مبدئيا أعترف أننى أعمل فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى كرئيس للجنة المشاهدة، وهو اعتراف خبيث هدفه قطع الطريق على كل من يربط بين عملى فى المهرجان والمقال التالى. هذا الاعتراف يجب أن أربطه ببعض الحقائق الأخرى، منها أننى عملت فى كل المهرجانات التى تعقد فى مصر تقريبا، وغالبا كعضو لجنة مشاهدة أو كمدير فنى للأفلام الأجنبية المشاركة، أو كمحرر للكتالوج، وكلها أعمال تتصل بصميم عملى كناقد سينمائى وصحفى، أما الأعمال التى لا تتفق مع مهنتى الأصلية فلم «أحشر نفسى» فيها. أيضا يجب أن أقول إننى حاولت الفصل تماما بين العملين، وكثيرا ما وجهت انتقادات لاذعة لهذه المهرجانات والأرشيف يشهد على ذلك، وفى بعض الأحيان، عندما كانت الأمور تصل لدرجة المخالفات الجسيمة داخل أروقة بعض هذه المهرجانات، كنت أكشف هذه الأسرار، بدون ذكر أسماء، وذلك حرصا منى على هذه المهرجانات وسمعتها وشفافية أدائها...وكثيرا ما كنت أخبر المسئولين عن هذه المهرجانات قبل أن نعمل سويا بأننى صحفى قبل أى شىء آخر. أخيرا ومن خلال قربى على مدار شهور من مطبخ الدورة السادسة والثلاثين من مهرجان القاهرة التى تعقد حاليا، أؤكد أن هناك سلبيات وملحوظات وهناك الكثير من الأشياء التى يجب تعديلها، وسوف نتناقش فى هذا بعد أن تنتهى الدورة على خير، وليس لدى غضاضة فى أن نعلنها أيضا، حتى نحرص على تجنبها فى المرات القادمة، إن شاء الله. المشكلة أننى فوجئت خلال الأسبوعين الماضيين بحملة مسعورة على المهرجان، ليس هدفها الصالح العام، ولا الشفافية، ولكن لأسباب شخصية تماما أو لقصور فى المعرفة والمعلومات. هذه الحملة رصدت بعضا من «فضائح» الدورة الحالية، التى تقام من 9 إلى 18 نوفمبر. بعض هذه «الفضائح» إدارية ومالية ليس من دورى ولا صلاحيتى مناقشتها، ولكن بعضها فنى يتعلق بصميم عملى كصحفى وناقد متخصص فى السينما وصناعها. فيما يلى عرض وتحليل لأشهر هذه الفضائح: جاك لانج...«الشاذ» الذى يكرمه المهرجان! قبل أن يعقد المهرجان بأسبوعين، وبدلا من نشر معلومات صحيحة عن الدورة الجديدة، ومتابعة سير العمل فيها وأسماء الأفلام والفنانين المشاركين، كان كل ما شغل حفنة من «الصحفيين» هو أن المهرجان يكرم الفرنسى جاك لانج، وهو اسم لا يستحق التكريم فى رأيهم ولا زيارة مصر من الأساس، لأنه شاذ ومنحرف جنسيا. وبغض النظر عن الاتهامات العشوائية، فإن أحدا من هؤلاء لم يشغل باله لحظة ليبحث عن اسم جاك لانج وتاريخه السياسى والثقافى والدور الذى لعبه فى توطيد العلاقات العربية الفرنسية، ولم يشغلوا بالهم حتى بالبحث عن أصل هذه الاتهامات ومدى صدقها. ولو فكرت فى البحث عن اسم جاك لانج على الإنترنت فإن أول معلومة سوف تقابلك عمرها يومان فقط. يوم الجمعة الماضى جددت الحكومة الفرنسية ترشيحها لاسم جاك لانج لتولى دورة جديدة من ثلاث سنوات كرئيس لمعهد العالم العربى فى باريس، وصوّت أعضاء مجلس إدارة المعهد التى تضم ممثلين عن كل الحكومات العربية بالإجماع على اختيار لانج لتولى الفترة القادمة بداية من 2015، ومن المعروف أن جاك لانج يتولى رئاسة معهد العالم العربى منذ عام 2012. وجاك لانج لمن يعرفه هو سياسى فرنسى مخضرم يبلغ من العمر الآن 75 عاما، وهو أحد رموز الحزب الاشتراكى الفرنسى، من أهم المناصب التى تولاها منصب وزير الثقافة من 1981 إلى 1986 ومنصب وزير التعليم من 1992 إلى 1993 ومن 2000 إلى 2002. وحتى ساركوزى اليمينى اختاره عام 2009 كمبعوث للحكومة الفرنسية فى كوريا الشمالية، وقبلها كمبعوث لكوبا، وذلك بفضل علاقاته الوطيدة بالبلاد الاشتركية. أما لمن لا يعرفه، من أبواق الهجّامين وقطاع طرق الفضائيات والصحف، فهو شاذ جنسيا ومغتصب أطفال. وكل الحكاية أن أحد خصوم لانج، وهو وزير سابق أيضا للتعليم، من الحزب اليمينى طبعا، وفى إطار الصراع السياسى الدائر بين أكبر حزبين فى فرنسا الاشتراكى واليمينى، قد ادعى فى حوار تليفزيونى أن هناك وزيرا اشتراكيا ضبط فى حفل جنسى مع بعض الصبية فى العاصمة المغربية مراكش، ولم يحدد لانج بالاسم، وفور بث الحديث قامت الشرطة الفرنسية بإجراء التحريات حول الموضوع ولم تعثر على دليل يثبت صحة هذه الادعاءات. طبعا شلة الهجّامين بدون معلومات اعتبروا أن اعتذار جاك لانج عن عدم الحضور هو دليل على صحة اتهاماتهم. نعم هذه - والله العظيم - نوعية العقليات التى تعيش بيننا. يشتمون الرجل ثم يتصورون أنه شغل وقته الثمين وعقله الأثمن باتهاماتهم وأنه أيضا خاف منهم! المؤسف أيضا أن إحدى الصحف اليومية نشرت نص رسالة اعتذار لانج بالفرنسية مع ترجمة غير دقيقة ساهمت من حيث لا يدرون فى تعزيز هذه الفرية. يقول الخبر إن جاك فى رسالته «يعتذر بشدة عن عدم حضور التكريم، لظروف خاصة يحتفظ بها لنفسه» مع أن نص الرسالة يقول: « أجد نفسى مضطرا، ولأسباب شخصية للغاية وخارجة عن إرادتى تماما، لعدم المجىء إلى القاهرة للمشاركة فى مهرجانكم الجميل..». وهناك فرق كبير بالطبع بين «ظروف خاصة أحتفظ بها لنفسى» وبين «أسباب شخصية للغاية وخارجة عن الإرادة». الفيلم الذى يسىء للأذان كل عام، وعلى مدار السنوات التى حضرت فيها مهرجان القاهرة، ومنذ أن كنت هاويا أذهب إلى دور العرض لحضور الأفلام، وحتى بعد أن أصبحت رئيسا للجنة المشاهدة للدورة الحالية من المهرجان، وفى كل دورة بلا استثناء تخرج بعض الصحف والمجلات قبل أيام من بدء المهرجان لتعلن أنها ضبطت فيلما يسىء للإسلام والأديان ويحتوى على مشاهد شذوذ جنسى وزنا محارم وغير ذلك من الفضائح. فى الزمن القديم، أيام الأستاذ سعد الدين وهبة رحمه الله، كانت مثل هذه العناوين غير مؤذية، لأنها كانت تجذب الآلاف للإقبال على المهرجان والتزاحم أمام دور العرض التى تعرض هذه الأفلام. مع الوقت أصبحت هذه العناوين أساسية لترويج الصحف وليس الأفلام، وبالتالى فحتى عندما يكون هناك عام لا يوجد فيه أى فيلم مثير للجدل، فإن الإخوة الزملاء يخترعون هذا الجدل والإخوة رؤساء الصفحات الفنية يخترعون العناوين التى تغذى هذا الجدل، حتى لو كانت النتيجة هى الإساءة للمهرجان ومنظميه ولمهنة الصحافة التى لم يعد يحترمها أحد. إحدى الصحف خرجت علينا منذ أيام بقائمة الأفلام التى تسىء للإسلام وتحتوى على شذوذ وزنا محارم. الفيلم المسىء للآذان يحمل اسم «لقد جئنا كأصدقاء»، وهو فيلم وثائقى مشارك فى المسابقة الرسمية، سبق عرضه فى مهرجان «صاندانس» وعدة مهرجانات دولية. الفيلم من إخراج النمساوى هيبرت سوبر، وتم تصويره فى السودان عام 2011 قبل إعلان استقلال جنوب السودان، وسط الفوضى والاضطرابات السياسية والعرقية، وهو تجربة فنية وصحفية رائعة ودرس لكل شخص يعتقد أنه صانع أفلام وثائقية أو أنه صحفى تحقيقات. المهم أن «تريلر»، أو إعلان الفيلم الموجود على الإنترنت يصور «المذيع» أو «صانع التقرير»، وهو من أصل آسيوى، فى لقطات من الفيلم يشرح فيها للمشاهد الأوروبى طبيعة الحياة فى البلد الأفريقى الذى تسكنه أغلبية مسلمة وأقليات مسيحية ووثنية وجالية صينية، ويمر «المذيع» من أمام مسجد، يقول عنه فى البداية إنه «معبد إسلامي» ثم يوضح أن العرب يطلقون على معابدهم اسم «المسجد» وهم يؤدون فيه صلاتهم المميزة، وينحنى «المذيع» برأسه ويضع يديه حول رأسه فى إشارة لطريقة الصلاة الإسلامية. هذا هو المشهد، أو اللقطة، التى اعتبرها البعض مسيئة للإسلام وأذان الصلاة...وفعلا العلم نور...والصديق الجاهل أخطر من العدو العاقل! زنا المحارم فى أفلام المهرجان قارئ هذا الموضوع متعلم بالطبع ويجيد القراءة والكتابة، وهو غالبا من المهتمين بالفن والسينما ومتابع للأفلام الأجنبية والعربية التى تعرض على القنوات الفضائية ليلا نهارا. هذا القارئ يعرف بالطبع أن الأفلام السينمائية تناقش كل القضايا والمشاكل الإنسانية، وهناك أفلام مصرية تتعرض لموضوع الشذوذ الجنسى بل وزنا المحارم أيضا. والمهم هو الطريقة التى يتم بها تقديم هذه العلاقات وموقف صناع الفيلم منها. هناك فيلم فى المهرجان بالفعل يتناول زنا المحارم بين شقيقين، وهو فيلم «خارطة إلى النجوم» للمخرج الكندى الكبير ديفيد كرونبرج، وبطولة جوليان مور وجون كوزاك ومايا واسيكوسا، ولكنه فيلم رعب وليس بورنو. فيلم يدور حول فتاة مشوهة بفعل نيران قديمة تخلى عنها أهلها وأودعوها مصحة عقلية، لأنها قامت بإغواء أخيها الأصغر وحاولت حرق أبويها. وهذه الفتاة تعود للانتقام من أبويها وتثير الفزع أينما ذهبت وتقتل فنانة كبيرة أشفقت عليها وقامت بتشغيلها فى بيتها. إنه فيلم يثير القشعريرة فى أوصال المشاهد وينفره من مثل هذه العلاقات بدرجة أكثر بكثير من كل المواعظ الدينية والأخلاقية والطبية الباردة. شلوندورف...المكرم المجهول أسوأ جملة سمعتها عن مهرجان القاهرة هى تلك التى يتساءل فيها البعض: من هو فولكر شلوندورف، ذلك الألمانى المجهول الذى يكرمه المهرجان؟ شلوندورف أحد الأسماء الكبيرة فى تاريخ السينما الألمانية، شاركت أفلامه وحصلت على جوائز من أكبر المهرجانات الدولية، كما فاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبى عن تحفته «الطبلة الصفيح» المقتبس عن رواية جونتر جراس الحاصل على جائزة نوبل. ومعلومة لمن يسأل «مين شلوندورف ده؟»، فإن كل الصحفيين الأجانب القادمين للمهرجان جمع بينهم طلب واحد هو عمل لقاء مع شلوندورف إذا أمكن وإذا سمح وقته. ليست مسئولية المهرجان إذن أن هناك من لا يعرفه. بل على العكس دور المهرجانات هو التعريف بهؤلاء الفنانين وأعمالهم، ولو هناك تقصير من المهرجان فهو عدم القيام بجهد للتعريف بالأفلام وصناع الأفلام الذين تمت دعوتهم. شخصيا أعرف شلوندورف من أيام نادى سينما القاهرة فى نهاية الثمانينيات، عندما وصلت لسن الرشد واستخرجت أول بطاقة هوية فى حياتى، فذهبت على الفور لأشترك فى نادى سينما القاهرة الذى كنت أسمع عنه الكثير. من بين الأفلام التى لا أنساها فيلم «شرف كارتينا بلوم» المهدر الذى أخرجه الألمانى فولكر شلوندورف. ومن المصادفات العجيبة أن هذا الفيلم يدور حول التأثير المدمر للإعلام على حياة امرأة تتهم ظلما بأنها على علاقة بلص بنوك، يتبين فيما بعد أنه ليس لصا ولكن هارب من الجيش، كما يتبين أنها ليست على علاقة به ولا تعرف عن نشاطه شيئا. ومع ذلك يطاردها الصحفيون ويحولون حياتها إلى جحيم وينفر منها أقاربها ومعارفها وتتحول إلى فضيحة تسير على قدمين...وفى النهاية تنفجر كارتينا بلوم تحت ملاحقات أحد الصحفيين فتقوم بإطلاق الرصاص عليه وقتله!