من ذكريات بدايات ستينات القرن الماضي، التي لا تفارق ذهني، مشهدٌ متكرر لأفراد من الجنود البسطاء العائدين من اليمن، شاركوا في العمليات الحربية التي خاضها الجيش المصري دعماً للثورة اليمنية الوليدة، يجلسون علي أرصفة المقاهي البلدية، أو يسيرون في شوارع (غيط العنب)، الحي الشعبي في جنوبالإسكندرية، حيث نشأتُ، يحملون أجهزة استقبال إذاعي (راديوهات)، ترانزستور، تعمل بالبطاريات الجافة، وليس بالكهرباء كراديوهات الصمامات الكهربية، أو (اللمبات)، العتيقة الضخمة التي كانت تحتل أماكن ثابتة في بيوتنا. كان هؤلاء الجنود الباب الرئيسي الذي دخلت منه تلك الأجهزة بكثرة، وانتشرت، وأحدثت نقلة تكنولوجية في مجال الاتصالات. والحقيقة هي أن الجيل الذي نشأ حول منتصف القرن الماضي قد شهد (انقلابات) تكنولوجية حادة، في كل نواحي الحياة، وعلي نحو متسارع؛ فكان عليه أن يستجيب ويتآلف مع المستحدثات؛ ولم يكن ذلك سهلاً علي كثير من مواطني العالم الأقل تقدماً، الذي لم تكن لدي كثير من الإدارات فيه برامج مدروسة لنقل التكنولوجيا، فترك الأمر - في معظم الأحوال - للمصادفة، كمصادفة انتقال القرويين البسطاء في الجيش المصري إلي اليمن، حيث توفرت النقود في أيديهم، وارتادوا الأسواق المفتوحة علي جنوب شرق آسيا، فكان أول ما يحرصون عليه هو اقتناء الأجهزة الحديثة المبهرة، كالراديو وساعة اليد الترانزستور؛ بينما هم - ثقافياً - لا يزالون عالقين برباط الاعتياد علي أساليب المعيشة القديمة في قراهم وأحيائهم الشعبية الفقيرة؛ فكان رد الفعل واحداً من اثنين : إما (رهاب) التكنولوجيا، الذي أصاب جانبا منهم فجعلهم ينفرون من المستحدثات؛ وإما الانبهار الشديد بمعطيات تكنولوجية تحصَّلَ عليها أفرادٌ قليلون، في ظروف استثنائية، فمضوا يتفاخرون بها. ومازلت أتذكر رجلاً أهداه ابنه القادم من اليمن ساعة حديثة، فكان لا يمل من التحدث عنها تيهاً، مؤكداً أنه لا يوجد منها إلا عدد قليل، فواحدة في يد عبد الناصر شخصياً، وأخري في يد "الملك محمد الخامس"، وتشبهان تماما نسخته من هذه الساعة المكلفة التي يأتي لها بال (حجارة)، خصيصاً، من القاهرة. وكان من نتائج حرب اليمن أيضاً أن ضجت الشوارع بأصوات محطات الإذاعة، تنطلق من أجهزة الراديو الترانزيستور، يحملها عمال المعمار علي أكتافهم وهم يسيرون مختالين بما يتفوقون به علي سائر خلق الله. أحاطت هذه الملابسات ذاتها بمعطي تكنولوجي جديد، هو الإنترنت، فرأينا بعضا ممن أحاطوا ببعض قشورها، وغير متخصصين في تكنولوجيا المعلومات، وإنما مجرد مستخدمين عاديين للكومبيوتر، يملأون الدنيا ضجيجاً، معلنين أنفسهم سدنة للفضاء السايبري، مبشرين بما كان العالم المتقدم قد سبقنا، كالمعتاد، إليه منذ سنين طويلة. ومن أعجب ما ظهر في هذا الخصوص، علي سبيل المثال، تأسيس ما سمي باتحاد كتَّاب الإنترنت .. كأن الأمور استقرت تماماً للكتابة الإلكترونية، وأغلقت الأبوابُ في وجه الكتابة الورقية، ولم يبق غير تأسيس تجمع لغير الكتاب الورقيين، ممن استغنوا عن الورق؛ مع عجز تام عن تحديد ملامح كتَّاب الإنترنت، فهل يضم اتحادهم كلَّ من أجري (شاتا)، أو أرسل رسالة بالإنترنت، أو نقل مقالا من موقع لآخر، أو كتب قصة أو مقالا - علي ورق - قبل أن يبثها عبر موقع بالشبكة ؟. وكما كان متوقعاً، خفت الزعيق وانتهت (الزفة)، بعد أن حقق البعض منها ما أراد، وهو الظهور في دائرة الضوء لبعض الوقت. غير أن أمورا أخري عجيبة، شبيهة بسلوكيات أيام الترانزستور، لا تزال مستمرة؛ منها حرص اتحاد كتاب مصر علي أن تكون لديه لجنة تحمل هذا الاسم الوهمي: (لجنة الإنترنت)!. كأنه - الاتحاد - يصر علي أن يحمل الراديو علي كتفه ويمضي به متباهياً !. إن تكوين مثل هذه اللجنة أمر مثير للسخرية؛ وقد حدثني صديق من لبنان قال : لماذا لجنة للإنترنت ؟! .. ولماذا الإنترنت فقط ؟ .. إن الفاكس يستحق لجنة، أيضاً، وكذلك الهاتف النقَّال !. وأجدُ تساؤلاته في محلها، فهي كلها وسائل اتصال مفيدة، وربما تكون أكثر فائدة للاتحاد من الإنترنت ولجنتها. صحيح أن للاتحاد موقعا في شبكة المعلومات الكونية، ولكنه لا يحتاج إلي لجنة منبثقة عن اتحاد كتّاب مصر، وإنما إلي محرر عام للموقع، وأحد التقنيين الاختصاصيين. ثم إن زيارة هذا الموقع لا تسر، وتشعرك كأنك تدخل بيتاً مظلما مترباً مهجورا؛ فالإهمال هو السمة العامة في الموقع. أنظر، مثلاً إلي قائمة العضوية المدرجة بالموقع، تجدها لا تعرف التحديث، وهي ناقصة نقصاً معيباً. لقد حزنت عندما لم أجد اسمي فيها، ولكني وجدت بعض العزاء عندما لم أجد اسم محمد سلماوي، أيضاً !. هذا، في حين أن الزملاء الراحلين لا يزالون، حسب رأي لجنة الإنترنت، يتمتعون بالعضوية، فتجد أسماء مثل ألفريد فرج ورجاء النقاش وعبد العال الحمامصي ورستم كيلاني وسعيد بكر، وغيرهم، ممن تغمدهم الله برحمته. وخلاصة القول، إن الموقع بحاجة إلي إعادة نظر، تبدأ بالاستغناء عن اللجنة الموقرة، وإسناد مهمة الإشراف عليه إلي لجنة النشر، أو لجنة الاتصالات، وإعادة هيكلته، وتحديث معلوماته وبياناته، وتنشيطه ليكون صلة تفاعلية عصرية بين الاتحاد وأعضائه، وغير الأعضاء من زائريه، ولتصدر عنه نسخة إلكترونية من نشرة الاتحاد، ولنجد فيه أرشيفاً كاملاً يضم إصدارات الاتحاد وسجلاته وقانونه ولوائحه وقرارات الجمعيات العمومية المتعاقبة، خدمة للأعضاء، وللباحثين والمراقبين. وراجعوا موقع اتحاد الكتاب العرب، تجدوا الفارق شاسعاً، وبغير حاجة للتباهي بالراديو الترانزستور .. أقصد بلجنة للإنترنت !