في مقال سابق كنت قد أشرت إلي أنني مواطن يحاول أن يعرب عن امتنانه ودهشته بعد أن اكتشف مدي عجزه وعجز جيله بأكمله عن تحقيق أحلام وطن، فقد اكتفينا في زماننا الضنين بالبوح والتنظير في عتمة المقاهي المتحلقة بميدان التحرير، ومن هنا وجب الاعتذار إلي طلائع شباب التحرير الذين أعلنوا بإصرار "نعم نحن نستطيع" وأن يتحققوا في ضوء نهار ساحة الميدان لتتحقق مصر الوطن والبشر العبقري . لاشك أن أحوال البلاد والعباد قد تبدلت بعد أن تقدم فتيان وفتيات مصرالمحروسة الصفوف، وأعلنوا ثورتهم للتغيير في 25 يناير الماضي، فقد اخترقت الآفاق صرخات رفضهم الواقع، وعلت في سماء المحروسة آهات غضبهم القوية من ميدان التحرير كبداية لتاريخ جديد لمصر، وعليه فإنني أري أن الدعوة موجهة لكل صاحب رأي وخبرة ووجهة نظر يمكن أن تحقق (إضافة إصلاح تطوير..) للعمل معاً لتأسيس مرحلة جديدة، لنتشارك بمنظور ورؤية جديدة لواقعنا علمنا إياها شباب مصري عبقري وطني بجد، فقد قالوا لنا وللعالم إنه لا شيء مستحيل ما دمنا قادرين علي دفع الثمن، ولدينا إرادة التغيير. إحساس بالخوف نعم قد يكون هناك إحساس ما بالخوف والتوجس من شكل وطبيعة الخطوات القادمة، ومدي نجاحها في تحقيق أحلام تلك الجموع التي احتشدت في الميدان بكل أطيافها الفكرية، وتركيباتها الاجتماعية والدينية والبيئية والتراثية، وبعد أن أدهشوا العالم بوقفتهم السلمية البديعة في مواجهة خطر الموت، وكتائب الغدر والجهل والتخلف التي حاولت العصف بأحلامهم الغضة الجميلة باستخدام كل ألوان الترهيب البالية الغبية، بداية من تجريدهم من سبل التواصل الاجتماعي العصرية، مروراً بدفع خراطيم المياه في اتجاه جموعهم وهم يؤدون الصلاة، ووصولاً إلي حصد أرواحهم بسيارات ومدرعات تخترق صفوفهم لتدهس أجسادهم دون رحمة أو واعز من دين أو ضمير، وأخيراً بمباغتتهم بفلول التخلف الممتطية الخيول والجمال، فلم يبالوا وقدم نخبة رائعة منهم قربان الشهادة علي مذابح الفداء من أجل الحرية والتغيير والولوج إلي عالم جديد. وبينما تتصاعد وتيرة الأحداث في الميدان، وسقوط مئات الجرحي واستشهاد عدد هائل من شباب واجه جحافل الشر بصدور عارية، كان خروج بعض رموز وقيادات المؤسسات الدينية، ليدلوا بتصريحات وتعليمات وتوجيهات مؤسفة يدعون أنها بدافع الأبوية والحرص علي استقرار البلاد، فأخرجهم موقفهم عن كادر المشهد الوطني المحتشد الداعم لشباب قرر بكل فئاته أن يرفض الخوف، مُقدماً نموذجاً مُلهماً للعالم كما وصفه الرئيس الأمريكي. ونحن نستشعر أن رياح التغيير التي تحمل نسمات الحرية، أما كان ينبغي علي الكنيسة وقياداتها علي سبيل المثال فهم الظرف التاريخي الوطني، وقراءة معطيات المشهد الإنساني البديع في تفاصيله، قبل أن تناشد شبابها الابتعاد عن ساحة العطاء و المشاركة في أحداث يناير ؟! إن إصرار تلك القيادات علي تبني تلك المواقف السلبية في تجاهل لرسالة المؤسسة الدينية كان أمراً مؤسفاً من جانب هؤلاء الذين طالما صدعوا أدمغتنا بالدور الوطني للكنيسة بعد أن اختزلوه للأسف في قرار منع أبناء الكنيسة من الذهاب إلي القدس، والوقوع في خطأ إنزال عقوبة روحية لمخالفة أمر وقرار ذات طبيعة سياسية! يبدو أن الكنيسة ورموزها لم يدركوا أن فرض الوصاية علي قرارات الناس ومشاعرهم أمر لم يعد ممكناً، فقد تجاوزنا عصور المنع والمنح البطريركي في الشأن الحياتي الخاص لجموع المؤمنين، فكان ردهم في الميدان بالمشاركة يداً بيد مع إخوتهم في الميدان الوطن، شاركوهم الحب والعطاء والفداء والتفاعل الإنساني النبيل الذي أدهش العالم .. صلوات وترانيم مسيحية لأول مرة في الميدان الرحيب خارج أسوار الكنيسة، تسبقها أو تعقبها صلوات وتسابيح ودعوات إسلامية في مشهد بديع غير مسبوق حتي أثناء ثورة 1919 التي حملت شعار الهلال والصليب. أعتقد أن هناك ثمة متغيرات أحدثتها ثورة يناير باتت تفرض علينا مراجعة شكل العلاقة بين المؤسسات الدينية والدولة.. لا أظن علي سبيل المثال أنه بات مقبولاً أن تمثل الكنيسة المواطن المسيحي والتحدث بالنيابة عنه، ولم يعد لائقاً أن تختطف الكنيسة دور المؤسسات الاجتماعية والدينية، ولا انشغال الكهنة بأمور دنيوية كالإدارة وتجهيز المصايف وإنتاج الأعمال الفنية وتشغيل القنوات التليفزيونية الدينية، وغيرها من المهام علي حساب الدور الروحي.. بعد تاريخ 25 يناير لابد أن نتوقف جميعاً لإعادة توزيع الأدوار والخروج من حالة التوهان والضياع لحساب أصحاب مصالح وطموحات ضيقة .. لقد اختار أصحاب ثورة يناير الحلول غير التقليدية والإبداعية الطموحة التي ترفع شعارها " نعم نستطيع "، وعلي كل مؤسسات الدولة أن تعي أهمية الدفع في هذا الاتجاه والاستفادة بكل ثروات الوطن البشرية الإبداعية. لاشك أن أحوال البلاد والعباد قد تبدلت بعد أن تقدم فتيان وفتيات مصرالمحروسة الصفوف، وأعلنوا ثورتهم للتغيير في 25 يناير الماضي، فقد سطرت صرخات رفضهم الواقع، وآهات غضبهم القوية في ميدان التحرير بداية تاريخ جديد لمصر، وعليه فإنني أري أن الدعوة موجهة لكل صاحب رأي وخبرة ووجهة نظر يمكن أن تحقق ( إضافة / إصلاح / تطوير..) للعمل معاً لتأسيس مرحلة جديدة، لنتشارك بمنظور ورؤية جديدين لواقعنا علمنا إياها شباب مصري عبقري وطني بجد، فقد قالوا لنا وللعالم إنه لا شيء مستحيل ما دمنا قادرين علي دفع الثمن، ولدينا إرادة التغيير. فكر المواطن والكنيسة يقول الأب الراحل متي المسكين : رجل الدين بوجه عام يجب أن يمثل فكر المواطن الحر ويمثل فكر الكنيسة أيضاً . فإذا تكلم كان مسئولاً أمام الدولة عن كلامه فيما يختص بالأمور الزمنية سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية او سياسية ... لذلك يلزم الكنيسة ألا تأمر رجل الدين ألا يتكلم إلا فيما يختص بالشئون الكنسية وفي دائرة اختصاص المسيحية حتي لا تقف الكنيسة مسئولة أمام السلطان الزمني، لأنها لا تسأل قط إلا أمام المسيح روحياً. ويضيف المسكين: إن رجل الدين عامة له كل حقوق المواطن الحر، والرسامة لا تلغي شخصيته كإنسان وإنما تضيف إليها صفة كنسية، ولكن صفة الكاهن الكنسية لا تعطيه حصانة ضد مؤاخذات الدولة، فهو يمثل أمام الدولة كمواطن أولاً وقبل كل شيء . لذلك يلزم أن يكون حريصاً في معرفة الواجبات التي تربطه بالدولة، وحقوق الوطن عليه يؤديها جمعاً في دقة ومبادرة، وكما سلك السيد المسيح، يسلك هو أيضاً ناظراً كيف بادر المسيح ودفع الجزية دون احتجاج مع أن القانون آنئذ لم يكن يسمح يجمعها من المواطنين وإنما من الغرباء فقط .. والكاهن في النهاية رب أسرة جسدية أفرادها كلهم مواطنون للدولة يعولهم من عرق جبينه، لذلك فله لدي الدولة حقوق المواطن الكادح، وله أيضاً أن يعلن عن رأيه كمواطن مسئول ويعطي صوته في حينه . كما أن الكاهن أيضاً راعٍ لشعب، لكن بسبب أن الكنيسة لا الدولة هي التي أقامته علي الشعب، فإنه يصبح مسئولاً عن رعيته أمام الكنيسة وليس أمام الدولة، كما يصبح عليه أن يعلم رعيته بما تأمره به الكنيسة التي أقامته .. ولا يتسلط الكاهن علي شعبه كحاكم لكن كخادم وبخوف من الله كما يقول الكتاب المقدس نفسه " إذا تسلط علي الناس بار يتسلط بخوف الله، وكنور الصباح إذا أشرقت الشمس " ( 2 صم 23 : 3، 4 ). ملحمة بديعة في أعقاب أحداث 25 يناير، وبعد أن صاغ المتعايشون في ميدان التحرير ملحمة بديعة في التواصل الوطني والإنساني .. لم نر الأقباط الموجودين في الميدان يتباكون كما اعتاد بعض رموزهم القيادية للأسف في الفترة الأخيرة وهم يرددون عبارات التعبير عن الظلم الواقع عليهم، وكيف باتوا مهمشين .. إلخ، ولم يقم إخوتهم من الملتحين والمنتقبات بإلقاء العظات والدعوة .. لقد اندمج الجميع في رحاب الميدان الوطن، واتفق جميعهم علي أهمية الدعوة والمناداة بإقامة دولة مدنية عصرية، وأنهم يرفضون ان تتحول المؤسسة الدينية إلي دولة صغيرة داخل دولة كبري لمجرد افتراض فساد الدولة الكبري أو عدم قيامها بدورها المنوط بها. فلا يصح ان تضع كل مؤسسة دينية نظاما لحكم أبنائها والمترددين عليها بما يلاكم معتقداتها الخاصة بها، فلابد ان يشمل الدستور العام للدولة كل هذه الحيثيات فلا تتجه أي مؤسسة إلي صياغة قانون أو لائحة خاصة بها وتضيع هيبة الدولة عندما نراها تحاول ان تتصالح مع هذه المؤسسات وتحقيق رغباتها، ويرون ضرورة الوضع في الاعتبار عند صياغة الدستور ما يضمن تحقيق مصالح جميع المواطنين دون تفرقة.. وتضمينه أيضاً ما من شأنه مناهضة كل ألوان التمييز علي أساس الهوية الدينية، أوالتركيبة الاجتماعية، أو الجنس .. إلخ. لقد دأب النظام في الفترة الماضية اللجوء الي الكنيسة علي سبيل المثال لترشيح اعضاء مجلس الشعب من المعينين من قبل الدولة وكان رضاء الكنيسة واختيارها الاساس الاول لهذا التعيين - في اغلب الاحوال - لكن الدولة التي عاملت الكنيسة علي انها مسئولة عن الاقباط كانت تغضب اذا ما تزعمت الكنيسة جماعة الاقباط او تضامنت معهم في غضبهم كما حدث مثلا في ازمة وفاء قسطنطين.. فعل ورد فعل لا يمكن قبولهما. لقد راعني وأسعدني أن يقول الرئيس الأمريكي أوباما الدولة الأكبر والأكثر صلفاً وعجرفة في رؤيتها، والتي كان لا يخرج أحاديث قادتها عن مفردات الوصاية والحماية .. قال في وصف ما حققه شباب مصر "لقد حولوا التاريخ نحو العدالة"، و"لقد رأيت بشرا مختلفة أديانهم يؤدون صلواتهم في ميدان التحرير " و" لقد ألهمتنا ثورة شباب مصر" و"عجلة التاريخ تحولت بوتيرة سريعة، فيما طالب الشعب المصري بحقوقه الكونية "و" شاهدنا جيلاً جديداً موهوباً ومبدعاً ويطالب بحكومة ممثلة لآمالهم". إنها لم تكن العدالة فحسب التي خرج من أجلها شبابنا، لكن أيضاً من أجل تحقيق الديمقراطية، وضرورة المحاسبة، وإيقاظ الوعي الوطني، وحرية العيش الآمن، وحلم إقامة دولة مدنية .. تلك بعض دوافع ومحركات شباب كان لديهم الإصرار علي وضع شعبهم علي بداية طريق السعي إلي تحقيقها .. يري البعض - للأسف - أن مطالب الأقباط حتي لا يتم تهميشهم داخل الوطن، هي مطالب ينبغي أن يستجيب لها النظام، وأن إصدارمجموعة من القرارات أو القوانين يمكن أن تكون كافية لترضيتهم، وأري أن جموع الشباب في ميدان التحرير قد توصلوا لمفهوم أبقي يؤكد علي أن تحقيق العلاقة بين الناس علي أساس توحيد الهدف والرؤية لشكل الدولة والنظام وملامح المستقبل، هو الأمر الأهم ..كيف السبيل إلي إقامة دولة مدنية ونحن نعمل علي تقوية شوكة المؤسسات الدينية ؟!.. لقد تحدث الشباب في الميدان عن أهمية مواجهة حالة العمي الاجتماعي، ومناهضة طائفية الفكر والتفكير .. نسمات الحرية قادمة فهل نحن جاهزون ؟!