أعتقد أننا أحوج ما نكون، خصوصا في هذه المرحلة من تاريخ وطننا، إلي إقامة ائتلاف وطني، يجمع كل القوي والتيارات المدنية في المجتمع المصري، خصوصا تلك التي لا تزال مؤمنة بأن الدولة المدنية الحديثة هي أسرع الطرق وأقصرها في اتجاه تحقيق أحلام التقدم والأماني الوطنية العادلة والمشروعة. والعارف بالتاريخ المصري الحديث يدرك أن شعار الائتلاف الوطني ظل الشعار الذي يرفعه دعاة الوحدة الوطنية، إنقاذا للأمة من تشرذم القوي السياسية، وانزلاقها إلي ما يباعد بينها وتحقيق الأهداف الوطنية العليا، أو تركها في أيد مستبدة لأحد أحزاب الأقلية التابعة للقصر حينا، أو قوي الاحتلال حينا آخر ولا أزال أذكر حكومة الائتلاف الوطني التي جمعت بين الوفد، حزب الأغلبية المصرية، والأحرار الدستوريين بمباركة القوي الوطنية، وذلك بعد سقوط حكومة زيور باشا التي صنعها الملك فؤاد مع حزبها المصطنع - حزب الاتحاد - الذي سرعان ما طواه النسيان وظلت فكرة الائتلاف الوطني هي حلم القوي الوطنية العاقلة التي تري المخاطر الحقيقية للتشرذم والتشقق والصراع الذي يتباعد بالوطن عن أهدافه القومية العليا. خطر الدولة الدينية لا أتصور هذه الأهداف القومية العليا بعيدا عن إقامة دولة مدنية حديثة بكل لوازمها المقترنة بالتعددية الحزبية ومبدأ تداول السلطة وتقديس المواطنة بمعانيها التي لا تعرف التمييز الديني أو الاجتماعي أو الطائفي إلخ وأضيف إلي ذلك تحقيق العدل الاجتماعي الذي هو الجناح الملازم للحضور الأمثل للحرية السياسية والتعددية الحزبية علي السواء، ولا أري عدوا يواجه كل هذه العناصر سوي خطر الدولة الدينية التي تعمل من أجل قيامها قوي دينية سياسية الأهداف، وصلت إلي أخطر مدي من التأثير والتعدد بين الطبقات التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية، ولا تزال محرومة من الحد الأدني من الحياة الإنسانية الكريمة ولا أدل علي ما وصل إليه خطر عمليات التديين السياسي ما نشكو منه من انحدار الثقافة العامة للمجتمع المصري، وتراجعها الذي ما كان يمكن أن يتخيله أحد، مصحوبا للأسف باحتقان ديني ينفجر بين حين وآخر علي امتداد الوطن الذي ابتدع شعار الدين لله والوطن للجميع. وليست المخاطر الثقافية والدينية وحدها هي التي تؤرق المتأمل في مستقبل الوطن، فإلي جانبها ولا ينفصل عنها الأزمات الاقتصادية المتصلة بغيرها من الأزمات التي لا اعتقد أن هناك حزبا واحدا قادرا علي حلها منفردا، أو بعيدا عن التعاون والحوار مع غيره من الأحزاب والقوي السياسية في مدي العمل المشترك من أجل مصر التي هي الأصل الذي يضم الأخوة الاعداء الذين لابد لهم، في اللحظات الحرجة، أن يبحثوا عن صيغ تصل بينهم، وتقارب بين أهدافهم، وتعينهم علي العمل المشترك من أجل وطن هو أسمي منهم جميعا، وأظن أن اللحظة التاريخية التي نعيشها الآن هي واحدة من هذه اللحظات التي تبعث في الذاكرة ضرورة التوصل إلي صيغة فاعلة من صيغ الائتلاف الوطني هي أعلي من تصارع الأحزاب، وغوغائية الأصولية السياسية، وأنانية احتكار السلطة، فضلا عن المصالح والأهواء الشخصية التي لا تعرف سوي أضيق معاني المنفعة المادية وأكثرها إيغالا في الأنانية. خطيئة تصور الحل المنفرد ظني وأرجو أن أكون مخطئا أن هناك نزعة داخل الحزب الوطني والحكومة كما في غيرهما تدعي امتلاك القدرة علي الحل المنفرد لكل مشكلات الوطن دون عون من القوي الوطنية الأخري التي لا تقع تحت مظلة الحزب الوطني من ناحية وترفض احتكاره المطلق للسلطة من ناحية ثانية، وبرغم أن العالم كله ينادي، اليوم، بمفهوم الاعتماد المتبادل لمواجهة المشكلات التي لا تستطيع أمة بمفردها مواجهتها، خصوصا فيما يتعلق بالبيئة وما يتصل بها من مشكلات مصاحبة أو ملازمة، فإن مفهوم الاعتماد المتبادل غائب عن ثقافتنا السياسية التي تعودت إلغاء التعددية السياسية منذ إلغاء الأحزاب المصرية لأكثر من نصف قرن، وما ترتب علي ذلك من سطوة الصوت الواحد الذي يفرض هيمنته علي الجميع الذين لا يملكون سوي الاستسلام الذي أورثنا السلبية السياسية. ولكن مشكلات مصر الآن قد وصلت إلي درجة من التعقيد والتفاقم والتراكم الذي لم يعد ينفع معه استبدال الحزب الوطني بالاتحاد القومي أو الاشتراكي، أو إكمال ديكور الحزب الواحد بأحزاب صورية محاصرة بلا فاعلية، ففكرة واحدية الحزب المهيمن كالديكورات الإكمالية عفي عليها الزمان مهما حاول البعض إضفاء صور براقة خادعة عصرية لها، فالمأزق الوطني أكبر وأصعب من أن ينجح في مواجهته حزب بمفرده إلا إذا كان واهما وظني وأرجو أن أكون مخطئا للمرة الثانية أن الذين يدافعون عن الانفراد المطلق بالسلطة عمليا إنما يدافعون عن مصالحهم في احتكار السلطة والثروة، خصوصا إذا كانوا يمتلكون معهما ما لا يمكن تبريره من سطوة قصيرة العمر قليلة الحنكة، أحادية النظرة وفي تقديري، أن الوقت قد حان للدعوة إلي تكوين ائتلاف وطني بين كل التيارات والأحزاب السياسية المؤمنة بأن الدولة المدنية الحديثة بكل شروطها ولوازمها هي أولي الخطوات اللازمة لتحقيق وعود المستقبل للمواطن المصري الذي يتحدث الجميع باسمه، بينما يظل هو في حال من الصمت وعدم الثقة في كل ما يحدث حوله، أو يدعيه الآخرون باسمه صحيح أن انتخابات مجلس الشعب الأخيرة التي شابها ما شابها من أشياء سلبية، تركت مرارة في حلوق كثيرة، أو ألما في نفوس أكثر، لكن الفرصة لم تضع تماما بعد، فكل القوي المدنية وما أكثرها في مصر تجمع علي ضرورة وجود وحماية الدولة المدنية الحديثة بكل لوازمها، ولا استثني من ذلك عقلاء الحزب الوطني ولذلك فمن المنطقي أن يبدأ أي ائتلاف وطني من نقطة يتفق عليها الجميع، وهي الإيمان بالدولة المدنية الحديثة وعدم قيام أحزاب علي أساس ديني، ومن نقطة البداية هذه يمكن فتح أكبر حوار بين القوي المدنية حول إمكان تحقيق التعددية الحزبية بعيدا عن السلبيات التي يعرفها الجميع، والاعتراف الحقيقي وليس الشعاراتي بتداول السلطة، فضلا عن التمييز الواضح بين السلطات، ومنح القضاء كل ما يتيح له أن يكون حكما عادلا بين السلطات. رئيسا للمصريين لا للحزب الوطني أتخيل أحيانا ما يمكن أن يترتب علي أن يتولي رئيس الجمهورية الدعوة إلي هذا الائتلاف الوطني، ليس بصفته رئيسا للحزب الوطني، وإنما بوصفه رئيسا لكل المصريين علي اختلاف طوائفهم الدينية وتياراتهم السياسية، وأكاد أقسم غير حانث أن مثل هذه الدعوة لو تمت لأسعدت الكثيرين، وأزالت الفجوة بين الإخوة الأعداء، وأضافت إلي مكانة الرئيس المزيد من التقدير والعرفان والاحترام الواجب لزعيم أمة عظيمة عريقة في تاريخها الديموقراطي، مصالحها الكبري فوق أي أهداف حزبية ضيقة، أو أي حسابات متسرعة ولحسن الحظ فإن القوي السياسية المدنية كلها تجمع علي الرئيس وعلي احترامه، ولا تزال تتطلع إليه بوصفه رئيس كل المصريين، ومحققا لآمال الفقراء منهم ولذلك فأملي كبير في أن يدعو الرئيس إلي هذا الائتلاف الوطني الذي يعيد تأليف القلوب، ويجمع الأحزاب الشرعية فيما يصل بينها جميعا، ويسوي بينها بما يدعم وجودها الفعلي لا الصوري، وذلك من منطلق الإيمان بحماية الدولة المدنية وصيانة لوازمها الحديثة التي تكتمل بها مؤسسات الدولة المعاصرة. دعوي الدولة الدينية لا أزال علي يقيني من أن الخطر الأكبر علي مصر الآن هو دعوي الدولة الدينية والدعوة في ذاتها ليست هي الخطر، فهي فكرة يمكن أن تواجهها أفكار الدولة المدنية وتنتصر عليها، لو كنا نعيش في مناخ سليم ولكن المأساة أن أخطاء كثيرة ارتكبتها الدولة في مصر، أدت إلي تضخيم الدور الذي نفذت به جماعة الإخوان المسلمين إلي كل شبر في الوطن، خصوصا في المناطق البعيدة عن نفوذ الدولة المركزية، أو المناطق التي أهملتها هذه الدولة سواء في صعيد مصر أو قراها ونجوعها، وقد أضيف إلي جماعة الإخوان جماعات سلفية لا تقل خطرا عنها خصوصا بقدراتها المالية التي أتاحت لها فتح قنوات فضائية لبث نزعة تديين سلبية بالغة التخلف، منقولة عن أكثر تأويلات الدين جمودا وتخلفا وإثارة للفرقة بين أبناء الأمة وكانت النتيجة الاحتقان الديني الذي ينفجر علي امتداد أرجاء مصر التي بدت كما لو كانت قد نسيت شعارها الخالد من ثورة 1919 الدين لله والوطن للجميع وأصبحنا نسمع بدلا منه شعار الإسلام هو الحل الذي لا معني محددا له، وفي مقابله تحول الكنيسة إلي مرجعية للأقباط وليس القانون، مقابل المسجد الذي سطت عليه جماعات التطرف الديني بأكثر من وسيلة ولم يكن علي مصر أن ترضي بدعوي الحجاب وحدها، ويمكن أن نجد لها التبرير الديني عند بعض المجتهدين، فأضيف إليه النقاب الذي لا أساس له من شرع أو دين، وذلك في مدي عملية تمييز قمعي بين المواطنين علي أساس من استخدام زي ينقض معني المواطنة وللأسف ساعدت عوامل سلبية كثيرة في ممارسات الحكومات المتعاقبة علي استشراء النتائج المقترنة بكل ما يحطم مبدأ المواطنة التي ينص عليها الدستور الأخير في افتتاح مواده، فضلا عن سلبيات لا تنكر من الفساد وانعدام الشرعية ولذلك قويت جماعة الإخوان المسلمين وتصاعد نفوذ جماعات الإسلام السياسي بسبب أخطاء الحكومات التي ادعت أنها مدنية ولم تحقق للمواطن العادي حياة عادلة كريمة وهكذا تغلغلت دعوي الدولة الدينية في كل أسرة، وبدت مصر وكأنها تستعد لاستقبال دولة دينية تعد بأن تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وإيمانا بعد أن ذاعت فيها أفكار الكفر والضلال. والنتيجة هي ما نحن فيه الآن حيث أصبح الصوت الأعلي هو صوت أنصار الدولة الدينية الذين لم يكفوا عن مطاردة أنصار الدولة المدنية مرة بواسطة القضاء وثانية بواسطة قمع التفكير بتهم التكفير، وأخيرا بالقمع المادي الذي أفضي إلي القتل في غير حالة ولا أريد التفصيل في هذا الجانب، فالأهم هو ما يشعر به المراقب من سرقة عقول الفقراء واحتلال عقول الشباب بثقافة تخلف لا تقدم، وبنزعة اتباع ديني متشدد لا نزعة إسلامية عقلانية مفتوحة علي الاجتهاد، خصوصا بعد أن تعاون ممثلو الإسلام السياسي في قفل أبواب الاجتهاد بالضبة والمفتاح، وذلك منذ تكفير نصر حامد أبو زيد ودفعه إلي الهجرة من وطنه، هو وأمثال له ولذلك كله لا أتردد في أن أقول إن الخطر الأكبر علي مصر هو خطر النفوذ والقوة التي وصلت إليها جماعات الإسلام السياسي في الواقع العملي. وإذا كانت الانتخابات الأخيرة قد أبعدت الإخوان عن البرلمان، فإنها نسيت في حماسها التخطيطي، الفارق بين الإخوان ونواب التيارات المدنية الشرعية الذين هم دعم لوجود الدولة المدنية الأمر الذي أدي إلي مجلس بلا معارضة حقيقية ولكن أما وأن الخطر الداهم لأنصار الدولة الدينية لا يزال قائما حتي مع خروج الإخوان من البرلمان، وتزايد هذا الخطر يوما بعد يوم فلا حل ناجح سوي العودة إلي فكرة الائتلاف الوطني لكل المؤمنين بالدولة المدنية في مواجهة مخاطر الدولة الدينية ولاأزال أرجو وأتمني أن يقوم الرئيس بالمبادرة الأولي في اتجاه هذا الائتلاف الوطني الذي نحن أحوج ما نكون إليه في معركة انتصار الدولة المدنية أو هزيمتها، سواء بسبب أخطاء المؤمنين بها أو مخططات المعادين لها.