أبداً، لم يكن لقاء عابرا أو هادئاً بالطّاهر وطّار صيف 1994 في رابطة الأدباء بالكويت ، بدا في تلك الأمسية مدافعا عنيدا وربما وحيدا عن ضرورة الإيديولوجية في الأدب! انهالت عليه الأسئلة والتعقيبات التي لم يخلُ بعضها من استفزاز، لكنه - وهو مؤسس جمعية "الجاحظية" وصاحب شعارها "لا إكراه في الرأي" - ردّ عليها مؤكدا وجهة نظره بإيمانية عالية لا يخالطها الشكّ أو التردّد، ومما قاله حينذاك "كل كتابة وراءها بشكل من الأشكال إيديولوجية، خاصة لدي أولئك الذين يراءون بأنهم كتّاب غير مؤدلجين، والإيديولوجية ليست سوي المنظار الذي نضعه علي عيوننا وفكرنا ونحن ننظر إلي الحياة ونتخذ موقفا من طريقة تنظيمها ، وأنت عندما تقترح، أو تقبل، أو ترفض، فإن لك وجهة نظر إيديولوجية"، وفي رده علي قول أحدهم "أنت تبدو اشتراكيا وأمميا حالما، وزمن الأحلام والأمميات انتهي"!. الأممية الخامسة قال وطّار: "إذا كان الساسة قد توقّفوا عند الأممية الرابعة، فأنا وصديقي الشاعر الفرنسي فرانسيس كومب اتفقنا أن نؤسس الأممية الخامسة، أممية الحالمين اليقظين ، ولسنا مستعدين إطلاقا للاستسلام". هذه النزعة الإيديولوجية في أدب وحياة الطاهر وطار تعززت عبر تصريحاته في معاداة العولمة الأمريكية المتوحشة، وقوي الاستبداد بكل أشكاله، وهي سمة رئيسة في أعماله، وتبدو حينا مقحمة علي النّص، وحينا آخر ناجمة عن مجمل تفاعل عناصر بنيته الفنية ، وللتمثيل عليها، نتوقّف عند أشهر قصصه (الشهداء يعودون آخر الأسبوع) في مجموعته التي تحمل العنوان السابق ذاته، والصادرة في العام 1975، عن وزارة الإعلام في بغداد ، وقد حددت هذه القصة مسار الطاهر وطّار الروائي برمته، حيث لم يخرج عن مناخها العام وأطروحتها إلا في القليل من نتاجه. تبدأ هذه القصّة باستهلال شائق ومثير، حيث تصل رسالة من بلد بعيد جدا إلي "العم العابد" والد مصطفي أحد الشهداء الجزائريين ، وبوصول الرسالة يبدأ بتبشير كل من يصادفه بأن الشهداء سيعودون جميعهم في نهاية الأسبوع! وعبر هذا التبشير الذي يبدأ بصديقه المسعي، والمجاهد قدور، وشيخ البلدية عبدالحميد، ومنسق القسمة سي العابد، ورئيس فرقة الدرك، والكومينست... يتضح له أن الجميع لا يرحّب بعودة الشهداء، بدءا من الانتهازي والخائن وانتهاء بالمخلص والمناضل! وهنا تبدأ العقدة ومعها الأسئلة التي لا جواب لها: من أرسل الرسالة، ولمَ لا يريد كل هؤلاء عودة الشهداء! وهل "العم العابد" فقد عقله؟ وإذا عاد هؤلاء الشهداء ألا يشكلون خطرا علي القرية، واستنزافا لمواردها، وانتزاعا لحقوق ومكاسب تمتع بها أهلوهم بسبب استشهادهم ؟ وما السبيل إلي مواجهتهم إن عادوا وردّهم من حيث أتوا؟ وتأتي الخاتمة التراجيدية برمي "العم العابد" نفسه أمام القطار ملوّحا بالرسالة، حتي انفصال رأسه عن جسده فوق السكة، لتجيب عن كل هذه الأسئلة وتضع حدا للأقاويل، في الوقت الذي تطرح فيه أسئلة جديدة أشّد غموضا والتباسا .. من وراء مقتله»؟ وما فحوي الرسالة التي أراد إيصالها؟. لا شك أن القصة قائمة علي أطروحة إيديولوجية، مفادها أن بعض الانتهازيين والخونة والمستفيدين تسللوا إلي مواقع النفوذ، وقطفوا ثمار الاستقلال، وأن عودة الشهداء ستفضحهم، لذلك عملوا كل ما بوسعهم علي هدر دمهم من جديد ومنعهم من العودة! يعرّي الطاهر وطار عبر هذه القصّة الشرائح الطبقية المستغلة التي حاولت تجيير الثورة الجزائرية لمصالحها الخاصة، وتهميش أصحاب المصلحة الحقيقيين، الذين ضحوّا بأبنائهم وأموالهم من أجلها ، وتشكّل هذه التيمة المحور الرئيس في رواية (اللاز) أيضا، حيث المهمّشون هم وقود الثورة، ورمادها في آن معا! نبرة أيديولوجية إن انحياز الطاهر وطار للطبقات الشعبية، يفسّر إلي حدّ كبير النبرة الإيديولوجية الحادّة في مجمل أعماله الروائية، بدءا من (اللاز)، ومرورا ب (الزلزال) و(العشق في الزمن الحراشي) و(الشمعة والدهليز) ، ووصولا إلي روايته الأخيرة (قصيدة في التذلّل) التي كان يخشي أن يرحل قبل اكتمالها، فظل مواظبا علي كتابتها أثناء علاجه الكيماوي في باريس، علي نفقة الحكومة الجزائرية، حتي أنهاها في العام 2009، وكأنه بإكمالها أكمل رحلته الإبداعية والحياتية، فغفا غفوة الحالم اليقظ، الذي ظل يراهن علي انتصار حلمه في الحرية والديمقراطية، وفي مجتمع إنساني عادل حتي آخر كلمة في حياته! نقلا عن صحيفة تشرين 19 أغسطس 2010