في وقت لم نفرغ فيه من الحزن علي رحيل الفنان محيي الدين اللباد.. والذي رحل بداية هذا الشهر.. لاحقنا الموت برحيل الفنان عدلي رزق الله.. والمسافة بينهما لم تتجاوز ثلاثة عشر يومًا.. وهما من جيل واحد.. وينتميان معا إلي الثقافة الموسوعية والإنتاج الفني العريض. رحل عدلي رزق الله بعد صراع ومعاناة مع المرض عن عمر يناهز 71 عامًا.. وما يعزينا تلك المساحة المتسعة من رسوم الأطفال والكتابات.. مع عالمه الذي يعانق الأثير من تلك المائيات التي تجاوزت الألف لوحة.. والتي تشد وبخصوصية شديدة بين الهمس والصحو والمغيب. فنان الصحافة في صعيد مصر من محافظة أسيوط.. ولد ونشأ الفنان عدلي رزق الله وسط مساحات ومسافات خضراء من الريف الدافئ المسكون بالنخيل والقباب والبيوت الصغيرة النائمة في حضن الجبل.. بقرية أبنوب الحمام.. كان مولده عام 1939. وفي طفولته حرص علي تأهل لحظة الغروب حين ينساب الشفق.. يغمر المرتفعات والانكسارات والسطوح الصخرية.. فتذوب الزوايا وتتلاشي ولا يبقي إلا هذا الهمس الشاعري الأخاذ. وتتكرر تلك اللحظة في حالة أخري في أول الطلوع عند الشروق فتنسكب قنينات الضوء بألوانها الطيفية مفعمة بالرهافة والشفافية. كانت هذه التأملات هي التي هيأت عالم عدلي رزق الله هذا العالم الذي باح به فيما بعد.. وكان قد قرر وهو في الثالثة عشرة أن يكون فنانًا تشكيليًا. وعندما جاء إلي القاهرة محملاً بتأملاته.. التحق بكلية الفنون الجميلة.. وهناك علي حد قوله: «كان الأساتذة يتكلمون عن النسب والظل والنور.. وملمس السطح والتكوين والنقل عن نماذج إغريقية.. ثم الطبيعة الصامتة والموديل.. اختطفت البعثة مني عبدالهادي الجزار الوحيد الذي همس في أذني ببعض الفن وكان يعطي من نفسه لنا نحن الصغار بدماثة وعذوبة كما لو أننا كبار ونفهم.. كمال أمين علمني بعضًا من استخدامات الفن في الحياة.. الأساتذة يمركزون في حجرتهم هربًا من المراسم التي ندرس بها ومن ملاحقتهم بأسئلتنا التي لا تنتهي». وعندما تخرج عام 1961.. كان والده قد باع آخر قطعة أرض يملكها في الصعيد.. وكان عليه مواجهة الحياة العملية.. ومن هنا التحق بمؤسسة دار الهلال بعد دخوله في مسابقة أعلنتها مجلة سمير تقدم إليها وتفوق علي المتقدمين معه. وهكذا أصبح رسامًا للأطفال.. ومن بداية الستينات حمل مع مجموعة من رسامينا من بينهم حجازي وبهجت وإيهاب والتوني واللباد ومصطفي حسين ومجدي نجيب ومحمد التهامي عبء المشاركة في استكمال الطريق الذي مهده الرائد حسين بيكار.. والذي تمثل في مجلة سندباد.. طريق التحول من النقل عن النموذج الغربي والاستعانة بالرسامين الأجانب إلي الإبداع الذي يستلهم الروح المصرية في الخطوط والمساحات والتكوين والتلوين.. وعندما تدق قارعة النكسة.. يختل توازنه ويفقد القدرة علي التقييم ولا يعرف ماذا يفعل بنفسه إلي أن يرحل إلي باريس أوائل السعبينات ليتعلم من جديد.. ويعود أوائل الثمانينات مقرراً التخلي نهائيا عن العمل الوظيفي والتفرغ الكامل للإبداع.. مصممًا علي أن يحيا من اللوحة!!.. وربما كان هذا القرار ومازال حالة استثنائية خاصة.. خاصة وكثيرًا ما تنتاب الفنان في العالم الثالث أزمة ميتافيزيقية تجعله لا يثق في جدوي الإبداع فيتوقف أو يتخلي عن عرض أعماله علي الجمهور.. وذلك ارتباطًا بالنظرة السائدة.. والمعاكسة لمكانة الفن التشكيلي مقارنة بغيره من الفنون. وقد تتابعت معارضه حتي وصلت لأكثر من 50 معرضًا خاصًا جاء معرضه الاستعادي الشامل «عشرون عامًا من المائيات» في 1000 لوحة افترشت قاعات قصر الفنون بالجزيرة عام 2000 تأكيدًا علي إخلاصه الشديد للفن.. وكان آخر معارضه عام 2009 أقامته له الهيئة العامة لقصور الثقافة بمدينة طهطا احتفاء ببلوغه السبعين وقد أهداه إلي روح رائد الفكر المصري الحديث رفاعة الطهطاوي.. وصاحبه ملصق «بوستر» من تصميمه جمع منه بين روحانية الفن القبطي وروح الأرابيسك الإسلامي مؤكدًا علي المعني الحقيقي للوحدة الوطنية. هو والمائيات بداية تعد الألوان المائية خامة صعبة تحتاج إلي ترويض وتمرس شديدين.. فهي خامة هاربة سيالة.. لكن تتجاوز إمكانياتها في التعبير من حيث الرقة والشاعرية أي خامة أخري.. ولقد ظلت طوال تاريخ الإبداع المصري الحديث أسيرة المنظر الطبيعي الذي تمثل في أعمال جماعة «الدعاية الفنية» التي ظهرت في منتصف العشرينات وكان أعضاؤها يخرجون إلي الطبيعة لتأملها واستلهام مشاهدها وتسجيل انطباعاتهم بطريقة تلقائية ومباشرة بالألوان المائية حتي أطلق عليهم «جماعة الألوان المائية» ومن أعضائها رائد التربية الفنية حبيب جورجي وتلاميذه: شفيق رزق ويوسف العفيفي وحامد سعيد ومحمد عبدالهادي وغيرهم. وهناك أسماء كثيرة لم تخرج علي المنظر الطبيعي منها فنان أسيوط بلديات فناننا الراحل بخيت فراج والفنانة فاطمة رفعت. من هنا جاءت مائيات رزق الله إيقاعًا جديدًا ولحنًا متفردًا مسكونة بالرمز.. ولقد تنوعت مراحله الإبداعية.. كل مرحلة تمثل إضافة تعبيرية. وفي أعماله الأولي بعد عودته من باريس والتي أطلق عليها «البللوريات» يأخذنا بعيدًا عن الصخب والضجيج الذي تشهده المدن المزدحمة المعاصرة إلي عالم فنتازي حالم تستحم فيه الفراشات بضوء لا نهائي وتتآلف البراعم مغسولة بالندي.. وتنام الوردة هامسة ناعسة في حضن الضوء.. عالم تخف فيه كثافة الأشياء بمثابة المشاعر الخاصة أو الانفعالات الذاتية.. في حلول ناعمة أقرب إلي الوريقات والارتفافات والتموجات.. في نغمات يتصاعد خلالها اللون في بؤرة ساخنة ثم يهدأ كوميض الشفق ليتصاعد في بؤرة أخري.. وينتقل الفنان من الخاص إلي العام ومن الذاتي إلي الموضوعي فها هو الهرم في إيقاع متكرر يتغير من لوحة إلي أخري.. يخبئ مآذن وقبابًا ونباتات وزهورًا وأحيانًا يتغير عنصر وحيد يتفجر كنافورة.. أو نبتة في حالة تخلق أو برعم يشق الفراغ. وبعد فترة من عودته بدأت تتشكل العناصر تدريجيًا في أشكال مكتملة وأخذت أعماله تجمع بين التجريد والتشخيص محملة بعناصر مصرية واضحة جاءت في قمة اكتمالها في لوحاته «صعيديات» التي يبدو اللحن الأساسي فيها لثنائية من الأطفال والنخيل.. أطفال الصعيد من جنوب مصر في صفوف من البراءة والمرح في عناق من النخيل الذي يبدو حانيًا رشيقًا كراقصات الباليه. وينقلنا الفنان رزق الله من الطفولة إلي الأمومة.. حيث تتوحد المرأة مع النخلة والجبل في كائن واحد.. وهي هنا تعكس الرمز المعنوي لمصر من العطاء والخصوبة وقوة التحمل. وألوان الفنان في هذه الأعمال تبدو أكثر رصانة حيث أخذ من القرية المصرية ألوانها الداكنة. لوحات القدس وتمثل لوحات عدلي رزق الله «شهادات الغضب» و«القدس» معادلاً لعالمه الفتنازي فعدلي الذي صور حديث الفراشة لوردة هو نفسه الذي شكل هذا العالم المأساوي المسكون بقوة التعبير والذي يدين الغشم والجهالة ويؤكد تلك الروح العالية للمقاومة.. وفي لوحات الأقصي تطل الأشلاء في شموخ.. تقاوم وتقاوم هذا الجرم الذي يسد السماء بمثابة آلة الحرب.. ويقف المسجد الأقصي بفتحاته شاهدًا علي جرائم تظل في سجل التاريخ لا يغفرها الزمن. وألوان الفنان هنا يغلب عليها الأسود والرمادي مع الأحمر والأزرق.. تموج بالمأساة.. مجللة بالحزن والسواد. في كتابه «الوصول إلي البداية» والذي يمثل سيرته الذاتية يكتب شهاداته وتجربته في الإبداع.. يقول: الوصول إلي حدي الأقصي حلم حياتي في الفن» و«الفن بداية أبدًا.. الفنان خارج علي القانون وخالق لقانون.. فوضوي وملتزم في آن واحد!! كيف؟ هذا هو سر جمال الفن». وفي معرض لفان جوخ في باريس يشير إلي لوحاته ويعلن: «العدم والجشع والغباء.. فقر الروح.. البحث في الزائل والتافه يحيط بالفنان من كل ناحية.. يرونه مجنونًا أو عبيطًا في أحسن الأحوال وهو أعقل الجميع.. سخروا منه.. رجموه ذلك النبي الذي ترك لنا الرسالة.. لمن يريد.. طوبي لك أيها الفان جوخ.. حية أبدًا لوحاتك». وتتصدر كتابه تلك الكلمات: «باطل الأباطيل.. الكل باطل والفن ليس قبض الريح». تحية إلي روح الشاعر التشكيلي.. عازف الألوان عدلي رزق الله.