في البداية كيف تم حريق المرسم؟ - كنت أستعد ليلة الحريق لإتمام اللوحة الأربعين في معرضي لعام 2010وقد أنهيت اللوحة بالفعل ولكنها لم تجف بعد فأشعلت مدفأة كي تجففها ثم غفوت لبعض الوقت واستيقظت علي حريق المرسم. وماذا عن الأعمال التي احترقت وما المراحل التي تمثلها؟ - الأعمال التي احترقت تمثل جميع المراحل الفنية ومنها 15 لوحة من المرحلة الأخيرة فالمعرض كان يضم 40 لوحة كنت قد احتفظت ب 25 لوحة في مكان آخر بعيد عن المرسم. لكن الحريق أتي علي أرشيف كامل عن شغلي ومؤلفاتي ومخطوطات كنت احتفظ بها علي مدار سنوات طويلة وكذلك اسكتشات ودراسات عديدة رسمتها خلال زياراتي لمحافظات مصر وأقاليمها علي مدي ثلاثين عاماً. فكل ما جمعته علي مدي سنوات طويلة فُقد في أقل من ساعة ويبدو لي وكأن المكان قد مر بحرب. ما شعورك تجاه الأعمال التي احترقت؟ - شعور مضن بفقد الأعزاء والأحباب. أعمالي جزء مني ولكني أحتسب هذه الأعمال عند الله حتي أستريح حيث أعتبر أن هذه اللوحات شهيدة بها غرائبية الواقع والوجود وما يتواشج مع ما حدث لي أكثر من مرة. كما أن هاجس الأطلال الباقية من مدننا المندثرة لم يبرح وجداني وفكري من أكثر من ربع قرن، متوازياً مع ما ينتاب الوطن من أحداث وفي هذه الأطلال خلاصة ما مضي وانقضي بكل ذكرياته وعبقه وعنفوانه. وبها نبض المقاومة والصمود ضد الفناء حتي ولو واجهت الأحياء والموتي من البشر الذين تحجرت نفوسهم في خضم التحولات الكاسحة. ألا يمكن أن تستعيد الأعمال التي احترقت بطريقة ما ؟ - من الممكن أن أستعيدها في أعمال أخري ليس عن طريق تقديم نسخة مكررة لها وإنما قد تكون مادة تغذي أعمالي القادمة. فقد رأيت نورا من قلب النار. نور ميلاد أعمال قادمة وهذا ما جعلني أصبر وأقفز علي الشدائد لإيماني بأن العمر لن يتوقف عند كارثة ما.فقد مررت بتجربة مماثلة لها عام 1976 عند حريق مرسمي في المسافر خانة والاعتداء علي جسدياً ورددت علي هذا الحادث بمعرض في نفس العام في المركز السوفييتي. ما ردود الفعل التي تلقيتها من زوار المعرض؟ - وجدت ردود فعل عالية جداً واكتشفت أن ثمة حضنا إنسانيا كبيرا كنت بحاجة إليه في هذا الوقت العصيب.ولكن أغلبهم كانوا من خارج دائرة الفن التشكيلي حيث إن زوار معرضي من التشكيليين كانوا قليلي العدد وهوما لم أتوقعه من دائرتي الفنية. إذن ماالرسالة التي تركها لك حريق المرسم؟ - في الحقيقة هي عدة رسائل وليست رسالة واحدة أولاً: إن الحياة أكبر من أي إبداع فني يقدمه الفنان ويرتبط به علي مدي عمره.الفن الذي نقدمه في ساحة الإنسانية يرتد إلينا بطريقة إيجابية. ثانياً: إن الحياة لا تتوقف عند أي محنة مهما كانت قوية فقد استطعت بإصراري أن أقف علي قدمىّ مرة أخري بعد ثلاثة أيام من الحريق وأقدم معرضي في توقيته المحدد سلفاً. ثالثاً: يجب علي الفنان ألايكرس حياته للنخبة فقط بمعني أن وسط المثقفين بصفة عامة والفنانين بصفة خاصة كانوا أقل احتضاناً لي في الأزمة، فقد كنت انتظرمن عائلتي نقابة التشكيليين واتحاد الكتاب والجمعيات الأهلية وكل ما ساهمت فيه أن يقف بجواري للخروج من المحنة. تم تغيير اسم المعرض من فانتازيا الحجر والبشر إلي عصفور النار، فماذا عن هذا التغيير؟ - هذا رد فعل طبيعي للحريق، فقد كان الحجر والبشر بالمفهوم السابق. كيف للحجر أن يتأنسن والإنسان أن يتجمد ويتحجر. عصفور النار هو ثمرة مباشرة لما حدث بعد الحريق وهو أنني ولدت من جديد مثل عصفور النار في الأسطورة القديمة التي يقول البعض إنها يونانية ولكن الأصل فيها أنها عربية وهي العنقاء هذا الطائر الذي يتجدد من الرماد كلما احترق.شعرت بانني هذا الطائر وبأني أتجدد مرة أخري. والغريب أن هذا العنوان بالذات كان موجوداً علي لوحة رسمتها عام 1976 بعد حاث المسافر خانة وكان جزءا من كتالوج ذلك المعرض فوجدته بالصدفة وأنا أبحث في الرماد وكأنه ولد من هذا الرماد فأخذته بحروقه وثّبّته علي اللوحة معتبره شهادة ميلاد جديدة. ترتبط أعمالك بالمجتمع، فما خلفية هذا الارتباط؟ - هذا الارتباط أفادني كثيراً عند حدوث محنة لي لأني وجدت دفء هذا المجتمع البسيط الذي ارتبطت أعمالي به.ويجب التفريق بين المجتمع في أشياء مباشرة وبين المعاني العامة والقيم التي يجب أن يتبناها منها التغيير. وهذا المعرض به عواصف وهو بمثابة محاولة للخروج والانطلاق. المعرض هو الجدلية بين الحجر والبشر، التجمد والحركة، العاصفة والصخر الثابت. وتعبيري عن المجتمع ليس تعبيرا وقتيا مرتبطا بفئات أو طبقات معينة وإنما يرتبط بوعي اجتماعي يستنهض الركود والموارد الحياتية. كيف تري النقد التشكيلي الحالي وخاصة أن البعض يري أنه غائب عن الساحة؟ - أنا مع هذا الرأي رغم أنه يمثلني شخصياً لأني ناقد وممارس للفن التشكيلي. لكن ماذا يفعل الناقد وسط مجموعة تتهجي النقد أو تُسقط آراء آخرين كما هي أو تضع الفنان في قالب معين كي يساير التطور. مجموعة تخضع النقد للأهواء الشخصية وتقسم النقد حسب الفنان وميزته. كل هذا لايصنع حركة صحيحة أو يخلق تفاعلا حيا بين تيارات ابتكارية. فمن يختلف في الرأي لايختلف برؤية مستعارة وإنما همه أن يقول إنه مع الموجة أو الحداثة في الوقت الذي لا يعي هو نفسه مفهوم الحداثة. ذلك المفهوم الذي من الممكن إيجاده في فن فطري. وهذا ما وصل إليه فن الحداثة في الغرب بالرجوع للفن الفطري. وهناك بلا شك اجتهادات طبيعية لعدد محدود من النقاد لهم منهج نقدي ورؤية تمتد بين كل اتجاه واتجاه آخر. لكن توجد أزمة حقيقية وهي ليست بعيدة عن الحركة الفنية التي تضم هذه المتناقضات. كما أن الناقد موهبة وليس ناقدا بالصدفة. والنقد الحقيقي هو الذي يتقدم صاحبه بمؤلفات في كتب تحمل رؤي فكرية بعيداً عن المتابعات الصحفية. أو مشروع نقدي يحمل وجهة نظر مدعمة بقراءات ورؤي لواقع مصر وارتباطه التاريخي والمجتمعي. وبما أن كل هذه الأشياء ليست موجودة إذن النقد غائب بالفعل. وما دورك كناقد إزاء هذه المشكلة؟ - لقد حاولت وقدمت ما أستطيع ولكني في النهاية موزع بين عملي كفنان وناقد ولكن عندما يوجد نقد حقيقي سوف أنسحب من ساحة النقد لأنني حينها سأكون اطمأننت بأن الموجود يؤدي رسالته لكن في غياب من يؤدي هذه الرسالة سوف أستمر في أداء النقد باعتباره واجبا. إذا كان هذا حال المشهد النقدي فماذا عن المشهد التشكيلي؟ - الحالة التشكيلية في كلمات موجزة من حيث الكم هائلة الحجم ومن حيث التعدد في الرؤي شديدة الاتساع لكن من حيث العمق قليلة الغور. جمعية أصالة مازالت تكافح من أجل الاستمرار، فإلي أين وصلت؟ - بالفعل مازالت الجمعية تكافح من أجل الاستمرار والبقاء لأن هيئة الآثار تهدد بفرض وصاية وحصار عليها. ومازلنا حتي الآن نبحث لها عن مكان تحت الشمس ليس كجمعية لكن كعشاق للتراث وحماة له.هناك نكوص وغياب كامل من جانب مؤسسات الدولة للدفاع عن هذا التراث وبخاصة تراث الحرف التقليدية. في نفس الوقت نجد اهتماما مشهودا بالتراث الميت المتمثل في الآثار ولكن التراث الحي المتمثل في العمارة الشعبية فيما نرتديه ونستعمله في حياتنا اليومية فليس رباً يحميه. أخيراً لماذا انسحبت من ساحة الأدب إلي ساحة التشكيل بعدما كانا الاثنان يسيران بخط متواز؟ - التشكيل والفن يحتاجان لعمر بمفردهما.كما لاحظت أن كل فن يغير علي صاحبه من الفن الآخر.فنحّيت الأدب جانباً وانغمست في العمل التشكيلي وبداخلي ميل شديد للأدب واهتمام به وأشعر بذنب شديد لتركه لكن لدي الكثير مما سأقوله لاحقاً. كنت انتهيت من رواية جديدة ولكنها احترقت أيضاً لكن سأعكف علي إعادة كتابتها مرة أخري.وهي بعنوان"نداء الوحي" تتناول حياة مجموعة من الفنانين خرجوا معاً في زيارة لواحة سيوة وعاشوا في هذا العالم القديم ومن ثم تظهر تناقضات البشر والفنانين والمثقفين مع أبناء الواحة في علاقات جديدة، وهذا جو محتلف عن رواية الأديب بهاء طاهر "واحة الغروب".