البؤساء الإحساس بمعاناة الفقراء وآلامهم ومحاولة رفع أثقال الحياة عن كواهلهم وصدورهم مهمة مقدسة، ورحلة حج نحو ينابيع الخير في أرواحنا الشاردة من بوصلتها. هي رحلة لا تحتاج إلى زاد أو راحلة بقدر ما تحتاج إلى قلب حي وعروق تنبض وأفق لا تحده الرغبات والشهوات ولا تعوقه النظرة المتطرفة في أنانيتها عن رؤية ما وراء المرايا والأحلام النرجسية. قد يكون ذلك الإحساس رغبة في التكفير عن بثور الروح وسلخ متعمد للذنوب التي تنوء بحملها الجبال والدواب. ولعله نفق نحفره لنلقي نظرة حب ونمد أيادينا الناعمة بباقة أمل نحو أناس خلعوا قهرا ثياب عزتهم أمام أبواب بيوتنا المحصنة والمغلقة حتى إشعار آخر لأننا نشعر في ذواتنا بثقوب تملأ جيوبهم الخاوية. هي رحلة نقطعها نحو الآخر الذين يسكن آخر بقاع الحياة وأول بقاع الموت ويحتل عن جدارة قلب الصفحات المهملة من تاريخ الحياة الصاخبة. رحلة حاول أن يجتاز تفاصيلها أحد الأثرياء من بني طمعنا ذات يوم ليطهر أدران روحه في بحر الألم. حمل صاحبنا في يده المكتنزة باللحم يدا صغيرة لطفله الصغير، وشرّق به نحو أناس نسيتهم الأزمنة ونكرتهم الأمكنة ونفرت من بؤسهم الأعين والأيادي والقلوب. قال: "يا بني، في الكون أناس مثلنا، لهم قلوب وعقول وجوارح كالتي لنا، لكنهم لا يملكون قصورا ولا ضياعا، ولا يحملون مشاغلنا الكبيرة في صدورهم الصغيرة، ولا تتجاوز أحلامهم أفواههم. تعال يا بني أعرفك على بؤسهم عن قرب لتدرك نعمة الله عليك." وانتقلت الأقدام من كوخ إلى كهف إلى علب من الصفيح والكرتون والجلود، وبعد صراع مع الطرق الموحلة والروائح العطنة والذباب والأتربة، وصل الاثنان إلى حفرة يعيش فيها بعض البؤساء ممن يعيشون على هامش الحياة وفي قاع الفقر فتعلما منهم ما لم يعلما وعرفا الكثير عن بؤس الإنسان وفاقته. تعلما كيف يسلخ الفقر الإنسان من إنسانيته وكيف تنسحق الأرواح المعذبة تحت صخور الحاجة والمرض واليأس من تغير دورة الحياة، وتعلما كيف تكون السنة فصلا واحدا من المعاناة والحرمان.ثم عاد الوالد والولد ليتجاذبا أطراف حديث حول دائرة بسط عليها كل ما لذ وطاب. قال الوالد وهو يرفع لقمة إلى فيه: "أرأيت يا بني مدى البؤس الذي يعانيه هؤلاء؟" قال الولد بصوت مكتوم: "نعم رأيت." قال الوالد: "ما الذي تعلمته من تلك الرحلة إذن؟" قال الولد: "أدركت معنى الفقر والحاجة يا أبي." قال الوالد مسرورا: "وكيف ذلك؟" قال الغلام: "تمتلك تلك الأسرة زوجين ما الكلاب ولا نمتلك إلا زوجا واحدا. ولدينا بركة سباحة تمتد حتى منتصف الحديقة، بينما يمتلكون هم نهرا لا أول له ولا آخر. وتضيء النجوم ليلهم، بينما نكتفي نحن بمصابيح تعشي الأبصار وتصرف الأحلام. وتمتد باحتنا حتى الساحة الأمامية، بينما تمتد باحتهم خلف حدود الرؤية. ونمتلك قطعة صغيرة من الأرض بينما يفترشون هم الحقول والسهول والطرقات. ولدينا من يقوم على خدمتنا، أما هم فيخدم بعضهم بعضا ويتقاسمون الأعباء فيما بينهم. ونشتري نحن ما نأكله، بينما يأكل هؤلاء القوم ما يزرعون. ونحيط ممتلكاتنا بالأسوار لنحميها، بينما تحميهم سواعد الأصدقاء وقلوب المحبين." هل أحتاج أن أقول هنا أن الأب نكس رأسه بعد محاضرة غير متوقعة لطفل ظن والده أنه يمتلك كل شيء فتبين له بعد تجربة أنه أفقر الفقراء؟ هل نحتاج إلى رحلة بين العشوائيات والأحياء المعدمة على غرار تلك التي يقوم بها عمرو الليثي لندرك أننا محرومون نعمة الحب ونعمة الأمن ونعمة التعاطف؟ هل نحتاج إلى قراءة رواية البؤساء التي ثار فيها قلم المبدع فيكتور هوجو على قلوب الأثرياء المفرغة من كل محتوى شفقة كي تنبض قلوبنا التي في الصدور؟ وهل نحتاج إلى مشاهدة أفلام تسجيلية تبثها الجزيرة الوثائقية عن أناس سحقهم الفقر والعوز قبل أن تسحقهم صخرة الدويقة كي نحرك أقدامنا في أي اتجاه وندفع قلوبنا المعطلة عن كل مشاعر نحو الآخر؟ ما الذي ننتظره اليوم كي نشعر ببؤس الفقراء؟ هل نحتاج إلى رحلة كتلك التي تغيب فيها بوذا عن أهله سنوات بعد أن خرج في رحلة عبثية بحثا عن إله، لنعود كما عاد بفيض من المشاعر وبحر زاخر من الألم ورغبة عارمة في مد اليد نحو الأخر بطوق نجاة؟ وهل تحمل أنانيتنا المفرطة أمام صناديق الانتخابات وأمام الكاميرات أي أمل في حياة كريمة للإنسان في خاصرة البلاد المعدمة؟ ومتى ندرك أن فقر هؤلاء فقر في أخلاقنا وقيمنا وسلم أولولوياتنا وسقوط مدو لشعار العيش والكرامة الإنسانية الذي صدحنا به ذات إفاقة؟ يقول نيل جيمان: "فضيلة الفقر أنك لا تخسر شيئا حين تثور عليه." عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]