فى الوقت الذى تشهد فيه أوروبا تراجعا عدديا فى الهجمات الإرهابية المعلنة، تكشف المؤشرات الأمنية عن تحول نوعى أكثر تعقيدا وخطورة فى طبيعة التهديدات فالإرهاب لم يعد مجرد نشاط ميدانى محكوم بخطط تنظيمية كلاسيكية، بل بات يتغلغل فى الهوامش الرقمية والاجتماعية. واستهدف الفئات الأكثر هشاشة فى المجتمع، وعلى رأسها القصر والمراهقون هذا التحول من الكم إلى الكيف، ومن الهجوم المنظم إلى التطرف الفردى الرقمي، يضع أجهزة الأمن الأوروبى أمام معادلة جديدة: كيف يمكن تقليص الخطر فى بيئة يتراجع فيها العنف الظاهر، لكنه يعاد إنتاجه بصيغ أكثر خفاء وخطورة؟. تراجع عدد العمليات لا يعنى بالضرورة أن أوروبا أصبحت أكثر أمانا، بل قد يكون مؤشرا على تغير تكتيكات الجماعات المتطرفة، التى باتت تراهن على عمليات أقل عددا، لكنها أكثر تأثيرا رمزيا وإعلاميا. وفى الوقت نفسه، أصبح تجنيد القصر وتوظيفهم فى مشاريع التطرف عبر الإنترنت ساحة الصراع الأهم، ما يحتم إعادة النظر فى أدوات المواجهة، بعيدا عن المقاربات الأمنية التقليدية. تراجع عدد الهجمات الإرهابية شهد الاتحاد الأوروبى فى عام 2024 تراجعا لافتا فى عدد الهجمات الإرهابية، وفقا لما أوردته وكالة "يوروبول" حيث سجلت دول الاتحاد 58 هجوما فقط، مقارنة ب120 هجوما فى عام 2023، أى بانخفاض يقارب 50٪ هذا التحول الإحصائى يعد مؤشرا إيجابيا. لكنه لا يعكس بالضرورة تراجع التهديد الأمني، بل يشير إلى تحول نوعى فى طبيعة التهديدات، خاصة على صعيد التجنيد والتطرف الذاتى بين الشباب والقصر. الانخفاض الكمى للهجمات لم يكن متوازنا جغرافيا، حيث تصدرت إيطالياوفرنسا قائمة الدول الأكثر تضررا، تليهما ألمانيا، ثم النمسا واليونان هذه التفاوتات تعكس استمرار وجود بؤر أكثر عرضة للاستهداف الإرهابي، سواء بسبب التحديات الأمنية أو البنى الاجتماعية والثقافية، أو حتى الموقع الجغرافى الذى قد يجعل بعض الدول أكثر جذبا للمتطرفين. فيما يتعلق بطبيعة الهجمات، أظهرت البيانات أن الإرهاب ذى الدوافع الإسلامية كان الأكثر فتكا، إذ تسبب بمقتل خمسة أشخاص وإصابة 18 آخرين، وتركزت العمليات على المدنيين والبنية التحتية الصناعية هذه النوعية من الاستهداف تكشف عن نية واضحة لإحداث أضرار رمزية ومادية واسعة، تعيد إلى الأذهان الهجمات الكبرى التى شهدتها أوروبا فى العقد الماضي، وإن كان حجمها قد تقلص. من الناحية المكانية، استمر الإرهاب فى استهداف المناطق الحضرية، إذ نفذت 45 من أصل 58 عملية فى المدن، مقابل 13 فقط فى المناطق الريفية هذا التوجه الحضرى يعكس رغبة التنظيمات المتطرفة فى تحقيق أكبر قدر من الترويع والانتشار الإعلامي، ويبرز فى الوقت ذاته الحاجة إلى تعزيز إجراءات الأمن فى الميادين العامة والمراكز السكنية والتجارية. ورغم تراجع عدد العمليات، إلا أن عدد المعتقلين فى قضايا مرتبطة بالإرهاب ارتفع بشكل طفيف، إذ تم توقيف 449 شخصا فى 20 دولة، مقارنة ب426 فى 2023 وتوضح هذه البيانات أن النشاط الإرهابى لا يزال فاعلا فى أوساط معينة، خصوصا فى دول مثل إسبانيا، فرنسا، إيطالياوألمانيا، وهى الدول التى اكتسبت خبرة أمنية طويلة فى التعامل مع التنظيمات المتطرفة منذ عقود. المثير للقلق أن نحو ثلث المعتقلين فى عام 2024 كانوا من القصر، وتتراوح أعمارهم بين 12 و20 عاما، ما يسلط الضوء على أزمة متصاعدة تتعلق بتجنيد المراهقين. وقد كشف أن أصغر الموقوفين كان يبلغ من العمر 12 عاما فقط، وينتمى إلى تيار اليمين المتطرف بينما أغلب القاصرين الآخرين تم ربطهم بالإرهاب الإسلامي، مع وجود نسبة أقل من المنتمين للتطرف اليمينى أو العنيف عموما. عمليات تطرف عبر الإنترنت هذه الفئة من الشباب خضعت فى معظمها لعمليات تطرف ذاتى تمت عبر الإنترنت، بعيدا عن الجماعات التقليدية، ما يضع أجهزة الأمن أمام تحدٍ حقيقى فى رصد وتتبع الأفراد الذين يتشربون الفكر المتطرف دون علاقات تنظيمية واضحة ففى 133 حالة تم رصدها، لم يسجل ارتباط تنظيمى مباشر سوى فى عدد محدود منها، ما يعزز فرضية بروز "الذئاب المنفردة" كتهديد مركزى فى مشهد الإرهاب الأوروبي. تنامى هذه الظاهرة يرجع إلى بيئة رقمية شبه مفتوحة، تشهد ضعفا فى الرقابة على المنصات، وغيابا أحيانا للدور التوعوى الفعال فى المدارس والمجتمعات تؤكد فيكى إيفانز، المنسقة الوطنية لبرنامج "بريفنت"، أن تمكين الأطفال بالمعرفة والوعى هو السبيل الأهم لتحصينهم ضد مخاطر الإنترنت، مشيرة إلى أهمية تعزيز الخطاب الوقائى داخل البيئات التعليمية والاجتماعية. ويرى التقرير أن الضعف النفسي، العزلة، والاندماج غير المتوازن فى العالم الرقمي، تمثل عوامل محفزة على الانجراف نحو التطرف فالمراهقون، بفعل هشاشتهم النفسية ونقص الوعي، يعدون فريسة سهلة للرسائل التحريضية المنتشرة عبر وسائل التواصل والمنصات المظلمة كما أن بعض الفتيات انخرطن مؤخرا فى هذه البيئة، وإن كانت نسبتهن لا تزال منخفضة نسبيا مقارنة بالذكور، إلا أن الاتجاه آخذ فى التصاعد. مخاطر التطرف الرقمي تحليل هذه المؤشرات يفضى إلى نتيجة مزدوجة؛ من جهة، هناك تحسن نسبى فى المؤشرات الكمية للهجمات، ومن جهة أخرى، هناك تطور خطير فى طبيعة الفاعلين الإرهابيين فبدلا من الشبكات التقليدية، باتت التهديدات أكثر فردية، وأكثر شبابا، وأكثر رقمية، ما يجعل الكشف المبكر عنها أكثر تعقيدا، ويضع الحكومات أمام استحقاقات جديدة تتطلب استراتيجيات غير تقليدية. فى ظل هذا التحول، تجد أوروبا نفسها مضطرة للاستثمار فى تقنيات الذكاء الاصطناعى لرصد التطرف الرقمي، وتوسيع برامج الوقاية الاجتماعية، خصوصا تلك الموجهة لفئة المراهقين. كما أن السياسات الأمنية قد تضطر لمراجعة أولوياتها، فتتحول من ملاحقة الخلايا النائمة إلى محاولة رصد اليقظة النفسية والذهنية للمواطنين، وخاصة فى المدارس، والأحياء الفقيرة، وعبر الهواتف الذكية.