برحيل الكاتب الروائي محمد ناجي، تفقد وكالة أنباء الشرق الأوسط، أحد المبدعين من الصحفيين الذين عملوا فيها ومروا بها أو قدمتهم للحياة الثقافية المصرية والعربية ضمن موكب طويل في مسيرتها المديدة وفي تعبير أصيل عن وظيفتها التنويرية ومكانتها الثقافية وإسهامها الإيجابي الفاعل في القوة الناعمة لمصر. وبكلمات صادقة من أعماق قلب محب قال أحد الذين انتموا لهذا الصرح الإعلامي-الثقافي وهو الدكتور عمار على حسن في وداع الروائي الراحل محمد ناجي: "خبر موتك يليق بك فقد تلقيناه والفجر يدق الأبواب، فجر جلي ندي صفي كنفسك الرائقة". واعتبر صاحب "شجرة العابد" و"سقوط الصمت" أن محمد ناجي هو "رولفو العرب" في إشارة للروائي المكسيكي خوان رولفو صاحب رائعة "بدرو مارانو"، فيما أكد أن محبي ومقدري ما خطه ناجي يعرفون "مكانه ومكانته وموقعه الحقيقي في دنيا الساردين"، ليخيب مسعى "هؤلاء الذين سعوا بغير حق ولا ورع" لأن يجعلوا هذا الروائي الكبير "من سكان الهامش البارد". وإذ يعد عمار على حسن من أصحاب الإسهامات الغزيرة في الحياة الثقافية المصرية والعربية ما بين إبداعات روائية ودراسات في الاجتماع السياسي ومقالات صحفية، فهو في الوقت ذاته أحد أبرز من قدمتهم وكالة أنباء الشرق الأوسط لعالم الصحافة والكلمة المبدعة وحصل عام 2012 على جائزة الدولة للتفوق وهي الجائزة التي حصل عليها محمد ناجي في الآداب العام الماضي عن مجمل أعماله الروائية، كما حصل على "جائزة التميز" من اتحاد الكتاب المصريين. ومحمد ناجي الذي استهل مسيرته المهنية بالعمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط هو صاحب "لحن الصباح"، و"خافية قمر"، و"مقامات عربية"، و"العايقة بنت الزين"، فضلا عن "رجل أبله وامرأة تافهة"، و"الأفندي"، و"ليلة سفر"، وصولا إلى "قيس ونيللي"، و"سيدة الماسنجر"، و"البوليتيكي"، و"ذاكرة النسيان". ومن الطريف ن أحد أشهر وأهم من أبدعوا روائيا عن عالم الصحافة وأسرار هذا العالم في مصر وهو الكاتب الروائي الراحل فتحي غانم صاحب "الرجل الذي فقد ظله"، و"زينب والعرش"، و"تلك الأيام"، و"الأفيال" كان رئيسا لمجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط في عام 1966 قبل أن ينتقل لرئاسة تحرير جريدة الجمهورية، ثم لروز اليوسف. والمبدع الأردني غالب هلسا الذي قضى عن 57 عاما وكان من أبرز الأسماء في الحياة الثقافية العربية في ستينيات القرن الماضي تحدث في روايته "الخماسين" التي تدور في شوارع القاهرة عن عمله بوكالة أنباء الشرق الأوسط التي احتضنته كصحفي بقسم الترجمة في هاتيك الأيام من المد القومي العربي والآمال والطموحات النبيلة من المحيط إلى الخليج. وفي إشارة دالة على اهتمامات الصحفيين بوكالة أنباء الشرق الأوسط ضمن الأجواء الثقافية في مطلع ستينيات القرن العشرين وفي سياق استعادة تعارفه مع الكاتب الأردني الكبير غالب هلسا قال الكاتب الروائي الراحل خيري شلبي: "أحببت غالب هلسا منذ أن وقع بصري عليه أول مرة حتى قبل أن أعرف من هو". وفي طرح بالغ العذوبة عنوانه "غالب هلسا.. منجز مصري"، أضاف خيري شلبي في حديثه عن غالب هلسا الذي قضى عام 1989 في دمشق: "كان ذلك في مشهد عابر على مقهى ريش في العام الأول من ستينيات القرن العشرين: كان جالسا إلى طاولة في الصف المواجه في الشريحة الخارجية مع مجموعة من العاملين بالترجمة في وكالة أنباء الشرق الأوسط وكنت أعرف معظمهم". ويتابع خيري شلبي: "ما أسرع ما عرفت أن هذا هو الكاتب الأردني غالب هلسا الذي سمعت اسمه يتردد في مناسبات عدة، وما أسرع ما أصبحنا صديقين. كنت في الواقع مفتونا بثقافته الواسعة والعميقة معا في قضايا الفن والحداثة". كان غالب هلسا الذي درس الصحافة في الجامعة الأمريكية وأقام في القاهرة لنحو 23 عاما قد عمل في مجال الترجمة الصحفية إلى جانب ابداعاته في القصة والرواية ليقدم أعمالا خالدة مثل: "الضحك"، و"الخماسين"، و"السؤال"، و"البكاء على الأطلال"، و"نجمة"، و"سلطانة"، و"ثلاثية بغداد"، وكان قسم الترجمة في وكالة أنباء الشرق الأوسط أيامئذ يضم ثلة مباركة من المثقفين. وقد انتقل بعضهم ووجوه من أجيال تالية للعمل في مجال الترجمة بالأمم المتحدة ومن بينهم المترجم القدير سيد أبو طالب، فيما كان للروائي المبدع جميل عطية إبراهيم الذي عمل في مجال الترجمة بالمقر الأوربي للأمم المتحدة في جنيف مع رفيق القلم والابداع بهاء طاهر أن يعمل أيضا كمراسل لوكالة أنباء الشرق الأوسط في سويسرا. واذا كان جميل عطية إبراهيم أحد أبرز الأسماء في جيل الستينيات الأدبي وصاحب ابداعات "1952"، و"أوراق 1954"، و"أوراق 1981"، و"نخلة على الحافة"، و"خزانة الكلام"، و"البحر ليس بملآن"، و"المسألة الهمجية"، قد عرف طريق العمل بالصحافة عندما وجد نفسه في جنيف، فإن صحفيا كبيرا ومحترفا بوكالة أنباء الشرق الأوسط وعمل كمراسل لها في نيويورك على مدى سنوات وهو الأستاذ أحمد مرسي يشكل قصة كبيرة مع الإبداع شعرا ورسما. وأحمد مرسي الذي يقيم في الولاياتالمتحدة منذ عام 1974 عرف الشعر الغربي منذ ايام الصبا والشباب المبكر في الإسكندرية وحلق عاليا في عالم الشعر الحداثي حتى صدرت أعماله الكاملة منذ أكثر من عام عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر وهي قصائد تشهد على عالمه الداخلي الثري تماما مثل لوحاته التشكيلية. وتأثر أحمد مرسي صاحب "النزعة التشخيصية" بالشاعر اليوناني قسطنطين كفافي وترجم له عام 1970 ديوان "ثورة الموتى" وهو الشاعر الذي شكل رافدا ابداعيا لترجمات شاعر وصحفي بوكالة أنباء الشرق الأوسط هو رفعت سلام الذي كان مراسلا للوكالة في الجزائر. ورفعت سلام الذي تولى على مدى نحو عام ونصف العام رئاسة القسم الثقافي بوكالة أنباء الشرق الأوسط منذ تأسيس هذا القسم في منتصف عام 2011 هو صاحب دوواين "وردة الفوضى الجميلة"، و"اشراقات"، و"إنها تومئ لي"، و"هكذا قلت للهاوية"، و"إلى النهار الماضي"، و"كأنها نهاية الأرض"، و"حجر يطفو على الماء"، وله ترجمات ودراسات في عالم الشعر. ويبرز اسم الشاعر الكبير مجاهد عبد المنعم مجاهد كأحد أهم الأسماء التي احترفت العمل الصحفي بوكالة أنباء الشرق الأوسط جنبا إلى جنب مع عطاء الإبداع في الشعر والاهتمامات الفلسفية والثقافية. فمجاهد عبد المنعم مجاهد هو صاحب دوواين "أغاني الزاحفين"، و"أغنيات مصرية"، و"هكذا تكلمت العيون"، و"ثالثهما العشق"، و"أقمار على شجرة العائلة" وله العديد من الكتب في الفلسفة وعلم الجمال والنقد الأدبي مثل:"سارتر مفكرا وإنسانا"، و"هيدجر راعي الوجود"، و"الاغتراب في الفلسفة المعاصرة"، و"المتنبي والاغتراب". وفي سنوات من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حيث قدر للشاعر الكبير وصاحب "الأرض بتتكلم عربي" فؤاد حداد أن يعرف طريقه لوكالة أنباء الشرق الأوسط كمترجم من الفرنسية للعربية كان لكاتب واديب كبير وصاحب مواقف مبدئية وتاريخية ملتزمة بقضايا الشعب في الحياة الثقافية المصرية هو صنع الله إبراهيم أن يعمل صحفيا في وكالة أنباء الشرق الأوسط. كما عمل صاحب "تلك الرائحة"، و"نجمة أغسطس"، و"اللجنة"، و"شرف" و"بيروت بيروت"، و"ووردة"، و"ذات"، و"امريكانلي"، و"برلين 69" لفترة في وكالة الأنباء الألمانية الشرقية حينئذ وهي الوكالة التي كانت تعرف في زمن "الألمانيتين" بالاختصار "أ.د.ن" حتى تفرغ للكتابة الإبداعية. وفيما يبقى صنع الله إبراهيم النموذج المضيء أبدا "لتطابق أقوال المثقف مع أفعاله" والباحث دوما عن الحقيقة، فهو أيضا صاحب ترجمات أدبية بديعة مثل رواية "العدو" لجيمس دروت و"التجربة الأنثوية". ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال التجربة الثقافية الثرية للراحل محمود أحمد الذي كان مشرفا عاما على التحرير في وكالة أنباء الشرق الأوسط إبان فترة رئاسة الأستاذ محفوظ الأنصاري للوكالة حتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فإلى جانب علو كعبه في عالم الصحافة سواء في جريدة "الأهرام"، أو وكالة أنباء الشرق الأوسط التي انتقل لها وعمل مراسلا في بيروت وواشنطن، كان محمود أحمد صاحب اهتمامات ثقافية أصيلة، وله كتب عن لبنان في سنوات الحرب الأهلية وكتابات في مجلة "وجهات نظر" الثقافية. بل أنه كتب دراسة طريفة عن "الشعر الحلمنتيشي" في مجلة "الهلال" أثناء رئاسة الراحل مصطفى نبيل لهذه المجلة لتثير تداعيات وتعليقات شتى ويكتب عنها أحد سادة القلم الراحلين وهو أحمد بهجت في "صندوق الدنيا" في صحيفة "الأهرام". وإذ تتوالى الأجيال في مسيرة مديدة ويطل جيل شاب في وكالة أنباء الشرق الأوسط بإمكانات ثقافية واعدة ومبشرة لا يمكن إغفال الإسهامات الثقافية لصحفيين من أجيال أكبر في هذا الصرح الإعلامي- الثقافي مثل محمد يونس بعدة كتب مؤلفة ومترجمة في الأدب والفلسفة وقضايا الفكر، وسامي عبد الحميد وهو صاحب عدة كتب تدخل في مجال التاريخ الثقافي من بينها عدة كتب عن القدس وقضايا التصوف. وهو ما ينطبق أيضا على معتز شكري باهتماماته وكتاباته الثقافية الأصيلة، ناهيك عن الشاعر على عطا، أما نجوى شعبان، فهي صاحبة التجربة الروائية الثرية التي قطعت فيها مسيرة مقدرة لتحصل صاحبة "جدائل التيه" على جائزة الدولة التشجيعية عام 2004 عن روايتها "نوة الكرم"، فيما تزامنت روايتها الأخيرة "المرسي" مع رواية "الأفندي" للراحل محمد ناجي. محمد ناجي: ضباب الغياب لن يخفي قمرك ومكانتك ستزداد رسوخا في جسد الإبداع المصري والعربي.. الصرح الصحفي الذي عرفته يوما يبكيك لكنه يتخطى حائط الأحزان مستلهما من رحلتك المزيد من المدد والعطاء المبدع لأجيال تلو أجيال في وضوء الكتابة وحضرة الحلم المصري.