فجرت أزمة وزراء المعارضة في لبنان الذين قدموا استقالتهم الأربعاء الماضي مفاجأة جديدة من العيار الثقيل علي الساحة السياسية الداخلية حيث أدت إلي انهيار حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بعد مخاض عسير و مرحلة من الشد و الجذب أدت إلي فراغ سياسي لفترة طويلة. وكان عشرة وزراء من وزراء حزب الله وحلفائه قد استقالوا من الحكومة بالإضافة إلي الوزير الحادي عشر، عدنان السيد حسين، الشيعي المحسوب علي رئاسة الجمهورية، علي خلفية نزاع مع سعد الحريري حول المحكمة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005، وفشلت خلالها جهود الوساطة السعودية -السورية في تهدئة الأجواء المضطربة. والوزراء العشرة هم خمسة شيعة (اثنان من حزب الله وثلاثة من حركة أمل) وخمسة مسيحيون ينتمي ثلاثة منهم إلي التيار الوطني الحر برئاسة العماد ميشيل عون وينتمي الآخران إلي تيار المردة المسيحي بزعامة النائب سليمان فرنجية و الحزب الطاشناق الأرمني. وتسببت استقالة الثلث زائدا واحدا من وزراء حكومة الحريري في إقالتها في ضربة استباقية من المعارضة قبل صدور القرار الاتهامي للمحكمة الدولية، وفي الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء سعد الحريري يجتمع بالرئيس الأمريكي باراك أوباما في واشنطن لتحمل بذلك رسالة إلي كل من يقومون بدعم المحكمة الدولية. خلاف حول تسمية رئيس الحكومة وأعلنت رئاسة الجمهورية اعتبار حكومة الرئيس سعد الحريري مستقيلة وقامت بتكلفتها تصريف الأعمال علي ان يبدأ الرئيس ميشال سليمان الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة الجديدة في جو ساده تعنت رموز المعارضة ضد أي احتمال تسمية سعد الحريري، وأكد محمد رعد، رئيس كتلة نواب "حزب الله" أن المعارضة "ستسمي من له مسيرة مقاومة وطنية". وأعلنت مصادر من داخل حزب الله أن الخيارات "مفتوحة علي كل الاحتمالات حكومياً وميدانياً، وان ما تم الاتفاق عليه بين السعودية وسوريا كان الحد الأدني المقبول، أما اليوم فإنه لن يقبل بتشكيل حكومة شبيهة بالحكومة الحالية". وأكد يوسف سعادة، وزير الدولة في حكومة تصريف الأعمال، أن المشاورات جارية بين أطراف المعارضة قائلاً "لم نتخذ بعد القرار حول كيفية التعاطي مع المرحلة المقبلة، فالمحكمة الدولية ستوقعنا بالفتنة والمطلوب أن يكون هناك حكومة لبنانية تتصدي لهذه المحكمة عبر قرار واضح برفض التعامل مع قراراتها الهادفة إلي الفتنة في لبنان". وعلي الصعيد الداخلي، أشارت مصادر رئاسية إلي "أن تشكيل الحكومة لن يكون سهلاً وان التحرك الدولي جارٍ علي قدم وساق في هذا الإطار، وأن التواصل قائم بين الجانبين القطري والفرنسي ورئيس الجمهورية لإيجاد حل للأزمة الراهنة انطلاقاً من التسوية السعودية -السورية، وأن الرئيس الفرنسي ساركوزي لديه أفكار لتقريب وجهات النظر السورية الأمريكية قد تتبلور أكثر في الأسبوع المقبل". أما مصادر قوي 8 آذار فقد أكدت أن "الرئيس بري يقوم باتصالات نشطة مع الجانبين السوري والقطري لأن الجميع يرغب في ان تبقي الأمور ضمن إطار الاستقرار الأمني والممارسة الديمقراطية، وفي إطار محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المبادرة السعودية- السورية التي عبّر رئيس الحكومة في أكثر من مناسبة عن موافقته علي السير بها". وشهد الداخل اللبناني تضارباً بين مواقف قوي 14 آذار و قوي 8 آذار من تسمية رئيس الحكومة المكلف تأليف الحكومة الجديدة. وفي الوقت الذي ترفض فيه المعارضة اعادة تسمية الحريري، أكدت قوي الأكثرية أن قوي 8 آذار "لا تستطيع تشكيل حكومة بمفردها كما لا تستطيع الاستئثار بالبلد وأخذه إلي المجهول". قلق دولي وعربي وقوبل سقوط الحكومة اللبنانية بقلق دولي و عربي وإقليمي و استنفار إسرائيلي. وأعلنت واشنطن أنها لم تفاجأ باستقالة وزراء حزب الله وحلفائه من الحكومة اللبنانية والتي جاءت بعد توقعهم توجيه المحكمة الدولية اتهامات لحزب الله ولجوءهم إلي أسلوب الضغط من أجل اجبار الحريري علي التخلي عن المحكمة. وكان مسئول أمريكي رفيع المستوي قد صرح لجريدة الحياة اللندنية بأن "حزب الله يهدد منذ أشهر بزعزعة الاستقرار. إنهم قاموا بذلك عبر الدستور وليس في الشارع هذه المرة، وربما يجب أن نكون ممتنين لهذا الأمر.هم اخترعوا قصة شهود الزور المتصلة بالجنرالات الأربعة لإلهاء الناس، إنما المحكمة أطلقت سراح الجنرالات الأربعة، وهذا دليل علي صدقيتها واستقلاليتها". واتهمت إيرانالولاياتالمتحدة وإسرائيل بالوقوف وراء فشل الوساطة السورية -السعودية. وعلي الصعيد العربي، ناشد وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ووزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الذين اجتمعوا في الدوحة، الأطراف اللبنانيون الالتزام باتفاقي الطائفوالدوحة. كما عبر عمرو موسي، الأمين العام للجامعة العربية عن قلقه من خطورة الأوضاع، ودعا جميع الأطراف إلي ضبط التفس، وأضاف أن "المحكمة الخاصة بلبنان يجب أن تكون فوق السياسة، والقضاء يجب أن يأخذ مجراه ويجب تشكيل حكومة". مفاوضات دولية وإقليمية وعقب استقالة حكومته، بدأ سعد الحريري سلسة من المفاوضات الدولية و الإقليمية كان علي رأسها زيارتاه اللتان قام بهما إلي فرنسا و تركيا حيث بحث مع كل من الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان الازمة اللبنانية. وفي الوقت الذي اجتمع فيه الحريري مع ساركوزي، كانت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشال أليو ماري تلتقي أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني في الدوحة للتباحث معه بشأن الموضوع اللبناني. وأكد رجب طيب أردوجان أمام مسئولي حزب العدالة والتنمية دور تركيا في التوصل إلي تسوية سلمية لأزمة الحكومية اللبنانية مشيراً إلي أن تركيا ستتوسط لدي سوريا وإيران لما تتمتعان به من نفوذ في لبنان، و أضاف أن "كل الأطراف يجب أن تتحرك بمسئولية كبيرة وعليها أن تضع مصالح لبنان فوق كل اعتبار". فراغ سياسي جديد استراتيجية حزب الله الجديدة التي استبقت قرار المحكمة الدولية الذي اعتبرت أنه سيكون قرار إدانة واتهمته بأنه مسيس لمصلحة الولاياتالمتحدة و إسرائيل لن تنجح في إلغاء المحكمة وإن نجحت في إسقاط الحكومة التوافقية. هذه الاستراتيجية أثبتت فشل جميع الأطراف التي دخلت مفاوضات تشكيل الحكومة في تقدير الحسابات الداخلية. فمن ناحية فشل سعد الحريري في حساب حد التنازلات التي كان سيطالب بالقيام بها وهو نفسه نفس الفشل الذي واجه حزب الله عندما توقع رضوخ سعد الحريري لضغوط عدم التعامل مع المحكمة الدولية أو مساندتها مقابل الحصول علي حكومة توافقية. فالطرفان تناسيا الدور الدولي والإقليمي في الحسابات اللبنانية الداخلية. لقد نجح حزب الله في أن يكون المحرك الرئيسي للسياسة الداخلية اللبنانية عن طريق استراتيجياته التي لجأ إليها منذ دوره في حرب إسرائيل المفتوحة علي لبنان. ما نشهده الآن هو صورة متكررة لسياساته ضد حكومة فؤاد السنيورة عامي 2006 و 2007 عندما اتبع أيضاً نهج تعطيل الحكومة بعد انسحاب خمسة وزراء شيعة وسادس مسيحي من الحكومة وقتها علي خلفية خلاف حول إقرار نظام المحكمة الدولية، و تبع ذلك سلسلة من الأزمات تراوحت بين الممانعة السياسية و التعطيل و حرب الشوارع. الوضع الداخلي في لبنان يواجه بعداً أمنياً خطيراً حيث تلخص الموقف في ضرورة قبول طرفي الصراع وهما المعارضة والأكثرية أحد مستحيلين: دعم المحكمة أو القضاء عليها نهائياً. تصلب موقف كل طرف سيقوم بلا شك بجر لبنان إلي فراغ سياسي جديد حتي يتم الاتفاق علي رئيس حكومة توافقي. قوي 14 آذار ممثلة حالياً في البرلمان بستين نائباً من أصل 128، مقابل 57 نائباً للمعارضة، في حين تمثل كتلة وليد جنبلاط (الذي أعلن في صيف 2009 عن خروجه من عباءة 14 آذار) 11 نائباً، ما يجعل كتلته تمثل دوراً مهماً في تشكيل أي اكثرية جديدة. الوساطة السورية السعودية التي فشلت في ضمان استمرارية حكومة الوحدة الوطنية سيتعين عليها الآن العمل علي الحفاظ علي الاستقرار الأمني للبنان أولاً قبل الدخول في مفاوضات جديدة بشأن الحكومة المقبلة. كون سعد الحريري هو الشخصية السنية الأكثر شعبية في لبنان سيزيد أيضاً من تأزم الموقف إذا ما استمرت المعارضة علي موقفها المعارض لتسميته. وتشمل قائمة المرشحين المحتملين عمر كرامي، نجيب ميقاتي، محمد الصفدي، بهيج طبارة، وعبد الرحيم مراد. غير أن تسمية مرشح غير الحريري لن يقضي علي الأزمة السياسية حيث سيتعين علي المرشح الجديد مواجهة طلب المعارضة بالقضاء علي المحكمة الدولية و هو ما سيفجر معارضة كبيرة من الأكثرية.