ربما حينما يُذكر أمامنا الأدب الجزائري يكون "الطاهر وطار"، صاحب الرواية الخالدة "عُرس بغل"، هو الاسم الأول الذي لابد أن يرد على أذهاننا؛ لنرحل معه في رحلة إبداعية حقيقية نرى من خلالها روايته التي صور فيها الكثير من نضال الشعب الجزائري في روايته" اللاز"، ثم "العشق والموت في الزمن الحراشي"، و"الشمعة والدهاليز"، وغيرها من الروايات المهمة التي أبدعها هذا الروائي العاشق والمخلص لفنه، الروائي الذي كتب الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، محاولا في كل مجال من هذه الفنون أن يقدم لنا المزيد من ابداعه الذي نحترمه كثيرا. لكننا إذا ما حاولنا النظر إلى تاريخ الأدب الجزائري لن نستطيع تذكر الكثير من الأسماء الروائية التي تركت في وجداننا الأدبي بصمته الواضحة؛ وبالتالي لن نجد من الأسماء التي تركت بصمتها الإبداعية الحقيقية على الإبداع العربي بوجه عام الكثير، هل هناك من يذكر من الروائيين الجزائريين من امتدت هامته وتعالت إلى مصاف إبداعية حقيقية، هل هناك من ترك فينا كمتلقين للأدب بصمات واضحة لا يمكن نسيانها أو محوها مع مرور الزمن؟ ربما نذكر القليل من الأسماء التي تكاد تكون قد اكتسبت شهرتها من خلال ترويج الثقافة الفرنسية لها فقط- باعتبارها ثقافة المستعمر الذي يحاول الترويج للغته-، ولولا هذه الثقافة الفرانكفونية، ولولا أن هؤلاء الكتاب يكتبون باللغة الفرنسية لما استطعنا أن نعرف عنهم الكثير، من هذه الأسماء أحلام مستغانمي، التي استمدت شهرتها- إضافة إلى ترويج الثقافة الفرنسية لها- من جرأتها في تناول ما هو مسكوت عنه في المجتمعات العربية، قد نذكر منهم الروائية آسيا جبار صاحبة رواية "وهران.. لغة ميتة"، ربما لا ننسى "واسيني الأعرج، ومحمد ديب، ومالك حداد، وبشير مفتي، وأمين الزاوي، قد يرد إلى أذهاننا صاحب رواية "نجمة" كاتب ياسين الذي كتب كل أعماله باللغة الفرنسية، ولكن هل لو حاولنا تذكر الروائيين الجزائريين سواء من يكتب منهم باللغة العربية أو الفرنسية، كم روائيا في ظنك تستطيع أن تُعد وتحصي منهم مهما كنت عالما بأمور الثقافة؟ عشرون اسما أو ثلاثون؟ هل من الممكن أن تذكر أكثر من ذلك- مع الوضع في الاعتبار أن القارئ العربي العادي لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يعد عشرة أسماء روائية جزائرية كاملة-، وإذا كان الأمر هكذا، وهو هكذا بالفعل، فهل تستطيع أن تقول أن الأدب الجزائري استطاع أن يترك أثرا في الثقافة العربية؟ وهل هو بالأدب ذي القيمة الحقيقية؟ وهل ثقافة بكاملها لا تستطيع أن تتذكر من كتابها ما يصل إلى عشرة كتاب كاملين من الممكن أن يحاول أحد المنتمين إليها أن يتعالى ويتسامق لدرجة أن يتهم ثقافة أخرى راسخة منذ القدم بأنها ثقافة خاوية، أو خالية من الأدب والكتاب؟! ربما كانت مثل هذه التساؤلات وغيرها من الأسئلة التأملية والاستنكارية قد ظلت تُترى على خاطري؛ لتسيل في ذاكرتي حينما قال الروائي الجزائري رشيد بو جدرة: إنه لا يوجد أدب في مصر، خلال حديثه عن غياب حركة نقدية عربية تواكب ما يكتب، وإن الموجودين ليسوا سوى صحفيين يتحدثون عن أي شيء (الأدب، والسينما، والمسرح، والفن التشكيلي) من دون تخصص، هذا الكلام غير المسئول والموتور الذي جاء ضمن فعاليات المؤتمر الدولي للأدب وكتاب الشباب، الذي يقام بالجزائر خلال الفترة من 11 إلى 20 يونيو الجاري. ربما اكتسب الروائي رشيد بوجدرة قيمته الروائية الحقيقية من خلال الثقافة الفرانكفونية وكتابته باللغة الفرنسية سنوات طويلة، الأمر الذي جعل هذه الثقافة تحاول الاحتفاء به والترويج له، بل وقام هو نفسه بترجمة ثمانية عشر عملا إبداعيا من أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية محاولا الترويج لها كي يكتسب العالمية، كما لا يمكن إنكار أن الرجل له الكثير من الروايات المهمة مثل "الحلزون العنيد"، و"التفكك"، وغيرها من الروايات، وقد نحترم الرجل باعتباره شيوعيا شجاعا ومناضلا من أجل أيديولوجيته التي يؤمن بها حتى النهاية مما حدا به إلى القول في حوار له بجريدة الشرق الأوسط: "إنه الشيوعي الأخير في الجزائر"، ولكن هل معنى هذا كله أن يصل الخطل بالرجل في نهايات عمره أن يتهم الثقافة المصرية التي نشأ هو وغيره من العالم العربي عليها بأنها لا ثقافة، هل يعطيه هذا مبررا كي يتناسى قيمة هذه الثقافة التي شكلت وعي المنطقة العربية بالكامل، ولم تزل تُشكل، ليقول أنه لا توجد ثقافة في مصر، لا كتاب روايات ولا شعراء، حينما طلب منه الشاعر المصري سمير درويش أن يشرح ما قال بشكل موسع، مستنكرًا ما قاله عن الأدب المصري، فقال: إنه لا توجد رواية في مصر، فالروايات التي يكتبها المصريون محلية لا علاقة لها بالرواية المغاربية أو العالمية، وإنه لا يوجد بها شعر كذلك، فالشعر في بلاد الشام، وإن المصريين شطار في القصة القصيرة فقط؟! ربما حاول الرجل- كعادته المتناقضة والمنطلقة من دون تفكير دائما- أن يقول كلاما غير مسئول ولم يفكر فيه بروية قبل أن ينطلق به لسانه؛ مما أوقعه في فخ المثقف ذي الذاكرة المهترئة، ربما كانت طبيعته السيكولوجية التي تميل دائما إلى الاختلاف- سواء كان عن حق أو غير حق- عن الآخرين؛ مما يجعله دائما مثار الحديث واللغط الدائم قد أوقعته في مأزق الحديث المتثاقف، ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي جعله ينسى تماما بداية الأدب الجزائري الذي يكاد أن يكون وليدا إذا ما حاول مقارنته بالأدب المصري، هذا الأدب الجزائري الذي تكاد تكون نشأته الأولى في الخمسينيات من القرن المنصرم، مع روايات وليدة كانت لم تزل تحاول التشكُل محاولة أن يكون لها قوام نستطيع أن نُطلق عليه اسم رواية مع الروائي عبد المجيد الشافعي 1951م، وروايته "الطالب المنكوب"، أو نور الدين بوجدرة وروايته "الحريق" 1957م، وغيرهم من الأدباء الذين كانوا في بدايات التعرف على هذا اللون من الكتابة الأدبية محاولين في ذلك الاستفادة من الأدب المصري الذي تشكل منذ فترة طويلة وأخذ شكلا وقواما متماسكا على يد كل من نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وعبد الحميد جودة السحار، والعقاد، والمازني وغيرهم ممن تعلم على أيديهم بوجدرة وغيره من جميع مواطني العالم العربي. يقول "بوجدرة": "الروايات التي يكتبها المصريون محلية لا علاقة لها بالرواية المغاربية أو العالمية"، ولم يحاول أن يُفسر لنا ما يعنيه بقوله أن الروايات المصرية هي روايات محلية، وهل حينما تتصف الرواية بكونها محلية هل هذا يُعد عيبا روائيا يُخرج الرواية من عالم الأدب، وهل الموضوع الروائي هو الأهم في تلقى الرواية أو في تناولها النقدي، أم أن الأهم في تناول الرواية هو أسلوبيتها ولغتها الروائية وعمق مفرداتها وقدرتها على التجديد وتناول أشكال روائية وفنية يستطيع من خلالها الروائي أن يكون مُتفردا بشكل روائي لم يسبقه إليه غيره، ومن ثم يستطيع اللعب بطرق الكتابة المختلفة؟ ربما وضع رشيد بوجدرة هنا نفسه في موضع الجاهل أو المتثاقف الذي لم يستطع الاستفادة بالكثير من اللغات التي يتقنها- ثمان لغات-، ومن ثم لم يعرف من خلال هذه الثقافات التي اطلع عليها أن الأهم في الأدب هو أسلوبه وتقنيته المكتوب بها وليس الموضوع الذي يكتب عنه الروائي، بل الأهم هو كيفية تناول الروائي لهذا الموضوع ومدى قدرته على التحليق به من خلال أشكال روائية مختلفة ومتفردة عما هو موجود في الأساس، ومن قال للروائي الهمام أن الرواية المغاربية كما يقول هو في معرض حديثه من الممكن أن يُقاس عليها، ومن أعطاه الحق في مثل هذا الوهم كي يقيس الرجل الرواية المصرية بالمغاربية فنراه يقول " لا علاقة لها بالرواية المغاربية"، هل عهد الرجل من قبل أنه من الممكن قياس التبة الصغير بالهرم الأكبر؟! وهل هذا مقياس نقد في رأيه؟ أعتقد أنه لو اعتبر هذا الكلام المرسل مقياسا في النقد؛ فالرجل في حاجة إلى مراجعة ثقافته بكاملها، كما أنه لو كان مطلعا على الرواية المصرية الحديثة أو القديمة بشكل عميق لما كان قد استطاع إطلاق هذا الكلام الذي لا معنى له، لكني أحيله إلى صنع الله إبراهيم، وجمال الغيطاني، وإبراهيم أصلان، وإبراهيم عبد المجيد، ويوسف زيدان، وأشرف الخمايسي، وبهاء طاهر، ومكاوي سعيد، ووحيد الطويلة، الذي يعرفه المغاربة جميعا ربما أكثر من بوجدرة نفسه. ثم يستكمل بوجدرة حديثه قائلا: "إنه لا يوجد بها شعر كذلك، فالشعر في بلاد الشام"، وهذا يجعلني أقول هل اطلع بوجدرة بالفعل على تاريخ الشعر المصري، هل عرف صلاح عبد الصبور أو سمع عنه من قبل، هل قرأ أمل دنقل، أو حلمي سالم، أو أحمد عبد المعطي حجازي، محمد عفيفي مطر، أو غيرهم من الشعراء المصريين؟ هل تعرف من قبل على أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم أو العقاد أو شكري؟ أعتقد أن الرجل حينما تحدث خانه الكثير من التعبير في حديثه، أو أنه رغب أن يقع في المزيد من التناقضات التي يقع فيها دائما، هذه التناقضات التي جعلته المتناقض الأكبر في المنطقة العربية حينما قال في ندوة بعنوان "الحداثة والرواية العربية" في فندق البريستول في بيروت، بدعوة من جامعة البلمند: "إن اللغة حيادية"، الأمر الذي أثار الكثير من الجدل حول هذا القول الذي أطلقه من دون أن يفكر فيه، لاسيما أن هذه الندوة كانت تضج بالكثير من الأساتذة الجامعيين في الآداب والنقد، هذا الجدل حول أن اللغة ليست وعاء فحسب، ولكنها وسيلة لتسريب إيديولوجيا وفكر واستعمار ثقافي، وهو الأمر الذي يمارسه بوجدرة من دون دراية بكتابته باللغة الفرنسية التي رآها أفضل من العربية، محاولا تبرير هذه الكتابة بالفرنسية بقوله: "إنه بدأ الكتابة في أواخر ستينيات القرن المنصرم باللغة الفرنسية بهدف تجاوز عقبتين تتمثلان في "محدودية المقروئية باللغة العربية في بداية السبعينيات"٬ وفي "الرقابة الاجتماعية والسياسية القوية آنذاك"، بمعنى أنه رأى أن قراء اللغة العربية أقل من قراء الأدب في العالم الغربي؛ فكتب باللغة الفرنسية من خلال منطلق براجماتي- قد يكون مقبولا سيكولوجيا- كي يكون أكثر شهرة وانطلاقا، وأكثر عالمية، لكنه في الحين الذي يرى فيه: أن القرآن الكريم والإسلام قد أقحم نفسه في اللغة العربية نراه يعود فجأة وبصورة تناقضية للدفاع عن اللغة العربية التي عاد للكتابة بها في الآونة الأخيرة، بل ويحاول الدفاع عنها باعتبارها لغة مقدسة بالنسبة له، وأنها بالنسبة له هي الأم؛ مما يجعلنا نتساءل: هل هذا الرجل يعي جيدا ما يقوله، وهل من الممكن أخذ حديثه الذي يطلقه هنا وهناك على مأخذ الجد، أم أنه مجرد خطل أواخر العمر التي تجعله يُطلق مالا يعيه، أم أن هناك أزمة نفسية حقيقية يعاني منها تجعله دائما متناقضا أو مفتعلا لهذا التناقض من أجل أن يكون هو الأكثر جدلا معظم الوقت والمتصدر للساحة الثقافية بكلامه الذي لا معنى له؟! هل شاهد الرجل السينما المصرية وما تقدمه من قبل، وهل ينكر أن العالم العربي بالكامل تربى ونشأ وتشكل على هذه السينما، وهل هناك في المنطقة العربية بأسرها من استطاع صناعة سينما حقيقية غير مصر، وفي المقابل أين هي السينما الجزائرية أو غيرها من السينمات التي أسست لصناعة سينما حقيقية غير مصر؟- بالتأكيد لا نستطيع إنكار أن هناك سينما وليدة بدأت تنشأ ويكون لها شكل وقوام في الكثير من البلدان العربية منذ عدة سنوات- ولكن ألم تنشأ هذه السينمات جميعا على صناعة السينما المصرية؟! عزيزي بوجدرة، قل لي أين هو موقع الرواية المغاربية التي تحدثت عنها، والسينما الجزائرية، والثقافة الجزائرية بالكامل من الإعراب بالقياس إلى مثيلتها المصرية؛ كي أستطيع أن أوضح لك هل في مصر ثقافة وفن وسينما وأدب أم لا، بل قل لي أين موقعك أنت من الإعراب في الثقافة العربية، والمصرية كي أخبرك بحقيقة ربما لم تكن تعلمها وهي أن اسمك ككاتب لا يعلمه في مصر سوى النخبة فقط وهو قلة لو تعلم، وليس هذا لقصور في المثقف المصري ولكن لأنك لم تستطع، أو تمتلك ما امتلكه الطاهر وطار في التأثير على ثقافة القارئ المصري. أظن أن الروائي رشيد بوجدرة لم يكن في كامل وعيه حينما أطلق مثل هذا الكلام المرسل الذي لا قيمة له، والذي لم يستطع البرهنة الحقيقية عليه؛ مما يجعلنا نعتقد أن ذاكرته قد ثُقبت أو أنه مجرد روائي لا تاريخ راسخ في عقله.