مرسوم عليها رايات مصر وتونس وليبيا ، وهم يهتفون مع الكبار : الشعب يريد اسقاط النظام . الأطفال الذين اعتقدوا أنهم في عيد ، وهم يمتطون أكتاف آبائهم ويغنون : تحيا مصر ، وماأروع ماكانوا يعتقدون ، ألم تكن أيام ميدان التحرير أروع وأجمل وأغلي وأحلي وأعز وأنبل الأعياد ؟ نعم ، الأطفال الذين لم يقصد الوزير تغييبهم ، وهم الحاضرون عبر مقالاته المنشورة - سابقا- بجريدة الدستور المحتجبة ، والتي طالب فيها بتعليم وفكر جديدين لهم ، ينقذهم من محرقة الاستقطاب الطائفي ، وكان ذلك ابان تداعيات حادثة كنيسة نجع حمادي ، فمابالك الآن ياسيدي الوزير: وأطفالنا امتلكوا ذكرياتهم عن أحداث ثورة ميدان التحرير وآلامه الكبيرة ، وأفراحه الكبيرة أيضا ؟ الأطفال الذين احتفظت آذانهم الرقيقة بأغنيات الثوار وهتافاتهم ؟ الأطفال الذين اختزنت عيونهم السوداء الذكية رفرفات الأعلام المليونية ، ورددوا مع الكبار - ربما دون أن يستوعبوها جيدا - مفردات مثل : قانون الطواريء ، تغيير الدستور ، أمن الدولة ، الديكتاتور، الوحدة الوطنية ، الخ الخ ..؟ مبادئ ألا يحمّلنا كل هذا مسئولية المبادرة بوضع ثقافة الطفل في مقدمة أولوياتنا ، بحيث يتم حوار جماعي لاعادة صياغة العقل الجمعي لأطفالنا ، وفق سياق معرفي وابداعي معاصر ، ينتقل بهم من ثقافة التسلية وقتل أوقات الفراغ ، الي ثقافة ثورية تهيؤهم ليصيروا لاحقا : محاربين ابداعيين من أجل الجمال والمعرفة والمشاركة والشجاعة والثقة بالنفس والدفاع عن الحرية والعدالة ؟ أليس محتما أن نبادر الي تأسيس ثقافة : تساعد أطفالنا علي معرفة الواقع الوطني والقومي والعالمي، بكل حقائقه ، دون تجمل أو تزييف أو خداع وعي ؟ ان مؤسساتنا الثقافية المعنية بالطفل ، وكذلك سائر الفعاليات المساعدة كالمطبوعات والأعمال الفنية التي تنتجها الوزارة ، مطالبة بترجمة جوهر مرحلتنا الثورية الراهنة ، بما ينعكس ايجابا علي مكونات وعيه ووجدانه ، ومن ثم : أقترح علي السيد الوزيرالمبادرة بالإنصات الي المهمومين بالطفل المصري ، وخاصة وتحديدا من المبدعين والمفكرين الجدد، بعيدا عن الكثير من الوجوه التقليدية التي لاتزال تعيد انتاج الماضي ، والتي ارتبطت بأدبيات ماقبل 25 يناير ،نعم الانصات الي الرؤي الجديدة ، سعيا الي التعرف علي ملامح النبض المعرفي الطازج ، باستقبال الأطروحات الفكرية الشابة والمتجددة في هذا المجال ، لعلنا نتمكن معا : من" خلق زهرة صغيرة" كانت تراود" وليم بليك "