تتفرد مصر بأن عظمائها من المفكرين، يحتاجون لأكثر من قدراتهم العقلية، وسمو مبادئهم، وثقافتهم من اجل ذيوع صيتهم، وانتشارهم، وان يصبحوا قدوة ومثالاً عبر التاريخ، فيحتاج الرجال العظماء في مصر لكي يخلدون لان يقدر لهم أعوان يتملقونهم فينهضون بهم، أو أعداء يشهرون بهم، فيشتهروا، أما أن يكون صاحب الفكر مسالماً، ليس مداهناً، فقد حكم علي نفسه بالنسيان مهما كان تميز شأنه، وقيمة فكره، ومن هؤلاء المفكر والصحفي والليبرالي"محمود عزمي"(5مايو 1889م 1954م). الذي انتخب بالإجماع رئيساً للجنة حقوق الإنسان بمنظمة الأممالمتحدة، كما كان رئيساً لوفد مصر الدائم في الأممالمتحدة، والذي توفي أثناء إلقاء كلمة مصر دفاعاً عن القضية الفلسطينية. الأصل في تسمية مهنة الصحفي مستمدة من الحرية، فهو يعمل "محرر صحفي"، فمحرر مبتدأ، وصحفي خبر المبتدأ، فعمله هو خبر لمبتدأ الحرية، فهي مهنة يتطابق اسمها مع فعل فاعلها، فلا صحافة بدون حرية، والحرية تحتاج الصحافة لتصبح حقيقة، وممارسة، وتظهر للوجود، فالنبي نبا، لأنه ظهر، وتمرد، وأعلن الحرية، فلو لم ينشر، ويبلغ، ما نبا، ولا أصبح نبياً، ولا حرر مجتمعه، فكل نبي هو صحفي برسالة سماوية، وكل صحفي هو نبي رسالته الحرية، ومن هنا جاء فعل التحرير، ووظيفة المحرر، والمفعول به هم القراء، القراء الذين ينشدون الحرية في رموزها من الصحفيين، وقد شهد تاريخ الصحافة المصرية نماذج من الصحفيين الذين كان هدفهم نيل الحرية لذواتهم أولاً من أجل أن يتمكنوا من نشرها في المجتمع، ومن رموز هذا التاريخ المفكر الصحفي الليبرالي"محمود عزمي"(5مايو 1889م 1954م). من شيبة قش إلي باريس ولد محررنا "محمود عزمي" في العام 1889م بقرية "شيبة قش"، جاء ذكرها في قاموس"محمد رمزي" الجغرافي كأحد البلاد القديمة بمركز"منيا القمح" بمحافظة الشرقية، وورد ذكرها في قوانين"ابن مماتي"، وفي "تحفة الإرشاد" باسم"شيبة الخولة"، أصبحت باسمها الحالي في سنة 1228ه "شيبة القش"، وهي القرية التي ولد بها المرحوم"أحمد الصباحي"(1915م 2009م)رئيس حزب الامة السابق، والبطل "عبد العاطي" صائد الدبابات في حرب 1973م، ود."زكريا عزمي" رئيس ديوان رئيس الجمهمورية، يمثل د."محمود عزمي" حجم العدل الاجتماعي الذي كان متوفراً في عصره فبالرغم من انه ولد لأسرة متوسطة، إلا انه نال تعليمه الثانوي بالقاهرة بمدرسة المتفوقين "التوفيقية" بالقسم الفرنسي، يلتحق بعدها بكلية الحقوق، ويستمر تفوقه فيقع عليه الاختيار لبعثة الجامعة إلي فرنسا في العام 1909م، وفي باريس، ودع ثقافة الطبقة المتوسطة المصرية، وانفتح علي ثقافة العقل، فدرس علم الاجتماع علي يد المفكر الفيلسوف"دور كيم"(1858م 1917م)، فتأثر به إلي درجة كبيرة جعلته يؤمن إيماناً مطلقاً بالعلم، حتي اتخذ منهج الفصل بين العلم، والدين، امتد به لرفضه التام للدولة الدينية، ويحصل علي درجة الدكتوراه في الاقتصاد ليعود بعدها لمصر ليعمل أستاذاً للاقتصاد في مدرسة التجارة العليا في العام 1912م. الصحافة ومصلحة الضرائب كان أول عمل له كصحفي في جريدة "العلم"، ويستقيل من مدرسة التجارة في العام 1918م، يلتحق بعدها بالعمل بجريدة"المحروسة"، رئيساً لتحريرها، ثم يعمل مراسلاً لجريدة "الأهرام" في فرنسا وانجلترا أثناء مفاوضات"سعد ملنر" في العام 1920م، يعود بعدها ليشارك في إصدار جريدة "الاستقلال"، و"السياسة" عن حزب الأحرار الدستوريين، يهرب بعدها إلي لندن، ثم يعود في أوائل العام 1930م علي مبادئ حزب الوفد ويشترك في إصدار جريدة"اليوم"، ثم يهاجر إلي فرنسا في العام 1932م ، ويعود إلي القاهرة في فبراير 1935م ليتولي رئاسة تحرير جريدة"روز اليوسف" اليومية، وفي العام 1936م يصدر صحيفة"الشباب" الأسبوعية، ثم يترك مصر إلي العراق حيث يعمل أستاذاً للاقتصاد بجامعة بغداد، ويعود بعدها لمصر ليعمل موظفاً بمصلحة الضرائب بقسم التشريع، ينتدب بعدها للتدريس بمعهد التحرير والترجمة والصحافة، ويستقيل منه في العام1946م، ليستأنف كتاباته الصحفية في "الكاتب المصري"، و"صوت الأمة"، و"المصري"، و"أخبار اليوم". رائد التحرير الصحفي آمن "محمود عزمي" بحرية الصحافة، ويعد أول من تحدث عن الصحافة كسلطة رابعة في الدولة، وكان له موقف مشهود من دستور 1923، والذي ذيل مادة حرية الصحافة رقم (15) بما معناه بعد الإقرار بحرية الصحافة، يحق وقف الصحف بالطريق الاداري إذا كان هذا ضرورياً لوقاية النظام الاجتماعي، فما كان منه إلا أن اعترض منطقياً علي هذا التذييل، حيث رأي أن الأصل أن تكون الصحافة حرة في حدود القانون العام بنصوص قانون العقوبات، ولذا فإن إضافة شرط الوقاية للنظام العام يعد قيدًا تحكميا يخلو من الرقابة عليه، ويصادر علي حرية الصحافة الواردة بصدر المادة(15) في الدستور، فسيبقي الوضع الاستبدادي كما هو للحكومة، ومع صدور مرسوم بتعديل بعض مواد قانون العقوبات في العام1925م عن وزارة"احمد زيور" يعترض عليه"محمود عزمي" ويطالب بفتح الباب لترخيص إصدار الصحف علي مصراعيه، فقط يتم الإخطار باسم الصحيفة، ومكان المطبعة، كما أن يقيد الصحفيون أنفسهم بميثاق عمل اخلاقي، وخلال اتصاله بمنظمة الأممالمتحدة يمثل مصر في لجنة حرية تداول الأنباء التابعة للأمم المتحدة في العام1949م، ويفوز بتمثيل مصر في هذه اللجنة الدولية التي ضمت 12 صحفياً علي مستوي العالم، وفي العام 1951م يمثل مصر في مؤتمر الشئون الصحفية والمنعقد في مدينة "ايفيان" الفرنسية، بحضور46 دولة، وكان من أهم موضوعات هذا المؤتمر ضرورة تمتع الصحفيين بالحرية في البحث والتعبير في كل مكان في العالم، وانتخب علي اثر ذلك المؤتمر"محمود عزمي" رئيساً للجنة حرية الأنباء في مارس 1952م، باعتباره المدافع الأول عن حرية الصحافة في الأممالمتحدة. بين محمود عزمي وجمال عبد الناصر؟ يذكر الكاتب والمفكر السياسي"محمد حسنين هيكل" في برنامجه "مع هيكل" علي قناة الجزيرة بتاريخ 12/10/2006م وهو بصدد حديثه عن كتاب"فلسفة الثورة" انه اصطحب معه "محمود عزمي" إلي منزل "جمال عبد الناصر" بحي العباسية وقتها، يوم 12 فبراير 1953م، اي قبل وفاة "محمود عزمي" بسنة تقريباً، وكان"هيكل" حريص علي أن يقابل"عبد الناصر"، ب "محمود عزمي"، وأثناء أول لقاء قام "محمود عزمي" بطرح نظرية حياد مصر في مفاوضاتها من أجل الاستقلال مع الانجليز، وان تدخل مصر إلي هذه المفاوضات لا من اجل الحديث عن الاستقلال، ولا الجلاء، وإنما من أجل مسألة قناة السويس، ورأي "محمود عزمي" أن تعلن مصر حيادها مثل حياد سويسرا، وبدأ"عبد الناصر" يتناقش مع "محمود عزمي" في نفس مساره الفكري مما أدهش كلاً من "هيكل"، و "محمود عزمي"، وبعدما خرجا من منزل"عبد الناصر"، علق"محمود عزمي" علي شخصية، وتفكير "عبد الناصر" بوصف امتنع "هيكل" عن ذكره في حديثه؟ ولكنه نوه عنه قائلاً:" قال وصف عليه..يعني مافيش داعي.. هو اتكلم عليه كويس قوي لكن وصفه وصف أنا لا أريد أن أقوله لكي لا تكون هناك تهمة ادعاء أو مغالاة في قيمته.. يعني وصف حقيقي أدرك أن فيه حد بيفكر..حد عنده حاجة يعني" وتعددت اللقاءات، بين "محمود عزمي" و"عبد الناصر" إلي الحد الذي جعل"هيكل" ينفي عن نفسه انه مؤلف كتاب "فلسفة الثورة"، وان صاحبه الأصيل هو"عبد الناصر" بوحي من لقاءاته مع "محمود عزمي"، و"احمد لطفي السيد"، ولا شك أن موقف"محمود عزمي" من عدم الانحياز قد تبلور لديه عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما ظهرت بوادر الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدةالأمريكية، فقد كان أول من أعلن عن ضرورة أن تقف البلاد العربية موقف الحياد بين هاتين الكتلتين، وكسر احتكار شراء السلاح من الغرب، ويمكن شراؤه من السويد فهي دولة حريصة علي حيدها، وعرض لفكرة انه في حالة قيام حرب فمن الصعب حتي علي الدول الأعضاء في الأممالمتحدة أن تتخذ موقفاً حيادياً في الوقت الذي يحتم عليهم ميثاق الأمم الوقوف في وجه المعتدي وتنفيذ قرارات مجلس الأمن من اجل وقف الاعتداء، وهي عين أفكار "جمال عبد الناصر" في كتاب"فلسفة الثورة" فهي مفارقة منطقية لا تصدر إلا عن رجل قانوني له قدرة استشراف المستقبل، كما انه دعا الدول العربية للأخذ بنموذج الهند في سياستها الخارجية، وهذا ما جعل "عبد الناصر" يأخذ بتوجه عدم الانحياز، والانضمام إلي الهند وإعلان دول عدم الانحياز، تلك الفكرة التي تبنتها مصر دولياً في وقتها. محمود عزمي وحقوق الإنسان في العام 1931م يؤسس"محمود عزمي" في باريس"الجمعية المصرية لحقوق الإنسان"، والتي تنضم فيما بعد للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وعندما مثل مصر في اللجنة الاجتماعية والثقافية التابعة للأمم المتحدة، وقف ضد المناورات التي تقوم بها الدول الاستعمارية لإضافة فقرة جديدة في ميثاق حقوق الإنسان، تجعلها غير ملتزمة بتطبيق أحكام الميثاق في المستعمرات وفي البلدان غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وفي العام 1951 م ينتخب"محمود عزمي" عضواً في لجنة حقوق الإنسان، ويشارك في صياغة ميثاق الحقوق السياسية، وميثاق الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وفي ابريل 1953م ينتخب بالإجماع رئيساً للجنة حقوق الإنسان بمنظمة الأممالمتحدة، كما تختاره مصر رئيساً لوفد مصر الدائم في الأممالمتحدة، ويأبي أن ينهي حياته إلا وهو يدافع بفكره عن وطنه، فقد انتقل إلي جوار ربه وهو يرد علي كلمة مندوب إسرائيل في مجلس الأمن حول احتجاج إسرائيل علي احتجاز مصر السفينة "بات حليم"، فيلفظ أنفاسه وهو يقول:" إن مصر علي حق وإنها كانت ولاتزال تؤثر روح التسامح، وعلي استعداد دائم لتحقيق العدالة"، لتنكس أعلام الأممالمتحدة بعد وفاته لمدة أسبوع. لاشك أن"محمود عزمي" مفكر متعدد المشاريع لم تسعفه سنوات عمره القصيرة أن يتم مشروعاته الفكرية النهضوية، فهو كان من الرعيل الأول الذي قام بالتدريس في "معهد الترجمة والتحرير والصحافة" والتابع لجامعة فؤاد الأول عام 1939م، وله جهود يذكرها التاريخ التأسيسي لنقابة الصحفيين، وكانت له آراؤه التقدمية في عصره، وحتي اليوم، خاصة في موضوع حجاب المرأة، فقد رآه زيا لثقافة ليست مصرية، ويؤمن بحرية الاعتقاد دون الحاجة لنص علي نوعه، وله أفكار تعارض قيام الدولة الدينية، وله توجهاته الخاصة في مجال القضية الفلسطينية، حيث يري منذ بداياتها التي عاصرها أنها قضية يحلها الفلسطينيون، واليهود بالتفاوض المباشر، ظُلم بتشابه اسمه مع الممثل القدير"محمود عزمي" فلا ندري أيهما الذي أُطلق اسمه علي ذلك الشارع بالإسكندرية؟ ولا أيهما المسمي علي اسمه مدرسة "محمود عزمي" الابتدائية بالعجوزة؟ أم ربما يكون اسم المقاول الذي بناها؟ إلا انه صدر عنه كتابان الأول"محمود عزمي رائد الصحافة المصرية" تأليف"نجوي كامل" عن سلسلة "اقرأ"، والثاني"محمود عزمي رائد حقوق الإنسان في مصر" تأليف"هاني نسيرة"، وأشار إليه"أنور الجندي" في كتابه"الصحافة والسياسة"، و "زوزاليوسف" في ذكرياتها، ومجموعة مقالات صحفية نادرة بقلم د."يونان لبيب رزق"، ود."علي الدين هلال" بجريدة الأهرام، كما ضمه"لمعي المطيعي" لموسوعة"هذا الرجل من مصر".