أرض خضراء شاسعة أشجارها يافعة، سماء زرقاء صافية شمسها ذهبية دافئة، وأغصان الزيتون تتمايل مع لمسات النسيم الساحرة، وسط بيوت صغيرة متناثرة على امتداد سهل "مرج ابن عامر" حيث تستلقى محاصيل زراعية متنوعة، هكذا هى محافظة "جنين" (شمالي الضفة الغربية) تبدو كلوحة فنية رائعة. تمتد "جنين" على سهل "مرج ابن عامر" والذي يعتبر من أخصب أراضي فلسطين، وتعتبر الزراعة نشاطا رئيسيا في مدينة جنين ومحافظتها، حيث يعتمد عليها غالبية السكان سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وتزرع "جنين" سنويا بالمحاصيل الحقلية والخضار والأشجار المثمرة واللوزيات والحمضيات، بالإضافة إلى استخدام البيوت البلاستيكية على نطاق واسع. لكن أهم شجرة تزرع في جنين هى شجرة الزيتون، حيث يعتبر المحصول الاقتصادي الأساسي في المدينة. في الآونة الأخيرة، واجه القطاع الزراعي مشاكل عدة ليس فقط في جنين وإنما في فلسطين بشكل عام، ومن أهمها عدم مواكبة تطور الحياة والتي تسارعت بشكل كبير. فقد ارتفعت تكاليف الحياة من تعليم وسكن وصحة، في المقابل، لم يتقدم القطاع الزراعي ولم يرتق إلى التطور الهائل الذي حدث في بقية مجالات الحياة. وتعد قرى جنين من أكثر الأماكن التي تعاني مشاكل زراعية بشكل واضح. ومن أهمها قرية "دير غزالة" والتي تقع في الجزء الشرقي من سهل "مرج ابن عامر". وأوضح أحمد غالب سلامة، رئيس المجلس القروي بجنين - لوكالة أنباء الشرق الأوسط - مشكلة تراجع الأسواق الزراعية الفلسطينية بسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي، قائلا "يواجه القطاع الزراعي مشكلة كبرى وهى تراجع الأسواق، حيث أن لدينا إنتاجا هائلا من المنتجات الزراعية ولكن الأسواق هنا مغلقة بسبب تحكم وسيطرة إسرائيل على المعابر، ليس هناك سوق إلا بالضفة الغربية، بينما المنتجات الإسرائيلية يتم ترويجها هنا في الأسواق الفلسطينية". وأشار سلامة "أسواقنا مفتوحة أمام إسرائيل وتجلب منتجاتها إلينا ولكن نحن لا يسمح لنا أن نسوق داخل إسرائيل إلا بأصناف معينة تحدد من قبل، وبالتالي أصبح هناك أصناف كثيرة بالإضافة إلى ما تجلبه إسرائيل إلينا وأصبح هناك فائض فوق حاجة عدد السكان". وتابع "كما أصبح هناك تذبذب هائل لسعر المنتج وإذا أغلقت إسرائيل المعابر معناها أن كل المنتجات أتلفت عندنا، وبالتالي نحن نعتمد على السوق الإسرائيلي حسب رغبة السلطات الإسرائيلية وعلى حركة عرب 48 الذين يأتون إلى جنين لشراء منتجات زراعية". وأكد سلامة أن المشاكل مع الاحتلال الإسرائيلي تنعكس بشكل مباشر على أداء السلطة الفلسطينية تجاه قطاع الزراعة والمزارعين في جنين. وقال: "السلطة الفلسطينية نفسها لا تستطيع أن توفر لنا أسواق خارجية فالمعابر كلها تسيطر عليها إسرائيل، والسوق الخارجي متعلق بالسياسة الخارجية، كذلك الحال في السوق الداخلي، لكن دون شك هناك تقصير من جانب السلطة الفلسطينية في توفير بعض الخدمات البسيطة للمزارع كتوفير السيارات اللازمة للزراعة أو دعم البنزين". كما ذكر رئيس المجلس القروي، ما حل بفلسطين من ثلج وسيول ومطر في الآونة الأخيرة، ما أضر بالمحاصيل الزراعية دون أن تقدم السلطة الفلسطينية تعويضات كافية. وقال "كان هناك تعويضات بعد فترة الثلج والسيول وكانت للبيوت البلاستيكية فقط لاغير والتعويض كان ضئيلا جدا ولايتناسب نهائيا مع حجم الخراب الذي حل على الأراضى الزراعية"، موضحا أن الخسائر حينئذ قدرت بعشرة ألاف شيكل وتم تعويض 10% فقط". كما أكد سلامة أن وزارة الزراعة لم تعترف بفترة الجفاف الذي ضرب البلاد في فبراير الماضي، لذلك لم تقدم أية تعويضات، قائلا "بالنسبة للجفاف، لم تعترف لا وزارة الزراعة ولا الحكومة الفلسطينية بموجة الجفاف التي ضربت الوطن في فبراير وبالتالي لم يتم دفع تعويضات للمزارعين". من جانبه، سلط مازن غنام مدير الجمعية التعاونية للتسويق الزراعي بمحافظة جنين، وهو خبير زراعي في التنمية على المستوى الوطني، الضوء على مشاكل أخرى يعاني منها المزارع الفلسطيني في جنين، كتكلفة الإنتاج، قائلا لوكالة أنباء الشرق الأوسط برام الله، "علينا أن نحسب النقل والعمالة والمستلزمات الزراعية والأسمدة وكل هذا بتكاليف عالية بالمقابل نريد إعطاء المزارع دخلا يكفيه للمعيشة، ليس المشكلة أن نوفر له دخلا وإنما يجب أن يكون هذا الدخل يكفيه". ووصف "غنام" مشكلة نقص المياه ب"مشكلة المشاكل"، قائلا "تكلفة إنتاج المياه والمحروقات عالية جدا، ونحن أمامنا إنتاج زراعي مكثف وينافس من يعمل بالزراعة المَروية". وأكد غنام أن دور السلطة ممثلة في وزارة الزراعة الفلسطينية غير مجد أمام ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي وما يحتاجه المزارع البسيط .. لذلك، اضطر المزارع الفلسطيني الاعتماد على خبرته الشخصية في زراعة أرضه وانتاج المحاصيل الزراعية. فالعمل في قطاع الزراعة هنا وعلى هذه الأرض فردي أو شخصي. ومن المتعارف عليه أن الزراعة في فلسطين لها أهمية كبيرة للهوية الفلسطينية لأنها تتعلق بالأرض والتراث الثقافي والحياة الاجتماعية، بل هى عامل من عوامل الاقتصاد الوطني. لكن مازن غنام أوضح "الزراعة كنشاط نعم هى عامل من عوامل الاقتصاد ولكن كنتيجة لا، فقد تراجعت الزراعة بسبب تقصير الحكومة، والمزارع يعمل ولديه صبر وقدرة على التحمل ويعيش في هذه الظروف لأنه لايوجد خيارات أخرى أمامه". عدم الاكتراث بالزراعة ترك أماكن خالية في فلسطين للاستيطان مثل منطقة الأغوار وكثير من المناطق التي لايوجد فيها تربية حيوانية أو البدو أو محاصيل زراعية، ما جعل الأمر خطيرا على مستقبل الأراضي الزراعية الفلسطينية، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج ما جعل المزارعين يلجأون إلى زراعة التبغ (الدخان) في قرية "دير غزالة"، والتي تتكون من 6 ألاف دونم (والدونم الواحد = 1000 متر مربع) منها 2000 دونم أراضي قابلة للاستصلاح وغابات ومحمية طبيعية ومناطق سكن وأربعة ألاف سهل حيث يتم زراعة برسيم وقمح وشعير وأشجار الزيتون، ومؤخرا التبغ. ويسرد أحمد سلامة، رئيس المجلس القروي، "منذ 4 أو 5 أعوام، دخلت علينا في قرية دير غزالة زراعة الدخان. لمن لم يكن لديه أرض كان من الممكن استئجار أرض ويزرع ما يريد وضمان الدونم 25 دينارا، حاليا ضمان الدونم فيى السنة وصل إلى 100 دينار وإذا تم زراعة قمح أو شعير فلا يرد بدخل مناسب مقارنة بأرض مزروعة دخان وتجلب دخلا عاليا". في أرض "دير غزالة"، يوجد حاليا مايقرب 1450 دونم مزروعة بالتبغ، وفي جنين بشكل عام 16 ألف دونم، أي زيادة بأربعة أضعاف عن المساحة المحددة من قبل الوزارة لزراعة التبغ (أربعة ألاف دونم). ولمواجهة ذلك تم تجميع توقيعات من المزارعين لأخذ موقف ضد زراعة التبغ لأنها تأتي على حساب بقية المحاصيل المزروعة. نور الدين زكارنة، مزارع في قرية "دير أبو غزالة"، سلط الضوء على أسباب لجوء المزارع إلى التبغ، قائلا لوكالة أنباء الشرق الأوسط "تكلفة زراعة المحصول هنا عالية جدا والعائد أصبح صفرا وبالتالي يعلم المزارع أنه سيخسر إذا زرع قمحا أو شعيرا، أما إن كان سيزرع تبغا فهذا لن يضره في شيء بل بالعكس سيأتي عليه بدخل وفير". وأشار زكارنة إلى تقاعس وإهمال السلطة الفلسطينية تجاه "جنين"، حيث لم يعد أحد يهتم بالمدينة زراعيا، "وبالتالي نحن من نهتم ونعمل عمل المرشدين الزراعيين ونتمتع بخبرات جيدة في الزراعة الحديثة والمتطورة وهناك تعاون مستمر بين المزارعين بشكل كبير". وشهدت البلاد ظروفا جوية غير طبيعية من هطول أمطار بغزارة في أبريل الماضي بعد فترة من الجفاف، ما أضر بالمحاصيل الزراعية. وبسبب هذه الظروف الجوية، تشير التقديرات الأولية إلى أن نسبة الإنتاج الزراعي في جنين هذا العام (2014) بلغت 20% فقط عما تم زراعته في العام السابق. في عام 2013، تم زراعة 40 ألف دونم قمح ووصل الإنتاج إلى 14 ألف طن، وتم زراعة 7 ألاف و400 دونم شعير وسجل إنتاج ألفين و220 طنا، وزراعة خمسة ألاف و500 دونم من البصل بإنتاج 22 ألف طن. كما تم زراعة مليون ونصف شجرة زيتون بإنتاج 100 ألف طن زيت زيتون. أما كبير المزارعين، الحاج "أبو شاهر" (71 عاما)، فقد أبرز معاناة المزارعين نتيجة الجفاف الذي حل بالبلاد، قائلا في حديث مع مراسلة وكالة أنباء الشرق الأوسط برام الله، "المعاناة هذا العام على كل المزارعين، خاصة بعد فترة الجفاف، 85 يوما حابسا ولانقطة مطر واحدة وكل المحاصيل الزراعية أتلفت، ولم يعد هناك زراعة". وأوضح أبو شاهر أن أرضه التي تبلغ مساحتها 13 دونما لم يربح منها حتى إيجاره، لكن بالرغم من ذلك، يظل صابرا على أرضه محافظا على عرضه، " لن أترك أرضي ولن أبيعها بالرغم من شدة المعاناة الاقتصادية التي أعانيها". وبكل إصرار يقول أبو شاهر "نظل نعيش في هذه الأرض، نزرع قمحا وشعيرا وعدسا، هذه حياتنا، فالأرض هى الحياة".