يوجد ما يشبه الإجماع بين المهتمين بالشأن الجامعي، أن الجامعة المصرية تعاني أزمة غير مسبوقة، بفعل عشرات الأسباب والعوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، وبالدرجة التي دفعت البعض إلي وصف ما يحدث بالكارثي، خاصة بعد إخفاق الجامعة المصرية في أن تكون ضمن قائمة أفضل خمسمائة جامعة في العالم. ومع التسليم بأهمية ما يتم طرحه حول تشخيص هذه الأزمة والأسباب والعوامل المرتبطة بها، فإننا نطرح في هذه السطور أبعاداً أخري لم تنل حظها من الاهتمام وتتلخص في تباين الاتجاهات حول العديد من المفاهيم والقضايا الجامعية مما ينعكس بالسلب علي الأداء الجامعي، ويمكن وباختصار طرح أهم مظاهر هذا التباين علي الوجه التالي: 1- التباين حول ما ينبغي أن يحظي بالاهتمام والأولوية علي أجندة العمل الجامعي، فهناك من يري أنه يجب التركيز علي العملية التعليمية والاهتمام بالطالب وإعطائه الأولوية القصوي في العمل الجامعي، في حين يري آخرون أنه ينبغي أن تكون هذه الأولوية للبحث العلمي: إنتاجاً للمعرفة وكشفاً لها، ويري فريق ثالث أن «الإعداد للمهنة» والتخصص هو الأكثر أهمية بينما تري أغلبية المهتمين بالعمل الجامعي أنه يجب علي الجامعة أن تقوم بكل هذه المهام والأدوار، وبأعلي درجة من الكفاءة، ولكن كيف يتم القيام بكل هذه المهام والأدوار في ظل الظروف التي تعمل من خلالها الجامعة؟ وعلي الفور نجد الإجابة في مجموعة من الأفكار النظرية المجردة، التي سرعان ما تنهار في أول اختبار حقيقي لها علي أرض الواقع، مما دفع بالبعض إلي القول: إن محاولة الجامعة القيام بكل هذه المهام والأدوار يعد من أهم أسباب الأزمة التي تعاني منها، بل وعجزها عن تحقيق أي منها بالكفاءة المطلوبة. 2- التباين حول علاقة الجامعة بالعصر الذي تعيش فيه، والمجتمع الذي تعمل من خلاله، فهناك من يري أنه ينبغي علي الجامعة أن تواكب روح العصر وتحدياته، كما ينبغي عليها أن تخضع لمطالب المجتمع، وما يمليه عليها، باعتبارها إحدي مؤسساته، ويقوم بالإنفاق عليها، بل هناك من يري أنه لابد من التعامل مع الجامعة «كمركز خدمة» تستجيب للزبائن، وتعمل علي إرضاء أذواقهم واحتياجاتهم، في حين أن هناك من يري أن خضوع الجامعة لمطالب العصر والمجتمع الذي تعمل من خلاله، إنما يعد انحرافاً لدور الجامعة ورسالتها الإنسانية والحضارية، وإذا كان مطلوباً من الجامعة التعامل مع روح العصر وتحدياته، فإن هذا لا يعني خضوعها له، وإنما يجب أن يكون التعامل محسوباً، وبقدر معين، يحفظ للجامعة قدسيتها ورسالتها التاريخية، والشيء نفسه يقال بالنسبة لعلاقة الجامعة بالمجتمع فيجب عليه أن تعطيه ما يحتاج إليه فعلاً، وليس كل مايريده، أو الخضوع لمطالبه وتقلباته السياسية، أو ما يفرضه الرأي العام من أدوار ومهام وغيرها من الأمور التي تعد من العوامل المعمقة لأزمتها، وإهمالها القيام بالأدوار الأكثر أهمية، وارتباطاً برسالتها الإنسانية والحضارية، وبدلاً من أن تكون الجامعة موجهة إلي المجتمع ناقدة له، أصبح هو الموجه والناقد لها، بل والمسيطر عليها. 3- وثمة تباين آخر له تأثيره في تعظيم «أزمة الجامعة المصرية»، ونعني به «تعدد الثقافات» داخل الجامعة، فمن المفروض أن تكون الجامعة مجتمعاً يتميز بوحدة أعضائه وتماسكهم، وتسامحهم مع الأفكار والتخصصات الأخري، ويتميز أيضاً بالتنوع المؤدي إلي الثراء الفكري وليس المؤدي للتباعد والتفكك، وذلك كله من منطلق التكامل ووحدة المعرفة الإنسانية. العديد من المظاهر التي تكشف عن وجود اتجاهات متباينة حول مفهوم الجامعة وأهدافها ورسالتها ولها انعكاساتها السلبية علي أداء الجامعة، ومن أهم أسباب الأزمة التي تعاني منها، خاصة أن هذا التباين قد أدي إلي وجود ما يعرف بظاهرة «صراع الأدوار» داخل الجامعة المصرية، وعدم التوزان بين وظائفها، وإعطاء الأولوية لبعض الوظائف علي حساب البعض الآخر، مما يعني فقدان القدرة علي استبصار أولوية هذه الأدوار، وتداخل المفاهيم دون تحديد علمي دقيق لها، ومن هذا المدخل وعلي سبيل المثال لا الحصر: - التداخل بين أدوار التعليم الجامعي والتعليم العالي نتيجة الخلط بين مفهوم كل منهما حيث نتعامل معهما علي أنهما مترادفان في المعني والمفهوم وأن أدوارهما واحدة، مع أن من المستقر في الوجدان الجامعي وأدبياته أن ثمة فرقاً كبيراً بين التعليم الجامعي والتعليم العالي، فالأول جزء من الثاني، وله خصوصياته التي تؤكد علي التعامل مع «المعرفة» نقلاً وإنتاجاً، وهذا لا يقلل علي الإطلاق من أهمية التعليم العالي، وإنما له وظيفته الحيوية في عمليات التنمية، ولا يمكن الاستغناء عنه، ولكن هذه الأمور لا تبرر التعامل معه بمفهوم الجامعة؟ لأن لكل منهما وظيفته وأهدافه ورسالته. - الاهتمام الواضح وعلي المستويين الرسمي والمؤسسي بالعملية التعليمية، ويتمثل هذا في الاهتمام بالكتب والمذكرات، والامتحانات والكنترولات التي تستنزف طاقات الجامعيين علي كل المستويات، وغيرها من الأمور التي ترتبط بالدور التعليمي للجامعة، في الوقت الذي ينصرف فيه جهد الأغلبية من أعضاء هيئة التدريس لبحوثهم من أجل الترقية، والذي يفوق عشرات المرات اهتمامهم بطلابهم، ولكن ومع كل هذا الاهتمام من جانب أعضاء هيئة التدريس ببحوثهم للترقية، وإلي جانب انتشار المراكز البحثية داخل الجامعات، فإنه يوجد ما يشبه الإجماع علي ضعف إنتاجية البحث العلمي الجامعي، كما وكيفا. علي أي حال، وبعيداً عن مسائل الإخفاق والانجاز في الإداء الجامعي، فإننا نري أن التباين في الاتجاهات حول مفهوم الجامعة وأدوارها ورسالتها والأولويات التي ينبغي أن تقوم بها، وعدم الوضوح والاتفاق حول هذه الأمور يعد من العوامل التي تعمق من أزمتها، وتشكل أهم معوقات أداء رسالتها العلمية، الإنسانية والحضارية، والباب مفتوح للمزيد من الحوار.