هل نحن موتي أحياء أم أحياء نعشق الموت حينما نتلمسه ونتحسسه نفتش عنه أينما كان ؟ هل من الممكن أن يتعايش البشر مع الموت ويطيعوا علاقتهم به فيحيا معهم ويحيون به، فيصير الحي ميتًا والميت حيًا، أحسست بتلك المشاعر تجتاحني كطوفان هادر فور انتهائي من مشاهدة العرض المسرحي «شيزلونج» باكورة إنتاج ورشة حلم الشباب إخراج محمد الصغير - لقد شعرت أن العرض لا يتحدث فقط عن حالة شبابية أو عن معاناة لبعض الشباب وتصوراتهم الخاصة لقضايا المجتمع لكن شعرت أن العرض يتحدث عن 80 مليون مصري يقعون تحت طائلة قانون المرض النفسي - إن جاز التعبير- لقد هتفت بيني وبين نفسي بالفعل نحن مرضي نفسيون وينقصنا شيزلونج وطبيبًا نفسيا، لكن استحالة أن نجد لل 80 مليون مصري 80 مليون طبيب نفسي جعلتني انصرف عن تلك الفكرة رغم عذوبتها ووجاهتها فاختلاط الحابل بالنابل في كل ما يتعلق بنا كمصريين أصبح السمة السائدة والبضاعة الرائجة التي يتاجر فيها الجميع الحق ألبسناه ثوب الباطل والباطل ألبسناه ثوب الحق، اختلت القيم وانهارت الأخلاق فكان لزاما علينا أن نرفع شعار المرحلة وهو «شيزلونج لكل مواطن مصري» وأن نقع صرعي للأمراض النفسية نظرا للتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحادة والتي قلبت المجتمع رأساً علي عقب فأصبح مجتمعا مقلوبا اسفله أعلاه وأعلاه اسفله فلا منطق ولا رؤية ولا فكر للبؤس وما بين اليأس والبؤس حاول الطبيب النفسي في هذا العرض اللعب علي ثنائية الظاهر والباطن بداخل كل منا لكي نتحرر من عقدنا النفسية ونصطلح مع الحياة. شيزلونج والدراماتورج شيزلونج اسم موح فور سماعه تستقبل مخيلتك صورة تكاد تكون ثابتة لمريض يرقد فوق شيزلونج وبجواره كاسيت وبينهما طبيب نفسي تلك هي الصورة الكلاسيكية، أما الشيزلونج في هذا العرض المتميز فصورته مختلفة ومتحركة فهي ليست تقليدية بقدر ما هي صورة معنوية ونفسية فليس هناك شيزلونج بالمعني المتعارف عليه فوق الخشبة وأيضا ليس هناك بقعة فوق أرضية الخشبة لا يسكنها أو يحتلها هذا الشيزلونج هكذا أراده وأقام بكتابة تلك الارتجالية التي تناقش كل شيء من منطلق نفسي، لذلك لعب من قام بالكتابة علي ثنائية الظاهر والباطن في رسم عشرات الشخصيات التي شاهت معالمها النفسية بفعل الضغوط فلم تعد تتعرف علي ذاتها، هذا هو المستوي الظاهري أو الظاهر، أما المستوي الثاني فهو لعبة الفضفضة الاختيارية التي يلعبها الطبيب مع مرضاه كي يجعلهم يخرجون ما بداخلهم، وهذا هو المستوي الباطني والباطن من تلك الثنائية الظاهر والباطن انطلق من وضع نص العرض معتمدا علي فرضية درامية فحواها أن هؤلاء المرضي لن يخرجهم من أزمتهم إلا بمواجهة المرض وتحديه وتعريته، ولكن كيف السبيل إلي ذلك؟ إنه المسرح.. نعم المسرح إنه العلاج بالمسرح، أو مسرح السيكودراما كما أعلن الطبيب في بداية العرض هنا يبدأ تكنيك التداعي الحر الذي استخدمه من قام بالكتابة لتجسيد آلام ومعاناة عشرات النماذج البشرية التي تمثل قطاعا عريضا من هذا الوطن المثخن بالجراح، فنحن بإزاء مجموعة من المرضي النفسيين جمعهم الطبيب لكي يعرضوا آلامهم ومعاناتهم أمام بعضهم البعض طارحا من خلال كل حكاية وحكاية قضية تشغل الرأي العام، إنها قضايانا جميعا حتي وإن بدت شخصية فحكاية الفتاة البدينة بدت أول الأمر كنكتة وانتهت إلي فاجعة حينما جرحت كرامتها من شاب أحبته فسخر منها أمام الجميع، إنها الكرامة الإنسانية في أجلي صورها والملاحظ علي من قام بالكتابة أنه يبدأ الحكاية من وجهة نظر كوميدية حتي يجذب الجمهور ثم يصعد ويصعد بالحكاية إلي أن يصل إلي ذروتها بالشجن وبالبكاء أو بالاستهجان أو الاستنكار، المهم أن النص الارتجالي له بناؤه الخاص وبنيته الداخلية فلا يوجد هنا ارسطو ولا يحزنون، فالجميع في حالة حِداد رسمي حتي وإن غلفت هذه الحالة بالكوميديا وتحديدا بتقاليد الكوميديا دي لارتي أو انتهجت لتصبح الكباريه السياسي، كل هذا لا يخفي ما بالداخل أو الباطن أو ما تحت الجلد - لقد امتلأ العرض بعشرات الحكايات المؤلمة والضاحكة ، فالمساحة هنا مفتوحة والأفق رحب والوطن كلما تقدم به العمر ازداد شحوبا وألما وقهرا بما أصابه من ابنائه، ومن ثم تزداد الحكايات، والواقع أنه رغم رحابة الأفق البنائي للعرض وقدرته علي طرح مئات الحكايات إلا أن حالة من التشتت الذهني أصابتنا، لذلك استلزم الأمر كاتبًا دراميًا محترفًا أو دراماتورج لأن كثيرًا من العروض تأخذ بمنطق الاستسهال فيقوم المخرج بدور الدراماتورج، وغالبا ما تأتي الصورة مشوهة ولكن في حالة شيزلونج، فالأمر جد مختلف، فالمخرج رغم فهمه للدراما وأبعادها أرهق بناءه الداخلي للعرض فكثرة أفكار مجتمعية ومصيرية كانت في حاجة ماسة لمن يضعها في سياق درامي خالص حتي لا يحدث التشتت لدي المتلقي العادي والمتخصص بسبب زخم الأفكار وحيويتها واشتباكها مع واقع المتلقي اشتباكا يكاد يكون تحريضيا، فمن حكاية الفتاة البدينة يدلف كاتب النص إلي العلاقات الاجتماعية المتفسخة والعلاقات الأسرية المهترئة التي أسلمت الجميع إلي الازدواجية فهناك حكاية يرويها أحد الشباب عن كرامة المواطن المصري المحفوظة إنها السخرية سلاحنا الوحيد إنه الجرح الدامي حينما يهابه المواطن وتسحل وتسحق كرامته في وطنه لا تسأل عن الانتماء بل أصرخ في البرية لماذا تفعلون ما تفعلون، وتلك حكاية أخري مطروحة ضمن عشرات الحكايات الحزينة داخل العرض فهناك أيضا الحكاية الأثيرة والتقليدية حكاية الفتي والفتاة وقصة الحب العنيف بينهما كذلك الصعوبات عن أهل الطرفين وهناك أيضا الحكاية الطريفة التي ألمت بأحد الزملكاوية فأصيب بهستريا فور هزيمة فريقه الزمالك الذي يعشق من بني عبيد وأصبح لديه عقدة من مجرد ذكر اسم أبو تريكة أو جدو وهناك الشاب الثري الذي تنحصر مشكلته في أنه لا يوجد لديه مشكلة حيث يعاني من الفراغ الروحي والفكري فيلجأ إلي الالتحام بالجماهير مرة داخل ميكروباص ومرة داخل مترو الأنفاق ورغم ذلك يظل معالقًا في الهواء إنه الفراغ النفسي، وهناك أيضا حكاية جدو بتاع الاستقلال والمقارنة بين أيامه وأيامنا «جدو بتاع الاستقلال أحاله إلي زمن الزعيم عبدالناصر» وهناك حكاية الطريق الدائري الذي أصاب الناس بالرعب والفزع بسبب حوادثه المتكررة وهناك حكاية الشاب النوبي الذي يطرح مشكلة النوبة بحس كوميدي مغلف بالشجن والألم.. فكثيرة هي الحكايات التي كانت تروي علي لسان ابطالها وتصبح المجموعة في الخلفية لحظة الرد مجرد كومبارس ومن الواضح أن تلك الأفكار والحكايات المشتتة لا تنبع إلا من نفوس مشتتة ومبعثرة ومقهورة لذلك جاءت الحكايات أشبه بنتف الحكايات أو بقايا الحكايات حيث يتم من خلالها تمرير مقولات سياسية واجتماعية مثلما حدث مع نسيج الأغاني التي تغنت بها الفتاة المنطوية والتي تعشق الغناء لحد الهوس، يتم تمرير مقولات عبر الأغاني تكاد تكون نبضها لما يتفوه به الشباب مثل أغنية «البلد دي» معاندة نفسها وأيضا «البلد دي» مصدرة لينا الوش الخشب لكي تترك هؤلاء فريسة للبطالة والانتحار والهجرة غير الشرعية والرشوة والفساد والعنوسة، وانتظار الذي يأتي ولا يأتي كذلك تحمل كل شاب منهم شيزلونجه ومضي دون أن يفقد الأمل هكذا تأتي النهاية في عرض اعتبره حركة احتجاجية شبابية مسرحية فئة باعثة حركة فنية سلمية علي غرار الحركات السياسية مثل كفاية و 6 أبريل ومواطنون من أجل تغيير. الرؤية التشكيلية والإخراجية بعد أن شاهدت للمخرج الموهوب محمد الصغير عرض روميو وجولييت وأنا أراهن عليه وأزعم أن رهاني قد أصاب بهذا العرض، فالعرض يقف وراءه مخرج يمتلك وعيا جادا بأدواته مثلما يمتلك وعيا جادا بقضايا أمته، ومن هنا جاء التميز في عنصر الديكور الذي أعتبره درسا في البساطة والعمق ، فالديكور عبارة عن مجموعة من الصور، صور لمصريين محبطين وضعت فوق الجدران، وأيضا أياد حمراء نظام الخمسة وخميسة وأيضا صور من الممكن أن نطلق عليها صورا سريالية لأناس أرجلهم في السماء ورءوسهم مدفونة في الأرض إنه الهرم المقلوب أو المجتمع المقلوب، كما أوضحت في البداية كما عبر عنه ببساطة وعمق مصمم الديكور «محمود حنكش» مقدما درسا بليغا لهواة الاستعراض في استخدام الديكورات الضخمة وكما جاء الديكور معبرًا عما يطرح داخل العرض استطاعت ملابس الفريق الواحد التي تزيا بها الجميع أن تنقل لنا رسالة أن همومنا مشتركة وآلامنا واحدة فلماذا لا تكون ملابسنا أيضا متشابهة كمآسينا - وتمضي سيمفونية التميز بنا لتقودنا إلي الخطة التي وضعها المخرج للإضاءة المسرحية، فالمخرج أدرك منذ البداية أنه بإزاء حالات مرضية لذلك صنع عدة حالات ضوئية درامية ثابتة للمشاهد التي يسرد فيها الشباب أزماتهم ويصعب أن ننهي حديثنا عن هذا العرض دون الإشادة والاشارة إلي الأداء التمثيلي لكتيبة المحتجين أو الفنانين القادمين بقوة رغم نقص الخبرة ورغم هذا فلقد استمتعنا بحيوتهم وحماستهم وصدق أدائهم وحرارة مشاعرهم ودفء أحاسيسهم إليهم جميعا. أتوجه بالشكر علي هذا الجهد الرائع ل: أحمد مجدي، وليد الهندي، محمد خطاب، بلال علي، محمد أنور، بسام عبدالله، ريهام سامي، مصطفي أحمد، لقاء الصيرفي، رامز سامي، حمدي أحمد، حمدي التايه، سارة درزاوي، مصطفي خاطر، رانيا عبدالمنصف، ياسمين فهمي، إسماعيل السيد، عمرو بهي.