لم يكن يتصور "سيرفانتس" (1547 1616م) مؤلف الرواية الاسبانية الذائعة الصيت"دونكيشوت" انه سوف يأتي عليها اليوم الذي تؤول تأويلاً يعد وصفاً تفصيلياً، واستوديو تحليلياً للمباراة النهائية لكأس العالم لكرة القدم بعد خمسة قرون من إصداره لها ، والتي جرت وقائعها بين بلده اسبانيا، وبلد طواحين الهواء هولندا، وكيف انه عندما قرر الغرب أن يداعب الجنوب لعب بقدمه في وجدان شعوبه فاختار جنوب أفريقيا لكي يقدم عرضاً جديداً من عروض صراع"دونكيشوت" مع طواحين الهواء، أو صراع الإنسانية مع التميز العنصري، ويتحول زعيم مقاومة العنصرية"نيلسون مانديلا"(18 يوليو 1918م) إلي "مونديال" لبطولة العالم لكرة القدم، فتنازل فلاسفة مقاومة العنصرية عن العنف إلي المقاومة السلمية، إلي اعتمادهم فقط علي ركلات الجزاء الترجيحية!؟ الأدوار التمهيدية إذا كان كأس العالم لكرة القدم يعد معادلاً موضوعياً، و ترجماناً لواقع الصراع بين الكيانات في المجتمع الدولي، فقد ترجمت الأدوار التمهيدية طبيعة الصراع بين هذه الكيانات! فقد تم خروج كل دول العالم الثالث، والشرق الأقصي، مع غياب الشرق الأوسط أصلاً عن التواجد في البطولة، و استبقاء رمز واحد لبلاد الجنوب في دولة غانا، لتكون الممثل الافريقي الوحيد، لكي تصعد إلي الأدوار العليا من المنافسة، ففي الأدوار التمهيدية بدت البطولة امتداداً لصراع"دونكيشوت" مع طواحين الهواء، فالواقع أن زمام التنافس مستبعد منه حتي القارة الأمريكية، بعد خروج دول القارتين من الدورين السادس عشر، والثمانية، لتعلن كرة القدم أنها مثل حضارة العالم لم تخرج عن أوروبا، رغم انف الجميع، فالأول"اسبانيا"، والثاني"هولندا"، والثالث"ألمانيا"، فكانت بطولة التأكيد علي بقاء التميز العنصري؟! فبعد أن كانت أول بطولة لكأس العالم في العام 1930م باستضافة الاورجواي، والتي فازت فيها الدولة المضيفة علي الأرجنتين 4/2، فقد بدأت بطولة كأس العالم لكرة القدم بين دول العالم الثالث، وفازت بها إحدي دوله بينما في بطولة العام 2010م وصلت الاورجواي إلي المربع الذهبي فقط، والتي سبق لها وأعلنت تمردها علي بطولة العام1934م، ولم ترسل فريقها للدفاع عن لقبها في البطولة التالية المقامة في ايطاليا، كرد علي اعتذار دول أوروبا عن المشاركة في البطولة المقامة علي أرضها، فكانت البطولة الثانية رمزاً لحضور العالم الثالث، حيث شارك فيها فرق من أسيا وأفريقيا، إلي جانب أول مشاركة للعرب بالفريق المصري، إلا أنها ظلت تحمل صفات التميز العنصري قبل المناداة بمقاومتها السلمية علي يد فيلسوف المقاومة السلمية للتميز العنصري"المهتاما غاندي"(1869 1948م)، وحتي تجلياتها الصارخة في شعار أحدث بطولاتها للعام الحالي، والتي حملت شرف مقاومة التميز العنصري إلا أن النتائج التي أحرزتها الفرق المشاركة أكدت علي وجود التميز العنصري كحتمية ثقافية، وحضارية في المجتمع الدولي ككل، وداخل الكيانات الصغيرة الممثلة في الدول. الدور النهائي كانت كأس العالم لكرة القدم 2010م هي البطولة التاسعة عشرة بين بطولات كأس العالم، والتي فازت بها اسبانيا علي يد مدربها" فسينتي ديل بوسكي"(1950م) الحفيد التاريخي ل"ميغل دو سرفانتس سافدرا"، مؤلف رواية" السيد الساذج دونكيشوت" ذات الطبعة الأولي السيئة الإصدار، حيث فاز الاثنين، الأول علي الفريق الهولندي رمز طواحين الهواء بهدف إلي لا شيء، والثاني فاز علي الرمز دون طواحينه في روايته، فأعاد الفريق الاسباني إلي الأذهان فكرة البطل الساذج الذي يمضي ببغلته العرجاء حاملاً سيفه محارباَ طواحين الهواء صانعاً منها أعداء حقيقيين وهميين، ولكن في هذه البطولة انقسم الوهم علي نفسه فبات حقيقة في الفريق الهولندي ،ووهماً في محاربة التميز العنصري، فانتصر "دونكيشوت" في صورة حفيده"بوسكي" في حربه ضد الطواحين الهوائية الهولندية، بينما انهزم "دونكيشوت" في حربه الثانية ضد قطيع الأغنام رمز التميز العنصري، التي رآها شيطاناً مريداً، يزحف بجيش جرار، فما أسفرت حرب"دونكيشوت" مع التميز العنصري، إلا عن قتل عدد من الأغنام، وفقد"دونكيشوت" بعض ضروسه تحت وابل الرعاة، فلا قيمة لكل نوايا "بلاتر" التي كشفها زميله"دونكيشوت". التحليل! لم تسفر البطولة عن تنافس حقيقي في مهارة لعبة رياضية هي كرة القدم، حتي أن جميع المباريات كانت نتائجها عكس المتوقع، بالنسبة لبني البشر، وتماماً كالمتوقع للحيوانات، والطيور، فاستوديوهات التحليل الرياضية؟ ما هي إلا لتحليل الأجر الذي تقضاه المحللون، وكشفت البطولة عن خصائصنا البشرية، من الميل إلي الاحتكار، والاستغلال، وهذا ما فعلته القناة المحتكرة، "الجزيرة"، فكيف تكون هذه البطولة كما أعلن عنها من أجل مكافحة التميز العنصري، وهذا ما ذهب بها إلي البلدة عنوان هذا التميز"جنوب أفريقيا" ثم تحتكر"الفيفا" المنظمة الدولية للبطولة عرضها تليفزيونياً ببيع احتكار مشاهدتها لدولة "الجزيرة" التي حجبت عرض المباريات علي المتابعين إلا من دفع منهم مقابل مادي، أليس هذا هو عين التميز العنصري بين الأغنياء والفقراء؟ تحت سمع وبصر "الفيفا" ؟فكان"بلاتر" مثل"دونكيشوت" وهو يجلس في المقصورة، يحمل سيفه الورقي، ويلوح به، في وجه التميز العنصري، وأن التشويش الذي تم من مجهول علي عرض"الجزيرة" ما هو إلا نوع من أنواع مقاومة العنصرية، أياً كانت أهدافه، فكان هذا الذي يشوش علي إرسال بث الجزيرة، مثل مثله الأعلي"دونكيشوت"عندما بدأ رحلته الكبري بخروجه من وطنه عبر باب عشة فراخ! وعندما أعلن التليفزيون المصري انه سيعرض مباريات البطولة ارضياً، وسيشاهدها الجمهور المصري، أعاد إلي الأذهان حرب"دونكيشوت" مع طواحين الهواء الفضائية، التي تعلق بها فدارت به فرفعته أذرعها في الفضاء، ثم ورمته أرضاً، فتكسرت عظامه، فهكذا حال مشاهدي بطولة كاس العالم الفقراء الذين لم يدفعوا لمحتكر بثها فضائيا، فسلموا لمحتكر بثها ارضياً، والذي كان يبث لهم مبارة، ولا يبث أخري، فركبوا طواحين أخري هي نواعير هذه المرة. لقد كانت بطولة كأس العالم لكرة القدم هذه هي أحدث نسخ الزيف الانساني، وبيان مدي تناقض العقل الجمعي لدي الشعوب مع واقعه، ومع رغباته لتغير هذا الواقع، فالتميز العنصري لا يمكن القضاء عليه في ظل التحول من المجتمع الزراعي إلي الصناعي إلي الرأسمالي إلي العولمي الذي أعاد الخصوصية وسيطرتها من جديد فباتت طبقات اجتماعية تنسحق تحت طبقات أخري وهذا السر في ازدياد الهوة بين الطبقات داخل البناء الاجتماعي حالياً، ففي الوقت الذي نرفع فيه الشعارات ضد التميز العنصري نجد أن من يرفعون الشعار هم من يمارسون صور التميز العنصري، فباتت صور التميز العنصري المتنوعة تتم برعاية منسقي بطولة كأس العالم من أجل مكافحة التميز العنصري.