في “,”خالتي صفية والدير“,”، يقدم الروائي الكبير بهاء طاهر رؤية بالغة العمق والأهمية عن المجتمع المصري الصعيدي، في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حيث ذروة التآلف والانسجام بين المسلمين والمسيحيين من ناحية، وسطوة القيم التقليدية الموروثة من ناحية أخرى. لا شبهة تعارض وتنافر بين المحورين، ذلك أن احترام غير المسلمين بمثابة الركيزة الراسخة في منظومتي العقيدة الدينية والأعراف الاجتماعية، وتقدير الدير ورهبانه يرقى إلى مستوى التقديس الذي لا يثور بشأن جدل أو خلاف. وفقًا لما يقوله الراوي، وهو يستعيد ذكريات المشاهد القديمة: “,”اعتاد أبي في طفولتي- منذ أكثر من ثلاثين سنة- أن يصحبني معه في أحد السعف وعيد 7 يناير لكي نعيد على الرهبان. وفي عيدنا الصغير كانت أمي تكلفني بأن أحمل من جملة العلب التي تعبئها بالكعك علبة الدير“,”. القرية والدير كيان واحد منسجم، والتواصل قوامه المودة والحب والاحترام، والاختلاف الديني لا تأثير له على نثريات التعامل اليومي، فالبطولة للحياة في المقام الأول. البسيط الطيب المقدس بشاي من أسرة سكان الدير، والأقرب إلى الفلاحين وثقافتهم الشعبية. ليس راهبًا أو متبحرًا في العلوم الدينية ، وتأمل أسلوبه عند زيارة الطفل الراوي ينم عن طبيعة شخصيته البسيطة الطيبة المرحة، التي تقترب من الوقوف على حافة السذاجة، وتبتعد عن الوقار التقليدي الذي يتسم به عادة أصحاب المكانة الدينية الرفيعة: “,”لم تكن حفاوته بالحمار تقل عن ترحيبه بي إن لم تزد.. فكان يربت على عنقه ويناغيه بعبارات التدليل ويكاد يقبله.. وانتابتني الدهشة من تصرفات المقدس في أول مرة ذهبت فيها إلى الدير بمفردي وسألته لماذا يعامل الحمار بهذه الطريقة؟ فقال لي وفي نبرته شيء من العتاب: كيف تسألني ياولدي وأنت تلميذ في المدرسة؟ ألم يدخل مخلصنا أورشليم ممتطيًا هذه الدابة فتهلل له الشعب؟“,”. روح طفولية خلابة جذابة، وصفاء نادر يقتحم أعماق القلوب. رقة بشاي تتجاوز الإنسان إلى الحيوان، وحديثه عن المسيح لا يعكس ثقافة وعلمًا بقدر ما يؤكد النزعة الإيمانية الصادرة عن القلب وحده. لا تخفي ملامح شخصية بشاي على عارفيه والمحيطين به، داخل الدير وخارجه، ولا يخلو التقييم من مزيج الاستخفاف والتعاطف، فهو موصوف بأنه “,”خفيف العقل“,”، ويختلف عن الرهبان في زيه ومهامه: “,”كان يلبس مثلهم ذلك الرداء الطويل الأسود ولكنه كان يضع على رأسه طاقية عادية بدلاً من القلنسوة المقلوبة الحواف.. فهل كان راهبًا تحت الاختبار، أو مجرد خادم للكنيسة أو مزارعًا في أرض الدير؟ لم يعرف ذلك أحد رغم أنه كان وجهًا مألوفًا في نجعنا وفي النجوع المجاورة، يعرف الجميع ويعرفه الجميع. كان هو الذي يذهب إلى الأقصر مرة كل أسبوع في الصباح، ماشيًا على قدميه في الأغلب، ثم يرجع في المساء حاملاً على ظهره وفي يديه أكياس السكر والأرز والشاي وصفائح الكيروسين ورتينات الكلوبات وكل الأشياء الأخرى التي يحتاج إليها الدير.. وكثيرًا ما كان يستوقفه في الطريق فلاحون وسط الحقول يستشيرونه في زراعاتهم أو يتوقف هو من تلقاء نفسه ليقول رأيه ونصائحه.. وكان المعروف أن نصائحه في الزرع لا تخيب رغم كل ما يقال عن خفة عقله.. واعتقد البعض أن هذه البراعة سببها اتصاله بالأرواح، مثلما اعتادوا أن يقولوا عن كل إنسان لا يتكلم مثل الآخرين“,”. “,”خفة العقل“,” لا تعني الجنون بطبيعة الحال، لكن اليقين الراسخ عند الجميع أن المقدس بشاي ليس كغيره من أفراد أسرة الدير، ويتأكد ذلك بالنظر إلى مجمل ما يقوم به من أعمال تصنفه في خانة أقرب إلى الخدم. من ناحية أخرى، فإن ثقافته الزراعية المتميزة تؤكد أنه فلاح “,”محترف“,” في أعماقه، وما يتردد عن اتصاله بالأرواح ليس أكثر من مبالغة ودعابة، تجسد تفرد موهبته الخارقة، وهي إشاعات وثيقة الصلة بالمفاهيم الشعبية التي تضفي على البارعين في مجال بعينه قوة خارقة غير تقليدية، وغير قابلة للاستيعاب بمقاييس العاديين من البشر. قلب بلا ضفاف ينتمي المقدس بشاي إلى عالمي الدير والقرية، فهو فلاح أصيل عند التواصل والتعامل مع جموع الفلاحين، و“,”شبه“,” رجل دين مع الرهبان الذين يحظون باحترام وتقدير المسلمين المتسامحين البعيدين عن التعصب. لا ينسى الراوي الصغير الجلسات التي كانت تجمعه بالمقدس بشاي، حيث الدفء والمودة والسمر الذي يخلو من التعقيد والافتعال: “,”كنت أستمتع بأدوار الشاي الثقيل التي يقدمها لي كوبا وراء الآخر وهو يحكي حكاياته التي لا تنتهي عن الأشياء التي رآها في البلد منذ جاء إلى الدير شابًا صغيرًا قبل أربعين عامًا. لم يكن يطيق الجلوس وهو يتكلم، بل يتحرك دائمًا: يذهب ليعطي أوامر للرهبان الذين يساعدونه في زراعة الأرض أو يلتقط عشبًا ضارًا من وسط الزرع أو يقلم إحدى الأشجار أو يسوي بفأسه جزءًا من الأرض وهو لا يكف عن الكلام ولا عن الضحك.. ولم يكن يغضب عندما أضحك أنا من غرابة حكاياته بل يضع يده على صدره وهو يقول مبتسمًا: غدًا ترى أن عمك بشاي على حق“,”. اندماج كامل بلا شوائب غربة مع القرية الصعيدية المسلمة، وانتماء بشاي إلى المكان لا يتعلق بالميلاد قدر ارتباطه بالتواصل الحميم مع الإيقاع المألوف والثقافة السائدة والهموم البيئية المحلية، حيث يمثل النشاط الزراعي جوهر الحياة وسر الوجود. يتسع قلب بشاي لاحتواء العالم كله، وفي محبته الغامرة لا يميز بين مسلم ومسيحي، أو بين إنسان وحيوان. كلماته عن الحمار تجسيد لمبدأ عام يُترجم في السلوك اليومي الذي يرصده الطفل الراوي ويعلق عليه: “,”كان المقدس بشاي آخر من يتمنى الموت لأي إنسان، رأيته بعيني ذات يوم يبكي وهو يضمد ساق أرنب جريح في مزرعة الدير بالقطن والشاش. ولم نكن نحن أيامها نرى هذه الأشياء إلا في المستشفيات“,”. في هذا السياق العاطفي المسرف في المثالية والبراءة، يبدو منطقيًا أن يقترب بشاي من حربي عندما يلوذ بحرمة الدير، بعد الإفراج عنه من السجن مريضًا متهالكًا يقف على حافة الموت. كلاهما فلاح بسيط، عامر قلبه بالحب والقدرة على العطاء، وكلاهما تعيس الحظ ويطوله قدر لا يستهان به من الظلم. والد الراوي، الشيخ المتدين السمح الكريم الحكيم، هو من يختار الدير مكانًا آمنًا لتأمين حربي من المطاردة الثأرية التي تهدد حياته: “,”يمكنه أن يعيش في مزرعة الدير. لن تستطيع صفية أن تمسه في حمى الدير ولن يستطيع أحد أن يمد عليه يده“,”. يدرك الأب ذو النظرة الثاقبة أن عتاة المجرمين لا يفكرون في إهانة الدير والاعتداء على اللائذين به، واختيار المكان يستند على معطى إسلامي يتوافق مع ثقافته الدينية وورعه: “,”لم تعترض البلد على التدبير الذي استقر عليه أبي. كان هناك اثنان أو ثلاثة لم يعجبهم هذا التصرف وعاتبوه صراحة بعد صلاة الجمعة في المسجد. استمع إليهم صامتًا، ثم قال في بطء أمام الجميع: أولم يرسل الحبيب عليه الصلاة والسلام أول المسلمين إلى النجاشي حرصًا على حياتهم؟ أنا أتأسى بالحبيب المصطفى“,”. المعارضون لاختيار الشيخ ليسوا متعصبين أو كارهين للدير وسكانه من الرهبان، لكن ضمائرهم الدينية لا تستوعب الاختيار، وسرعان ما يقتنعون بالدوافع ويسلمون بالحكمة الكامنة التي تحقق أكبر قدر ممكن من التوازن. ليس أدل على عمق التعايش ومتانة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، من فشل محاولة صفية، صاحبة الثأر، للاستعانة بقتلة محترفين للنيل من حربي: “,”ياست صفية إن خرج من الدير قتلناه ولكنا لا نستطيع أن نقتله في الدير. حتى المجرمون والمطاريد لا يفعلون ذلك. هذا حرام“,”. القاتل المحترف يتخذ من إزهاق الأرواح مهنة، ومن البدهي أنه يعيش بلا قلب أو عواطف، ويتمرد على كل القيم والأعراف والأخلاق المستقرة في المجتمع، لكن هذا كله لا يحول دون اليقين الراسخ بأن الاعتداء على الدير واللائذين به “,”خط أحمر“,” لا يمكن تجاوزه. المسيح ويهوذا صداقة وثيقة تجمع بين بشاي وحربي، ويجد كلاهما في الآخر ما يعينه على تحمل الوحدة والغربة: وحدة بشاي مع الرهبان الذين يفوقونه علمًا ويختلفون عنه في السلوك والفكر، وغربة حربي بعيدًا عن الأهل والأمان، معذبًا بالذكريات التي تختلط فيها أطياف السعادة الباهتة وكوابيس التعاسة والقهر. حكايات بشاي ذات طابع خرافي أسطوري مخاصم للمنطق والعقل، ولا يستوعب حربي ما يصعب تصديقه، كأن يحكي المسيحي الطيب عن استضافة عسران بك للأسطول المصري: “,”فإذا وجد المقدس بشاي أن حربي مازال يضحك رغم ذلك وأنني أداري الابتسامة، مال برأسه وزر عينيه وقال بخجله المألوف: يعني ياولدي الأسطول لا يعرف أن يأتي إلا بالبحر؟ ألا يمكن أن يركبوا القطار؟ أليسوا ناسًا مثل الناس حتى ولو لبسوا القصب؟“,”. لا ضير من اختلاط الحقائق بالأساطير، وتداخل المنطقي بكل ما هو غرائبي. الأمر كله أقرب إلى السمر اللذيذ المتشعب الذي لا يحكمه قانون، والبطولة الحقيقية للتآلف والانسجام والمحبة المتبادلة والمودة الصافية، وهو ما يحيل الرجلين إلى طفلين بريئين يغلفهما مزيج من الطيبة والشجن. المسلمون والمسيحيون، في الخير والشر معًا، نسيج واحد متماسك لا يمكن التمييز بين خيوطه. وإذا كان زعيم المطاريد فارس مسلمًا، دون نظر إلى مدى توافق عمله مع الدين، فإن عددًا من أتباعه ينتمون إلى المسيحية. من البدهي أن يتراجع الالتزام الديني، لكن المشترك بين الجميع هو الحرص على الاحترام غير المنقوص للتقاليد والأعراف: “,”وكان هناك بعض المسيحيين من بين رجال فارس فكان هؤلاء يدسون نقودهم في يد المقدس بشاي ويطلبون منه أن يضعها في صندوق الدير وأن يوقد لهم شموعًا في كنيسته“,”. حنين هو المسيحي الأكثر أهمية من أتباع زعيم المطاريد المسيطر على رجاله بقوة وحزم، والسمة الأهم عند حنين هي اقترابه من التشبه بشخصية يهوذا، الخائن الأعظم للمسيح. علاقته مع بشاي تتراوح بين الدعابات البريئة والسخريات اللاذعة، والفارق الشاسع بينهما ينعكس على ما يدور من حوارات. يبدو بشاي مفرطًا في البراءة عندما يقول لحنين ضاحكًا: “,”لا تقدس ولا تترهب ياحنين.. ولكن اترك صحبة السوء واترك السكة البطالة لكي تمشي في سكة مخلصنا“,”. كلمات بشاي، ذات الظاهر الغليظ، لا تغضب زعيم المطاريد المقرب من حربي، لكن حنين- يهوذا هو من يتعرض للعقاب السريع الصارم عندما تصدر عنه كلمات مريبة لا يمكن غفرانها أو التغاضي عنها. الإشارة الخبيثة إلى “,”الدير المملوء بالذهب“,”، وكأنها دعوة إلى السرقة والنهب، تدفع الزعيم إلى إطلاق الرصاص على تابعه، واتخاذ القرار بطرده من العصابة التي لا تتسع للمنحرفين عن منظومة القيم واجبة الاتباع: “,”لم ينجح حربي وأبى في انتزاع المسدس من يد فارس، ولكنهما استطاعا إقناعه بالجلوس فقال وصوته يملأ الجبل: ينصرف هذا الكلب من هنا.. لا يبقى معي دقيقة بعد اليوم. قال حربي مهدئًا: أمرك يا معلم ولكن اهدأ... ولما أطمأن حنين جلس وهو يتأوه ويقول: ترميني بالنار على نكتة يامعلم؟.. فقال فارس بصوت جريح عاجزًا عن السيطرة على نفسه: تريدني ياحنين أن أعتدي على الرهبان الذين أوصي عليهم ربنا سبحانه وتعالى في القرآن؟“,”. قد يكون صحيحًا أن الوجه الظاهر لبشاي يوحي بالسذاجة والطيبة المفرطة ومحدودية الوعي والثقافة، لكنه- في لحظات الإشراق والتوهج- يبدو أقرب إلى “,”زرقاء اليمامة“,”، قادرًا على قراءة واستشراف ما سوف يكون. ينهمك في تضميد الجراح التي أصابت حنين، ثم يضحك قائلاً: “,”هل تعرف دينك ياحنين؟ قال حنين ساخرًا وهو يتحسس ساقه: علمني يامقدس.. فقال المقدس وكأنه لم يسمع: أتعلم ياحنين أن مخلصنا غسل قدم يهوذا في ليلة العشاء الأخير؟ رد حنين ما بين السخرية والألم: كنت نسيت وأشكر الرب أنك علمتني.. فانتصب بشاي واقفًا ونظر للسماء متأوهًا بصوت عال وكأنه يحتج على كل ما في العالم في ظلم ثم قال: ولكنه خان بعدها ياحنين.. ولكنه خان“,”. قصة المسيح ويهوذا يُعاد إنتاجها بشكل عصري: حنين يتقمص شخصية يهوذا ويثير فزع القرية الآمنة الوديعة بالتشكيل العصابي الشرس الذي يكونه ويسطو به على البسطاء والفقراء، أما بشاي الطيب فهو وريث الروح المسيحية الطيبة وضحية التحولات العاصفة التي لا تحتملها أعصابه المرهقة منذ البدء. المأساة تتغير الحياة المصرية جذريًا بعد هزيمة يونيه 1967، ولا يحتفظ الدير بالإيقاع القديم الذي عُرف عنه في العقود السابقة. يتوفى رئيس الدير متري العجوز، ويأتي رئيس جديد ذو منهج مختلف، وتتقلص مهام بشاي، ويندمج الهمان الذاتي والموضوعي اللذان لا يمكن الفصل بينهما: “,”وقيل إن بشاي ترك فجأة ما كان فيه واعتدل واقفًا ثم اتجه إلى جوار حربي وأخذ يحك جبينه بيده ثم قال له: - ياحربي. في البدء.. يعني ياولدي في البدء تمامًا.. هل اختار الشرير المرأة أم اختارت المرأة الشرير؟“,” مثل هذه الهواجس والعبارات الغامضة غير المفهومة قد تكون بداية التجديف والاقتراب من السقوط في دائرة الجنون، ثم يموت حربي فتزداد الأمور تعقيدًا: “,”يجلس في خصه يغني أغنياته الحزينة لسيدة الآلام. وبين وقت وآخر يخرج إلى القرية مشعث اللحية متهدل الثوب، وقد بدت عليه الشيخوخة بسرعة. كان يمر كالعادة وسط الحقول، يعطي نصائحه كالعادة للمزارعين، ولكنه يسأل دائمًا عن حربي. يسأل إن كان أحد قد رآه. يقول إن باله مشغول جدًا لأن حربي خرج من خصه وربما يؤذيه أحد. يقول إن حنين يتربص به ويريد أن يسلمه لأن حنين أخذ قطعًا من الفضة. ينصح المزارعين إن رأوا حربي أن يعيدوه مرة أخرى إلى الدير“,”. اختلاط وارتباك وتخبط، وتراجع ملموس في الوعي والإدراك. المؤشرات كلها تنبئ عن حالة مرضية لا يتسع لها الدير، وسرعان ما يصدر القرار بنقل بشاي إلى المستشفى، محاطًا بعيون الفلاحين الذين يرونه في شكل جديد غير معهود: “,”لم يكن هو بشاي. كانوا لسبب ما قد خلعوا عنه ثوبه الأسود وألبسوه جلبابًا عاديًا وحلقوا له شعر رأسه ولحيته فبدا وجهه الأسمر ضئيلاً للغاية وغريبًا تحف به مكان اللحية هالتان شديدتان البياض“,”. نهاية مأسوية تتوافق مع الأزمة الموضوعية العامة التي تعيشها مصر بعد الهزيمة، وإسدال الستار على حياة إنسان طيب وديع، لا يعرف إلا لغة الحب وعذوبة الأطفال ومرارة المسكونين بالحكمة والحسرة والبساطة الاستثنائية التي لم يعد لها مكان أو موضع!.