تعوّدََ دون أن يدري كيف أن يخرجَ كل صباح باكرا مع تثاؤب أشعة الشمس اﻷولى، ينطلق هائما في الشوارع المحيطة بمنزله وكأنه يهرب من نفسه إليها . يحاول جاهدا أن يدوس مع كل خطوة يخطوها كل ما يمكن أن يتمثل أمامه من طيوف الماضي القريب جدا.. يخرج مرتديا الجمود على محيّاه ، تماما لو أن الزمن توقف عنده في لحظة فأحالت قسمات وجهه منحوتة حجرية ﻻ تتغير سحنتها.. كخيال ﻻ مرئي يسبح مع النسمات الصباحية، فلا هو يؤثر فيها وﻻ هي تؤثر فيه قيد أنملة ، تتجاوزه ثكلى محملة بخيبتها في إخراجه من فقاعة هذيانه وشروده، ويتجاوزها كما ققابلها دون أثر.. وما يزال هذا ديدنه شهرا كاملا، يؤدي فيه كل صباح طقوس الطواف بالأطلال مستسلما للاشعور يقوده من شارع لشارع ومن حي لآخر.. .. .. .. .. .. وحدث أن أخفقت جهود مكابرته الهشة يوما... على غفلة منه بينما هو يسير هائما إذ تخترق أنفه رائحة ما ، يتجاهلها لثانية، يبتعد خطوة لكن فجأة..... كمن استفاق من عميق سبات على صفعة مدوية تتنبه جوارحه كلها، تستنفر مستقبلاته الحسية، يغمض عينيه محاوﻻ التركيز بجهة مصدر الرائحة.. يستدير يمينا، يرجع خطوتين للخلف ومن ثم يحاول فتح جفنيه ببطء شديد ليبصرها هي ذاتها من توقعها.. زهرة ياسمين يتيمة تفتحت أكمامها على شجيرتها المستلقية على سور حديقة عامة،كأميرة ذات حسن ودﻻل تعانق النور وترسل من متربع عرشها عبيرا يسحر العشاق ويسلب قلوب المحبين.. يغمض عينيه من جديد، ويعود به الزمن للوراء، فيستيقظ ألمه وتنتفض ذكرياته ويهتز جسده وجعا.. يسمع صدى صوتها كأنه يتردد بجواره اللحظة... _توقف أرجوك -خيرا ..ما بك؟؟ _انظر..هناك في الأعلى.... ابتسم لها بحب وقال: -سبحان الله...هذه أنت..ولن تتغيري _إنه الياسمين عشقي... وترفع يمينها وهي تقف على رؤوس أصابعها في محاولة يائسة لقطف زهرة منها،لكنها تخفق في الوصول إليها ﻻرتفاعها، فيسارع ويقطغها عنها ويقدمها لها بحب.. تستنشق سحرها بكل أحاسيسها لكأنها جرعة من ماء الحياة تريد أن تسري في كل عرق من عروقها.. تبتسم له شاكرة فرحة ممتنة،ويتابعان سيرهما.... _هل ستهديني الياسمين دوما في المستقبل كما هو حالك هذه الأيام؟ -ماذا تقصدين؟ _هل ستتغير بعد زواجنا..هل سستفتر حرارة حبك للياسمين ولي؟ يضحك من أنوثتها الطفولية التي تسيطر على ردات فعلها بين حين وآخر -لا تقلقي..سأحبه أكثر ﻷني أحبك وسأحبك أكثر وأكثر... يمسك بيمينها..يشد عليها ليزيدها طمأنينة ويناجي قلبه قلبها ((لا تقلقي طالما أنا معك ولك....)) .. .. .. .. يفتح عينيه مذعورا..يدرك بألم أنه كان يهيم في واحة من من سراب..سراب الماضي الذي جمعهما معا... كانا يكملان عدة الأيام القليلة التي تسبق زفافه وفاتنة روحه وقلبه... في لحظات أخذ يسترجع صورتها..نبرة صوتها..تفاصيل انشغالها وتوترها في كل يوم يقترب فيه موعد يومهما المنشود.. يسترجع كيف كانت تشتعل غضبا في دقيقة إذا شعرت بفتور تتخيله فيه ﻻ يوازي عظيم قلقها وصخب نفسها،وهو ﻻ حول له وﻻ قوة إﻻ أن يحاول تهدئتها دون جدوى... يستذكرها بكل ما فيها..بكل تفاصيلها ودقائق تصرفاتها لحظة بلحظة،إلى أن مثل أمام عينيه ذاك اليوم .... يوم استفاق الوجع في قلبه رغما عنه، يذكر كيف نهض من نومه مذعورا قلقا يشعر بضيق عظيم في صدره،حسب أنه مجرد شعور عابر اعتراه من الكابوس الذي أرق مضجعه وأفسد عليه أحلامه بالليلة الوردية التي بقي لها يوم واحد ﻻ أكثر... استعاذ بالله من وساوس الشيطان،ونهض ليغسل وجهه عله يرتاح ويهدأ قليلا... يرن هاتفه هاتفه فجأة فيبصر رقم عمه/حماه/..يسمع صوته محشرجا مختنقا بالأحرف والعبرات *أين أنت بني؟... يجيب مذعورا -في المنزل..خيرا عمي؟؟؟ *هل لك أن تأتينا على وجه السرعة؟ -خيرا عمي..ما بك؟؟..ماذا حدث؟؟ *إنا لله وإنا إليه راجعون بني...... وتدق الصاعقة أوصاله فلا يسعفه صوته ليرد بحرف...يحاول جاهدا أن يضبط أعصابه.. -من عمي؟؟....أرجوك أخبرني.. */..ليلى../..رصاصة طائشة اخترقت نافذة غرفتها إلى سريرها مباشرة فجر اليوم فأودت بحياتها..... سقط الهاتف من يمينه فجأة وسقط هو غائبا عن الوعي........ .. .. .. .. .. يحاول أن يتوازن في وقفته بعد عاصفة من ذكريات ما مر به..يترنح لبرهة فيستند للسور ليتفادى السقوط.. يتمالك نفسه..يرفع يمينه لزهرة الياسمين وفي اللحظة الأخيرة يتراجع عن قطفها.. -لمن أقطفك؟؟..لمن أهديك؟؟... جف العطر في زمني...كم تخيلتني أزين بك شعرها أو أنثرك فرحا وولها حولها.. قلت لها يوما:ليتني أستطيع أن أغزل فستان زفافك من ياسمين أزقة الشام ....... لن أنسى ما حييت كيف دمعت عيناها وغرقت هي في صمت فاجأني.... -لم صمتَتْ يومها يا ترى؟؟..ما الذي كان يجول بفكرها؟؟..ما الذي أغرى دمعاتها بالنزول هكذا؟؟..كنت أحسب أن قولي سيسعدها.... .. .. .. ... وفي غمرة انغماسه في نجواه وبصره معلق بتلك الزهرة التي لا يدري من أين نبتت لها مخالب أنشبتها في ذاكرته فأدمت فيها جرحا يأبى أن يندمل..كيف لكل هذه الوداعة أن تشتحيل قسوة مرة بطعم العلقم ...وإذ بيد تجذب طرف سترته... _لوسمحت..هل لك أن تساعدني؟ طفلة كزهر الرياض تصافح ابتسامتها الرقيقة ملامحه الميتة..وضفيرتا شعرها الفاحم تزيدانها جمالا على جمال... -هه....ماذا قلت؟؟ _هل لك أن تساعدني وتقطف لي تلك الياسمينة في الأعلى..بعيدة جدا عني..أريد أن أهديها لأعز صديقاتي.... كأن كلماتها كانت تضيع في الهواء قبل أن تصل لمسمعه فيدركها ، وما بين غيابه وحضوره يرى في محيا هذه البراءة الماثلة أمامه استغرابا منه ومن جموده... يرتبك من ضعفه الذي كبله أمام هذه الطفلة..يقطفها لها.. تتناولها كمن حاز كنزا ..تشكره ضاحكة وتمضي مسرعة....... يضع يديه في جيب سترته ..يمضي في طريقه وهو يدمدم في سره: -حبيبتي..... كنت هنا...أعلم أن روحك كانت هنا حولي... هل مرت لتلقي علي السلام؟؟..أم لتهبني رشفة من سلام أعيد بها توازني..... حبيبتي........ هذا هو قدر الياسمين... ﻻ يليق به إﻻ أن يكون في حوزة المحبين هدية لهم من المحبين.... حبيبتي..... دنيا فرقت بيننا...وفي الجنة بإذنن الله موعدنا... أسأل الله أن تكوني حوريتي هناك... حيث سأغزل لك ثوب الياسمين........ وستضحكين..............................................
من شهرزاد وإليها..مع التحية... .. .. ثمة شيء عالق بحنجرتي يا شهرزاد.. ثمة حروف تأبى أن تبارح حبال صوتي.. ثمة نبرة غريبة لا تريد إلا أن تكون لكِ... .... أو ما سمعتِ عبارة (إن الحروف تموت حين تقال؟؟!!) يوم سمعتها راقتْ لي..أو لربما هذا ما أردته.. وقتها.. كنت أهيم في عالم الأحلام الوردية التي لا تشبه إلا نفسها.. واليوم.. أدرك تماما أن الحروف لا تحيا إلا عندما تقال.. لأن حبسها في ثنايا الروح يجعلها شرسة رغم براءتها.. فتَقتُل ..وتُقتَل... أعرفتِ الآن لم الصمت خانق يا شهرزاد؟؟ أعرفتِ لم الصمت قاتل يا شهرزاد؟؟ أعرفت ِ لم الصمت صامت ..؟؟ صامت جدااااااا يا شهرزاد .. ..ر