يواصل الكاتب الساخر «يوسف معاطي» عرض أفكاره العدمية في مسلسله الجديد «العراف» الذي يلعب دور البطولة فيه الفنان «عادل إمام» إذ يقدم شخصية النصاب الذي يمارس عمله بجدية وإتقان شديدين ولكن ضد الأغنياء ولصالح الفقراء حتي أنشأ ثروة كبيرة، وتزوج وأنجب في كل مدينة ذهب إليها وأصبح له اسم غير الآخر في كل عملية نصب، وهذا القالب الساخر معروف تماما في الإنتاج الأدبي والفني العالمي وليس ابتكارا. وعلي ما يبدو فإن «يوسف معاطي» كان قد كتب هذا المسلسل – وهو كاتب غزير الإنتاج – قبل سقوط حكم الإخوان، بل من المؤكد أنه كتبه قبل هذا السقوط الذي حدث فقط قبل أسابيع قليلة، أقول ذلك لأن «معاطي» واصل سخريته المرة من اليسار واليساريين، بل ومن الاحتجاجات الشعبية التي كانت قد اندلعت بطول البلاد وعرضها قبل ثورة 25 يناير وبعدها، محتضنة بل ومنتجة للشعارات والأهداف التي تطورت مع احتياجات كل موجة ثورية جديدة من «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية» إلي الجيش والشعب إيد واحدة، ثم حين أساء الجيش إدارة البلاد في الفترة الانتقالية الأولي برز شعار «يسقط يسقط حكم العسكر»، وفي ظل الإخوان وبعد انكشاف سيطرة مكتب الإرشاد علي الحكم أصبح الشعار هو «يسقط يسقط حكم المرشد».. وهكذا. وكانت الاحتجاجات السابقة علي اندلاع موجات الثورة الثلاثة قد أنتجت بدورها شعاراتها التي رصدها الباحثون وحللوها تحليلا شاملا، وراكمت تلك الاحتجاجات تراثا هائلا من المعارف والأفكار والممارسات الثورية لجماهير متعطشة للعدل والكرامة، جماهير مبدعة عملها جدير بالاحترام لا الإهانة. ورأي «معاطي» رأيا آخر هو أن مثل هذه الجماهير التي فجرت الثورة كان يمكن أن تنظم المظاهرات دفاعا عن نصاب تحول إلي بطل لها، لا لأنه أنشأ علاقات معهم، أو كافح في صفوفهم بل لأنه أغدق عليهم بعضا من الأموال التي راكمها من عمليات النصب، وهو نفس منطق الصدقة والإحسان الذي تلجأ إليه جماعات اليمين الديني لشراء الأصوات في الانتخابات، وحشد الجماهير الفقيرة في مثل الظروف التي تمر بها البلاد الآن، ولعل المؤلف لا يدري أنه بتلك المشاهد المهينة للاحتجاج الشعبي يصب المياه في طاحونة هذا اليمين الديني الذي يحتقر الشعب. وتنبع هذه النظرة الضيقة للأمور من فهم محدود لوظيفة الفن حين تراه مجرد مطابقة وتصوير لوقائع وليس الواقع، وفارق شاسع بين الوقائع والتفصيلات اليومية وبين الواقع في تركيبه وتعقيده من علاقات اجتماعية وصراع وأطراف متناقضة ومصالح متضاربة تنتج لنفسها رؤي وأفكارا. وحين يختار المبدع أن يتوقف أمام واقعة أو تفصيلة من تفصيلات الحياة دون أن يشير إلي نقيضها وهو يضعها في سياق، فإنما ينطلق من نظرة أحادية سطحية للأمور قد تؤدي السخرية فيها إلي انفجار الضحكات لكنها لا تدعو المتلقي إلي التفكير أو النقد الذي هو إحدي وظائف الفن الحقيقي، هذا النقد الذي يكشف بدهاء عن دبيب الحركة في الواقع «الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي» وتسعي قوته المعنوية والجمالية للوصول إلي اللامرئي في هذا الواقع، ذلك اللامرئي الخفي الذي يتفاعل ببطء وبعيدا عن الأنظار لينفجر بعد ذلك في شكل هبات جماهيرية أو ثورات. ولطالما قيل إن الشعب المصري هو مثل اللبن الذي يأخذ في الغليان دون أن نراه وفجأة يفور. أما لماذا أصف عمل «يوسف معاطي» هذا بالعدمية فلأنه يساوي بين الأشياء المتناقضة، وفي سخريته الدائمة من اليسار ولغته ورؤاه والتي تجلت في الابن الغني المرفه «محمود»، وقراره بأن يتزوج ابنة أستاذه المتشنج الساكن في أحد الأحياء العشوائية، والحقيقة أنه تكرار بالمسطرة للشخصيات اليسارية التي قدمها في «السفارة في العمارة».. إنه إذ يفعل ذلك يسخر أيضا بنفس الطريقة من الابن الآخر «عبدالله» المنتمي للجماعات الدينية المتطرفة ورغم أن هذين النموذجين هما في الواقع نقيضان إلا أننا نجدهما عند يوسف «معاطي» متماثلين، وحين يتساوي النقيض بالنقيض ويتماثل معه وتنمحي الحدود بينهما يفقد الوعي كل قدرة علي النقد، فاليمين مثل اليسار والرأسمالية مثل الاشتراكية والاستعمار مثل التحرر.. إلخ لا فرق بين رؤية كل منهما للعالم وأدواته للتعامل مع هذا العالم، والنتيجة المنطقية والوحيدة لمثل هذا الطرح هي الاستسلام للواقع القائم دون أمل في تغييره إلي الأفضل.. هذا هو مضمون الفكر العدمي الذي ينطلق منه كل من «يوسف معاطي» و«عادل إمام» في هذا العمل القائم علي السخرية المجانية دون أي عمق. المصدر: أصوات مصرية