هل ما حدث في مصر يُعد انقلابًا أم ثورة شعبية؟ الكل يسأل هذا السؤال هذه الأيام. الإخوان والمتأخونون وأنصار الدكتور محمد مرسي والمتعاطفون معه يسمّونه انقلابًا، والمعارضون له داخليا والمختلفون معه خارجيا يسمّونه ثورة شعبية. الأطراف المتورطة (حبًّا وكراهية وحسابات ومصالح) تتعامل مع ما حدث باستقطاب شديد، لكن الواقع من وجهة نظري لا يتطلب كل هذا الانحياز إلى تباين الألوان! ما حدث ليس انقلابًا بالمفاهيم المعروفة للانقلابات العسكرية، وليس ثورة شعبية (كاملة) كما حصل في 25 يناير 2011، إذ إن هناك ملايين (أخرى) في رابعة العدوية تدعم الرئيس المنتخب وتقف معه! ما حدث كان خليطا من أمور عدة. فبالنسبة إلى الشعب المصري الذي ترتفع فيه مستويات الأمية بشكل كبير يسهل تشكيل الحشود وشحنها بالشعارات العاطفية المفرغة من محتواها والمعتمدة في الأساس على منطلقات اقتصادية، وتوجيهها من نخب متمصلحة ومستفيدة. كما أن جهله بالديمقراطية التي لم يجربها قبلًا عبر تاريخه الطويل يصور له أن الديمقراطية مرتبطة بتوفير لقمة العيش لا أقل ولا أكثر. لقمة العيش التي لا تقتضي المشاركة الفعلية للفرد في الناتج المحلي للدولة، وإنما التي تأتي على صحون الخيرية والرعوية والأبوية. كما أن نقص الخبرة عند «الإخوان» في ميادين العمل العام، وتخبطهم في تطبيق مفردات السياسة عمليا في مقابل نجاحهم في إدارة المعارضة النظرية لأعوام طويلة، وربط الحكم في التراث «الإخواني» بالخلافة، وما يقتضيه هذا الربط من الاستئمار والطاعة لرجل واحد، كل ذلك أسهم أيضًا في كشف ملعب الحزب الفائز بالانتخابات الرئاسية قبل عام، وجعل السهام تنطلق باتجاه الرئاسة من كل جانب. أما الضلع الثالث لمثلث إسقاط «الإخوان»، فكانت هشاشة الدولة التي تكوّنت بعد الثورة الشعبية الأولى والاستعجال في قطف نتائج سقوط الرئيس السابق حسني مبارك قبل أن توضع الأسس المناسبة لبناء دولة (مشروع ديمقراطي). كان الأجدر بالنخب المنتصرة تفعيل خطط استدراج آليات الديمقراطية وأساساتها، ولو احتاج ذلك إلى سنين طويلة، والاعتراف بالحاجة إلى بدء مشروع «الدمقرطة»، بدلًا من التظاهر بانتصار الديمقراطية في مجتمعات لم تعرف الديمقراطية أصلًا! محمد مرسي لم يسقط لأن أداءه الرئاسي كان سيئًا (لا يوجد في الدساتير المصرية جميعها -الأول في 1882 والأخير في 2012- فقرة تتحدث عن عزل الرئيس بسبب عدم كفاءته الإدارية)، ولم يسقط لأنه خان الأمانة الملقاة على عاتقه كما حكمت بذلك إحدى المحاكم بالإسكندرية، لأن ذلك يتطلب رفع عريضة بذلك من ثلث النواب والموافقة عليها بغالبية الثلثين حسب الدستور الأخير. ولم يسقط لأن الشعب كافة سحب عنه غطاء الشرعية (التي ذكرها في خطابه الأخير عشرات المرات)، ولم يسقط لأنه عمل على «أخونة» الدولة للقضاء على «الدولة العميقة» من جهة والتطلعات الديمقراطية من جهة أخرى... محمد مرسي سقط لأن المواطن البسيط والرئيس وما بينهما ظنوا أنهم قادرون على ممارسة الديمقراطية، كفكرة مطلقة في العقول من دون الحاجة إلى صنع قالبها على الأرض أولًا. وعندما أتحدث عما بينهما، فإنني أتحدث عن المرشد الذي يظن أنه الحاكم بأمر الله على الأرض، وأتحدث في الوقت نفسه عن بعض الرموز الشعبية التي خسرت في جولة الانتخابات الرئاسية الماضية، وعلى الرغم من ذلك عملت خلال ال12 شهرًا السابقة على تقويض حكم مرسي من خلال القنوات القانونية والدستورية الهشة مرةً، ومن خلال استمالة عواطف ملايين الغلابة مرات ومرات. لا يمكن أن أفهم حديث ابن النظام السابق عمرو موسى عن الديمقراطية أو تنظير الناصري حمدين صباحي عن ضرورة المشاركة الشعبية أو أمالي أبو العز الحريري أو خالد علي على الشعب المسحوق في ميدان التحرير عن الحرية والعدالة، وكل هؤلاء بحكم الأخلاق الديمقراطية يجب أن يكونوا خارج اللعبة مؤقتًا عملًا بمبدأ تضارب المصالح! الوضع في مصر الآن ليس ثورة ثانية، ولا علاقة له بما حدث في 25 يناير 2011. ما يحدث في مصر الآن نتيجة طبيعية لكذبات متتالية، بعضها كان بسبب حسن الظن والجهل، وبعضها كان متعمَّدًا ومدبرًا ومخططًا له بعناية! ويخطئ من يظن أن ما حدث هو استعادة للثورة أو تصحيح لمسارها. الأيام حبلى، لكن ما هو مقبل سيكون أصعب مما مضى إن لم تتدخل النخب المصرية العالمة المدركة المثقفة في رسم طريق الإصلاح في مصر، ولعل أول ذلك بالعودة إلى دستور 1971 بشكل مؤقت والعمل على تشكيل حكومة انتقالية توافقية تضم الأطياف المصرية كافة، وتستظل برئيس متفق عليه حتى ولو كان يلبس الجبة المرسيّة! نقلا عن الحياة اللندنية