كانت السيدة الجليلة زينب فواز العاملية من أعلام النساء في أواخر القرن التاسع عشر، وهي امرأة عصامية، صبرت علي الحرمان، وأيام السوء واستطاعت أن تستعلي علي المحن، وتعرفت بكبار شخصيات تلك الفترة، وصارت كبيرة بينهم بعلمها وخلقها، وهي شاعرة، وروائية، ومؤلفة مسرحية، وكاتبة تراجم، ورائدة في مجال النهضة النسائية. وعندما وقع في يدي ديوانها الذي حققه د. حسن محمد صالح الأستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية، ابتهجت وظننت أنه طبع في عصر الشاعرة، وطوته الأيام فيما طوت، وعثر المحقق علي نسخة منه، وأعاد طباعته، فقد قرأت أكثر من مرة أن لها ديوانا، أو أن الدكتور صالح وقع علي مخطوطة الديوان وحققها ونشرها. وبعد بحث في مؤلفات زينب فواز وقراءة في المقدمات النثرية التي كتبها د. صالح تبينت أن هذا الديوان مجموع من مؤلفات السيدة زينب إضافة إلي قصائد قليلة نشرتها في دوريات قليلة. وكانت السيدة زينب قد نشرت في حياتها روايتين هما: «غادة الزاهرة- حسن العواقب» و«الملك قورش» ومسرحية دعتها «المروءة والوفاء» إلي جانب مقالاتها التي جمعتها في كتاب «الرسائل الزينبية» وكان العرب قديما يطلقون اسم الرسائل علي ما نسميه اليوم ب «المقالات» وقد حشدت الكاتبة الكبيرة في هذه الكتب أشعاراً كثيرة، أي أن الشعر في الرواية جزء من السرد، وكانت روايات ومسرحيات تلك الفترة تجمع بين الشعر والنثر. ومن هذه الأعمال الأدبية الزينبية جمع د. صالح الغالبية العظمي من ديوان الست زينب، وتدارك بعض التصحيفات، وأخطاء التشكيل وقرب معاني بعض الكلمات، و لم يألو جهدا في اخراج الديوان في منظر جميل. الشعر الموضوعي وهذا الشعر، وبخاصة المستخرج من رواياتها، ليس من الشعر الغنائي، وإن بدا كذلك، لا يمثل نوازع الشاعرة، وغناء قلبها، ويحيطنا بأجوائها النفسية علما، وإنما هو مناسب لأحداث الرواية، معبر عن المواقف الغرامية، ومتضمن لشكوي المحبين من الزمن وصروفه، وما دام هذا الشعر كذلك، فإنه يندرج ضمن الشعر الموضوعي، لأنه جزء من السرد والحكي. ومن هذا ما جاء علي لسان «فارعة» في رواية «غادة الزاهرة» وهي جالسة مع عاشقها «شكيب» في «قرية الحصن». لقلبي حديث منك أني خبأته/ إذا ما خلونا ساعة الوصل قلته/ وإني إذا أبصرت شخصك مقبلا/ تغير مني الحال عما عهدته/ وقال جليسي مالوجهك أصفر/ فقلت له بالرغم عني صبغته. فهذا الشعر حديث من أحاديث الهوي، تنقله المعشوقة إلي عاشقها، ولقطة من لقطات الرواية لها مغزي، ويتماشي مع مواضعات القص، لأنها تظهر فناء المحبوبة في محبها، وهذا التفاني له دور في جهاد المحب ليظفر بمحبوبته في النهاية، وهكذا تجعل الشعر ضربا من الحكي، وإن كان هذا مجهدا نظراً لتضفيره بالأحداث، وتوظيفه في القص، ولكن ما يجعل هذا أيسر أن المؤلفة ترغب في إظهار امكاناتها في التشكيل والتعبير عن الأحداث والأشخاص بالإحساس والعاطفة، وربما أرادت أن تنقل القارئ إلي جو أكثر فنا لتعمق أحاسيسه، وتثير مشاعره. وقد تكون المرأة الشاعرة الحقيقية صادقة في تعبيرها عن امرأة عاشقة في رواية، ومرد هذا إلي أن الشاعرة الحقيقية مرت في حياتها الخاصة بمثل هذه الحالة من قبل، ومن هنا تعبر عن نفسها، وهي تنطق العاشقة في الرواية بشعر صادق، أي أن الشاعرة تتقمص شخصية المرأة المعشوقة في الروية في حالة أو حالات لتفضفض عن نفسها، وحتي لو افترضنا أن كل ذلك من نشاط المخيلة، فإن إطالة النظر فيه تجعلك تقول إن له صلة بالحقيقة، وحيل المرأة كثيرة في التعبير عن نفسها، والروايات إحدي هذه الحيل، والشعر الموضوعي كذلك، وقد أظهرت «مي زيادة»أن «وردة اليازجية» كانت تصوغ شعرا في رجل وتوجه الحديث فيه إلي أنثي، وكأن الشعر قالته أنثي لأنثي. وعلي أية حالة فإن شعر زينب في رواياتها موضوعي، يخضع لأحكام الرواية التي ورد فيها، وليس لنا أن نحاسب الشاعرة إلا علي أخطاء النظم، وصلته بأحداث الرواية. شعر المقطعات ولأن هذا الشعر ورد في سياق رواية نثرية الطابع، فإن معظمه جاء في شكل مقطعات، وتتكون الواحدة منها من بيتين إلي سبعة، وقد تزيد إلي ثمانية، وهذا العدد القليل من الأبيات جعله يرد في غرض واحد، ومن هنا تتماسك الأبيات وتترابط، لأنها انشئت من أجل إيضاح موقف أو مشهد أو حالة، وقد أخذت الشاعرة علي عاتقها إفهام القراء باستخدام ألفاظ سهلة، وتراكيب بسيطة حتي لا يواجه القارئ بالغموض، وتصير عبارتها الشعرية مناسبة مثل العبارة النثرية السابقة واللاحقة، وكل هذه المزايا في المقطعات وبخاصة قصرها أملتها ضرورات فن القصص. وثمة ميزة أخري لهذا المقطعات، وهي ورودها داخل نص نثري روائي، مما أكسبها مزيدا من الوضوح، فعلي الأقل يدرك القارئ المناسبات التي قيلت فيها، ولا يمضي عليه طويل وقت حتي يعرف ردود فعلها، وبإيجاز فإن وجود هذا الشعر في الروايات، وما يحيط به من ملابسات هو في تربته التي نبت فيها. ونقل هذا الشعر من الأعمال الروائية، ووضعه في ديوان مستقل دون الجو الروائي المحيط به، يجعله شعرا ذاتيا، وهو في الرواية شعر موضوعي لأنه جزء من الحكي بضمير الغائب، وقد يحار المرء وهو يحاور مقطعة علي أنها غنائية مرة، وموضوعية مرة أخري ولكل منهما أحكامها. وشعرها في العشق، مستغرق في الوجد وصوره الوجدانية من قلق وألم تثري المشهد الغرامي، تراها أو تري بطلة روايتها منتفضة عندما يضطرم الحب، ومستسلمة أمام نوبات الزمن، وفي الحالتين تعبير وتصور، وتتفاعل مع معطيات المواقف المتباينة، وكثيرا ما تأتي بالأوصاف القديمة، والصور التراثية، ولكنها لا تركن إلي التقليد في كل شعرها، وإنما تأتي بما هو جديد، في تعبير رقيق، مع لفظ سهل له إيقاع وجرس. ولها قريحة نشطة، قادرة علي إبداع الأفكار، وإلباسها أردية الخيال مثل قولها: يطير إليك من شوق فؤادي/ ولكن ليس تتركه الضلوع، فإنها وهي بين سكرات الحب، والاستفاقة منه، تصوغ ما تبعث به إليها قريحتها، وهي عبارة عن صورة متخيلة لقلب حبيس، يشتعل شوقا، ولا يجد منفذاً للتهوية، إنها تعبر عن قتل القلب صبرا داخل سجنه، أو قولها عن حبيبها الغائب: مقامك في جو السماء مكانه/ وباعي قصير عن نوال الكواكب. إنها تجعل المستغرب موضوعا شعريا، فلا هو في السماء، ولا باعها قصير، ولكنها تنقل شعرها إلي الأجواء العليا ليتنفس فيها، وبالرغم من تحليق الخيال بعيداً، فإن ما تقوله مفهوم، لأن الحقيقة والخيال مقترنان، وللشاعر أن يختار الوسائل إلي الغايات التي يريد الوصول إليها، ولكنه كلما حد من جموح الخيال كان هذا أوقع في النفوس. وشعرها جميعه ليس من هذا النوع، فقد تخطئ في التخيل مثل قولها: «وما طلع الزهر الربيع وإنما / رأي الدمع أجياد الغصون فحلاها» وقولها الربيع يطلع الزهر صحيح، ولكن قولها إن الدموع تحلي الغصون خطأ، لأن الدموع إذا أنزلت علي الفروع بللتها، وهذا ليس حلية، وأية علاقة بين الدموع والغصون؟ علي أن شعر السيدة زينب فواز «1846- 1914» أنسانا الإشادة بدور د. صلاح في جمع هذا الشعر وتصحيحه، وترتيبه ترتيبا هجائيا، وعمل فهارس إرشادية، واستعراض قدر كبير مما كتبه الدارسون عنها، وصحح تاريخ مولدها الذي أخطأ فيه كثيرون من بينهم كاتب هذه السطور، ورفد القراء والكتاب بمادة وافرة عن أصولها في قرية تبنين/ صيدا، وأزاح الستار عما كتبته وكتب عنها في مجلة العرفان، وكل هذه المعارف الحاشدة ترينا كم بذل من جهد في سبيل السيدة زينب وقرائها.