ما الهجرة ؟ بل ما الفن؟ وما الفن التشكيلي أو البصري والحسي ؟ هذه التساؤلات تصبح كالهاجس الذي يلازمنا ونحن نقرأ أعمالا فنية مضيفة ومثرية لحياتنا لا أقول الفنية وحسب ، وإنما تمثل بصمة غائرة في تاريخنا الثقافي المعاصر، وأملا ينضح بما نحلم به من مستقبل لشعب هذا البلد وسائر شعوب هذا العالم .. في الوقت الذي يهاجر فيه فنانو عواصمنا ، ولاسيما قاهرتنا ، بخيالهم إلي الغرب يستلهمونه " أصول " فنهم ، ويحاكون لغته التشكيلية البصرية ، ثم يلحق بهم فنانو الأقاليم محاكين محاكاتهم للنماذج الغربية في التكوين والتلوين ورؤي العالم ، نجد فنانين مصريين عاشوا في الغرب سنوات وعقوداً طوال، ومع ذلك فهم أقرب ما يكونوا لحساسية الشعب المصري البصرية، بل لأبسط الناس فيه ، لصانعي حياته اليومية بخصوصية إيقاعاتها، أقرب لهؤلاء من القابعين بداخله وإن هاجروا بفؤادهم إلي حلم " أوروبا " و" أمريكا"، ذلك الحلم الذي نفر منه سيد درويش في إحدي أغنياته الشهيرة. لقد صار هذا الاغتراب سمة شبه عامة للحركة التشكيلية المصرية والعربية المعاصرة حتي أن ناقدا بحجم الراحل محمود بقشيش قد كرس عددا من مقالاته ل" البحث عن ملامح قومية " في فنوننا البصرية الحالية . وقد جمعت هذه المقالات وصدرت في سلسلة "كتاب الهلال" (عدد فبراير 1989 ). من هنا نجد أنفسنا أمام نموذج جد فريد في كسر تلك التبعية التشكيلية للخارج والتعبير عن الروح المصرية في معالجاتها الفنية وألوانها ومزاجها العام علي الرغم من كون صاحبها " بعيدا" بالجسد فقط عن أرض الوطن ..ولعل الفنان الكبير سعد الجرجاوي يعد من أنصع النماذج علي هذه المفارقة المفرحة والمحبطة في آن : مفرحة لأنها تكشف عن أصالة الفن المصري المعاصر مهما كان بعد فنان هذا البلد عن وطنه ، ومحزنة لأننا نحن هنا في مصر لا نشعر بذلك الوفاء المتدفق نحو هذا البلد من جانب أبنائه الفنانين المهاجرين ، ولا نقيم لهم ما يستحقونه من مكانة في ذاكرتنا التشكيلية علي الرغم من أنهم ليسوا فقط نعم السفراء لنا في الخارج ، وإنما هم كذلك بمثابة نموذج محرر لتشكيليينا في الداخل من محاولاتهم احتذاء النماذج الغربية في أعمالهم والتوحد بها .. ليست هذه دعوة للانغلاق علي الذات كما قد يفهم خطأ ، وإنما هي مسعي للتعرف علي خصوصية تلك الذات من خلال اختلافها الموضوعي عن الآخر. فالآخر في اختلافه الموضوعي عن الذات هو أفضل ما يمكننا من التعرف علي ما يميزها عنه. وهل يمكن للفن بوصفه تشكيلا جماليا بصريا للواقع إلا أن يكون خير معبر عن ذلك "الشيء" الذي يستعصي علي الإمساك به علي الرغم مما يتميز به من " حسية " ؟ في مراحل الفنان سعد الجرجاوي في خطابه الذي أرسله إلي سعد الجرجاوي منذ قرابة الثلاثة أعوام ، والمنشورة صورته بجوار هذا المقال ، يقول سعد : ها أنا أرسل لك هذا الطرد ويحتوي علي 37 عملا من مرحلة حياتي الأخيرة التي هي الثالثة إذا اعتبرنا أن كل مرحلة تستمر لمدة 20 سنة . الأولي حتي الأربعين والثانية حتي الستين ، والثالثة والأخيرة حتي الثمانين ..هذا علاوة علي 15 عملا كلفت فطيم (ابنه - م.ي.) أن يرسلهم لك بطريق "الكمبيوتر" أرجو أن تكون هي أيضا قد وصلتك .. اهتمامي بهذا الموضوع ينبع من إيماني بأن الفنان المصري الذي ولد في مصر ودرس في مصر ، وكانت له أنشطة فنية لمدة عشر سنوات في مصر منذ تخرجه في عام 1951 حتي سافر إلي الخارج في عام 1961 واستمرت حياته في الخارج حتي يومنا هذا لا يجوز أن ينسي أو يهمل أو تهمل أعماله .." المرحلة الأولي من حياة سعد الفنية في مصر لسعد بضعة لوحات اقتناها متحف الفن الحديث في فترة ما قبل هجرته للخارج ، خلال خمسينات القرن الماضي . فقد تخرج في كلية الفنون الجميلة في عام 1951 بعد أن تعلم علي كبار الفنانين المصريين آنذاك ابتداء من بيكار وأحمد صبري ، بينما كان الجزار زميل دراسة له في كلية الفنون الجميلة ، كما كان تأثره واضحا بأستاذه بيكار الذي علمه " أجرومية فن التصوير " كما أكد لي في أكثر من مناسبة ، وكما يتضح من إهدائه له كتابه الاستيعادي لأعماله الذي أصدره باللغة الألمانية في ألمانيا عام 1989 وكتبت مقدمة له باعتباري رفيق عمر صاحب الكتاب . كان سعد شديد الولع بصديقه الجزار الذي كان يسبقه في قسم التصوير بالكلية بعام واحد ، ولعل ذلك يرجع لتغلغل الروح الشعبية في أعمال الأخير، تلك الروح التي راح سعد يستلهمها ليس فقط في موضوعات لوحاته، وإنما بالمثل في معالجاته البصرية المبدعة علي سطح اللوحة ذات الخصوصية المصرية الشعبية في رؤية الطبيعة والحياة . ولعل ذلك يمكن أن يقابل بأعمال بعض المغتربين من مشاهير الفنانين المصريين الذين لم يغادروا مصر، وإن تعالوا علي الثقافة الشعبية في بلادهم مكرسين حياتهم لتصوير صفوة المجتمع وما يفضلونه من زهور وورود فإذا ما حاولوا أن يجاروا الدولة في تحولها "الشعبي" أوائل الستينات وصوروا بعض "البسطاء" من أبناء وبنات المجتمع المصري جاءت أعمالهم خاوية من الحياة ناهيك عن الحيوية البصرية : ولعل القارئ يعلم أني أقصد هنا صبري راغب مثالا علي ذلك التوجه الصفوي المتعالي الذي عادة ما يبهر بخبطات فرشاته متواضعي الثقافة البصرية.. مفارقة في الفنون البصرية عندما طلبت في التسعينات من بعض الفنانين التشكيليين المصريين أن يرسلوا إلي عددا من صور أعمالهم وأعمال زملائهم لأعرضها علي مدير متحف " لودفيج " في مدينة آخن الألمانية ترددت بعد أن وصلتني في أن أقدمها لمدير المتحف آنذاك "كنموذج" للتصوير المصري المعاصر، ولكنه حين ألح في الاطلاع عليها وأحرجت مضطرا أن أقدمها له، قال لي ما توقعته: لو خبرني أحد أن هذه الأعمال لفنانين من إيطاليا، أو فرنسا، هل كنت سأري غير ذلك؟ أين فنونكم البصرية المصرية ؟ ولكني ما أن أخرجت له صورا لأعمال سعد الجرجاوي الفنان المصري المقيم في ألمانيا منذ بضعة عقود حتي انفرجت أساريره وقال لي مبتهجا : بلا . هذه أعمال مصرية حقا، لكني لا أستطيع أن أقدمها وحدها كنموذج دال علي مجمل الفن المصري المعاصر.. لغة التشكيل البصري عند سعد الجرجاوي علي العكس من معظم الأعمال الأوروبية التي يخيم عليها ظلمة الضباب والشتاء القارص كما نشهدها علي سبيل المثال في لوحات " كاسبار دافيد فريدريش" و " تيرنر" تميزت أعمال سعد الجرجاوي بخصوصية مصرية ساطعة بضيائها المنبعث من أشعة الشمس التي تتضح في تقابلها التشكيلي مع أطياف نساء الصعيد الملتحفات بالسواد ، كما تتميز بصرحية تعامدها الذي يطالعنا في أعمدة المعابد المصرية القديمة ، وشموخ حسيتها الذكورية ، وخصوصية الأداء الشعبي للأنوثة فيها .. كما نلمس في أعماله " شقاوة " اللعب الإبداعي متمثلة في محاوراته البصرية الممتعة بينما تعالج وحدات العمل الفني في تنقلها بين التشخيص والتجريد وكأنها تذكرنا بلعبة التحطيب رغم اختلاف موضوعها (انظر مثلا صورة لوحته " كوب الشاي " إلي جانب هذا المقال ..) ماذا أتاح المهجر الألماني لسعد الفنان ؟ يصعب علي المتابع لأعمال سعد الجرجاوي أن يجد تحولا جذريا في لغته التشكيلية علي الرغم من طول مهجره الألماني الذي صار يقارب الخمسة عقود ، لكن الواضح أن المرحلة التاريخية التي عاشها الفنان في هذا المهجر منذ الستينات حتي الآن وانفتاحها علي الحياة في بساطتها وتلقائيتها جعل الشروط الموضوعية لتحقيق حلم الفنان بأن يعيش في موضوعات فنه ذلك الذي صار يفتقده في بلده من تحفظ بإزاء الحسيات ، وبخاصة تحرير الجسد العاري رمزا لتحرير الإنسان من ربق الأيديولوجيات والعادات المحافظة الخانقة لتحرره بغض النظر عن نوعه ذكرا كان أو أنثي..لذلك فقد أقبل سعد علي إشباع رغبته في الانطلاق لإشباع ما لم يكن متاحا له في بلده الآن علي النحو الذي يتمناه من حرية التعبير الشبقي في لوحاته ..وهو ما يتمثل خاصة في عارياته التي تذكرنا ببعض آثار أجدادنا المصريين القدماء في هذا المجال بينما يصعب الآن أن تعرض في مصر علي الملأ، وإن غصت غرف النوم في بلادنا بصور لعاريات تفتقر بشدة لأية قيمة تشكيلية.. يرافق هذا التحقق التحريري في أعمال سعد التصويرية في مهجره الألماني طرقه لمجال النحت كنوع تشكيلي لم يسبق أن عالجه قبل أن ينتقل إلي المهجر ، وإن احتاج لدراسة مستقلة عن منجزاته فيه . في منطق الهجرة أم العودة للذات الحضارية هاجر سعد الجرجاوي (مواليد 1926) إلي الكويت في عام 1961 حيث التقيته هناك في ذلك العام ، ومنها إلي ألمانيا في 1964 حيث ظل مقيما حتي يومنا هذا . ومع كل تلك الإقامة الطويلة في الخارج لم تفارقه مصر لحظة واحدة من حياته في الغربة . فهو - كما ردد لي في أكثر من مناسبة - يعيش فقط بجسده في ألمانيا ، ولكنه يحيا بحسه وروحه في مصر ، أو كما كتب إلي في الرسالة المرفق صورتها مع هذا المقال والتي يتساءل فيها : ...الفنان (المصري ) (...) وإن ترك مصر وعاش في الخارج بعيدا عنها فهو تركها بجسده فقط ولكنه يعيش في مصر كل يوم وكل ساعة نهار في أعماله وأفكاره وليلا في أحلامه ..فهل يجوز أن تنسي مصر "الأم" هذا الابن ؟ إني أستخسر ترك أعمالي للخواجات بعد وفاتي .. وخوفي علي ترك هذه التركة الفنية التي تصل إلي آلاف الأعمال - آخر إحصاء منذ ثلاث سنوات - بلغت الأعمال حدود الأربعة آلاف "( يرجع تاريخ هذا الخطاب إلي 13 نوفمبر 2006 مما يستنتج منه أن عدد تلك الأعمال قد بلغ الآن الخمسة آلاف علي الأقل خاصة وأن صاحبها غزير الإنتاج ! م.ي.) . هنا أتوقف عند هذا المقتطف من خطاب سعد الجرجاوي لأوجه هذا الكلام إلي وزارة الثقافة ووزيرها الفنان الذي شاهد أعمال سعد بنفسه حين جاء ضيف شرف في بينالي الاسكندرية التاسع في 2003 وأبدي إعجابه بها : ألا يستحق سعد الجرجاوي أن تقيم له مصر متحفا يحمل اسمه وتعرض فيه أعماله التي تخلد اسم مصر في الداخل والخارج معا ، حتي تصير أكاديمية بصرية يتعلم عليها في المحروسة دارسو الفن ومحبوه وتصبح فضلا عن ذلك علامة مضيئة في علاقاتنا الثقافية بالخارج حين تدعم الإبداع المصري في الداخل ؟ ألم تصنع بولندا تمثالا رائعا لموسيقارها العظيم شوبان ووضعته وسط أحد ميادين عاصمتها وارسو ؟ وكما كانت موسيقي شوبان علي الرغم من مهجره الباريسي تميد بالألحان البولندية الشعبية ، هكذا صار فن سعد الجرجاوي تتغلغله خصوصية الرؤية البصرية المصرية للواقع والحياة علي الرغم من بعده عنها ، فكان ومازال حميم التواصل معها ، بل هو أقرب إليها من العديد من الفنانين التشكيليين الذين يعيشون بين كنفاتها وإن هاجروا بأساليب رؤاهم وتكويناتهم البصرية إلي عالم " استشراقي " بعيد عنها ..