السينما المصرية ليست فقط صوفينار والسبكي.. ولكن هل هناك جمهور آخر؟ لو أن ربع الاهتمام الذي يبديه الإعلام بالأفلام "الهابطة" تم توجيهه للأفلام الجيدة لأصبح المصريون على قائمة أكثر الشعوب ثقافة وتقديرًا للفنون. ولو أن ربع من ينتقدون الأفلام "المبتذلة" قرروا أن يفعلوا شيئًا غير الكلام وأن يشجعوا الأعمال السينمائية الجيدة بالذهاب إلى مشاهدتها لتراجعت الأفلام الهابطة من تلقاء نفسها وتوارت خجلا. ...ولكن ماذا نفعل إذا كان كل ما يجيده الإعلام وجمهور "النخبة" هو "استهلاك" الفن الهابط والحديث عنه ومهاجمته، في الوقت الذي يفرون فيه من الفن الجيد والمحترم كمن لدغته حية؟! بمعدل كل يوم تقريبًا يتصل بي صحفي أو معد برامج، أو يتحدث معي مواطن عادي، عن السينما المصرية، وغالبًا ما يكون السؤال الأول الذي أسمعه هو: هل أنت راض عن الانحدار الذي وصلنا إليه؟ وغالبًا أيضًا ما يدهش المتحدث عندما أخبره بأنني راضٍ بالفعل، لأن صناعة السينما في مصر لم تزل حية رغم كل الظروف، ولأن هناك أفلامًا جيدة ظهرت، غالبًا لم يسمع بها المتحدث، ومن سمع بها لم يهتم بالذهاب لمشاهدتها. خلال العام الماضي مثلا عرض ما لا يقل عن خمسة أفلام جيدة جدًا، معظمها ينتمي للإنتاج المستقل، ومعظمها لمخرجين وسينمائيين جدد، ومعظمها من إخراج نساء. وفي العام الماضي أيضًا حصلت مصر على العديد من الجوائز من مهرجانات سينمائية دولية، عن أفلام مثل "فرش وغطا" لأحمد عبد الله، "هرج ومرج" لنادين خان ، "فيللا 69" لآيتن أمين و"الخروج إلى النهار" لهالة لطفي. الفيلم الأخير وحده حصل على أربع جوائز منها الجائزة الذهبية في مهرجان "وهران" والبرونزية في "قرطاج" وأفضل مخرجة جديدة في "أبو ظبي" بالإضافة إلى جائزة اللجنة الدولية للنقاد "الفيبريسي"، وبجانب الجوائز فقد ظهر اسم "الخروج إلى النهار" على قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما العربية التي نظمها مهرجان "دبي". مع ذلك، ورغم كل النجاح "المهرجاناتي" والنقدي الذي حققه الفيلم، إلا أنه لم يجد فرصة للتوزيع في دور العرض العام سوى الأسبوع الماضي فقط، وعلى عدد محدود من الشاشات، وبدون دعاية تذكر... لو أن القنوات التي خصصت ساعات من بثها للهجوم على صوفينار وهيفاء والسبكي خصصت ربع هذا الوقت للدعاية ل"الخروج إلى النهار" وأمثاله، لساهم ذلك في دحر السينما الهابطة وخدمة السينما الراقية أكثر بكثير من "الولولة" التي لا تنقطع على حال الفن المصري! وليس معنى كلامي أن "الخروج إلى النهار" فيلم سهل، أو مسلي، أو أن الجمهور العريض يمكن أن يقبل عليه لو توفرت للفيلم الدعاية الكافية، وإنما معناه أن دور الإعلام أيضا هو التنويه عن، والتعريف بالأعمال الجيدة، ومساعدة الجمهور على ترقية ذوقه، بدلا من تدريبه فقط على "شتيمة" الفن الهابط. ولكن ماذا نفعل إذا كان الإعلام نفسه يحتاج إلى من يرفع ذوقه؟! "الخروج إلى النهار" عمل فني مبدع، وممتع، ولكن التمتع بجمالياته يحتاج إلى الحد الأدنى من الحس الفني، ومن الإحساس المرهف، ومن الدراية بالأساليب الفنية والجماليات غير التقليدية...و"التقليدية" التي أقصدها هي فقط الميلودراما المصرية والهوليوودية التي سادت وطغت وباتت عائقًا يحول بين الجمهور وبين تذوق أي نوع آخر من السينما. ينتمي "الخروج إلى النهار" إلى السينما الواقعية، ولكنها ليست "واقعية" صلاح أبو سيف وعاطف الطيب ومحمد خان، وليست الواقعية الأوروبية التي ظهرت في منتصف القرن الماضي أو الواقعية الإيرانية التي تمزج بين الروائي والوثائقي، "الخروج إلى النهار" ينتمي إلى واقعية جديدة – لها سوابق كثيرة غربًا وشرقًا، ولكنها جديدة بالنسبة لنا، واقعية نزعت عن نفسها أوهام الرومانسية والأيديولوجية، ونأت بنفسها عن محاولات ابتزاز أو تملق الجمهور من خلال استدرار عواطفه ودموعه وابتسامته. باستثناء مشاهد قليلة عابرة ومبتورة تضج بشجن وحنين مكتوم، فإن "الخروج إلى النهار" يسعى بدأب إلى نقل خشونة وفقر و"قرف" الواقع، ونقل الشعور بالوحدة والاغتراب واليأس الذي تشعر به الطبقة الوسطى والطبقات الأفقر، خاصة الفتيات منهن. لا توجد قصة بالمعنى المعتاد في فيلم "الخروج إلى النهار"، ولكن بعض تفاصيل الحياة اليومية لفتاة وحيدة تعيش مع أبيها المريض العاجز وأمها العاملة المثقلة بالتعب والهموم، ونفهم من محادثة هاتفية تجريها الفتاة أن لديها صديقة عادية، وأنها كانت ترتبط، أو على وشك أن ترتبط بشاب، يتهرب منها. يدور الفيلم خلال يوم واحد من الصباح حتى صباح اليوم التالي الذي يموت فيه الأب، وتمر فيه الفتاة بليلة شاقة تضطر فيها للمبيت في الشوارع، وتمر بتجربة موت وبعث تقويها نفسيًا وربما تساهم في تحررها وخروجها من حالة الخوف والعزلة التي تعيش فيها...ربما...لأن الفيلم لا يضغط على الحروف ولا يملي علينا تفسيرًا أو تأويلا من أي نوع. "الخروج إلى النهار" هو الاسم الأصلي ل"كتاب الموتى" الفرعوني الذي يتناول رحلة الموتى في العالم السفلي وصولا إلى نهار البعث والخلود، ولكن الفيلم لا يضغط أيضًا على هذه الفكرة، ولا يبالغ في التشديد على المعنى الروحي أو السياسي أوغيره من المعاني. وربما تسأل: وما الذي يقدمه الفيلم إذن، إذا لم يكن هناك قصة نتسلى بها، أو معنى ومغزى نصل إليه؟ وإذا كان الفيلم مرهقًا وشاقًا على النفس كما يبدو من كلامك عنه؟ وأجيب عليك: الفيلم صعب بالفعل ولكنها صعوبة التجربة العميقة التي تجتاحك خلال وبعد الانتهاء منه، وهي تجربة إنسانية وروحية لا تتأتى إلا عبر الأعمال الفنية العظيمة، كما أنها من القوة بحيث تلتصق بعقلك وخيالك وتبقى هناك طويلا، وهي تنتمي لتلك التجارب التي يقال عنها "فاتحة للعيون"، أي أنها تجعلك ترى وتشعر بأشياء جديدة عليك كما لو أنها تساعدك على اكتشاف الحياة ورؤيتها بعيون أخرى. إذا كنت ممن يرفضون الهبوط والابتذال فعلا، وإذا كنت ممن يتحدثون عن الفن الجاد كثيرًا، فها هي الفرصة متاحة أمامك للاستمتاع بعمل فني كبير، كل ما يحتاجه منك هو بعض الجدية من جانبك، وبعض الوقت والجهد اللذين يستحقهما الفيلم.