جاءت افتتاحية العدد 504 من صحيفة «النبأ» الصادرة فى 17 يوليو 2025 ضمن سياق دعائى دقيق، يسعى فيه تنظيم الدولة الإسلامية إلى ترميم صورته وإعادة بث الحياة فى منظومته الإعلامية بعد فقدانه أى شكل من أشكال السيطرة الإقليمية الفعلية فى معاقله القديمة، خصوصًا فى العراقوسوريا. لم يعد التنظيم يمتلك ما يمكن وصفه ب«أرض التمكين»، بل تحوّل إلى كيان لا مركزى يتغذى على الفوضى الأمنية ويستثمر فى بؤر النزاع المفتوح، حيث تتيح هشاشة الدول فرصة للعمل بأساليب التسلل والتفجير والانقضاض الخاطف. يعتمد التنظيم اليوم على ما يسميه الولايات البعيدة، وخاصة تلك الناشطة فى القارة الإفريقية، مثل ولاية وسط أفريقيا فى الكونغو، وولاية غرب أفريقيا فى نيجيريا، وولاية الصومال. هذه الولايات تحولت إلى محاور رئيسية لحركة التنظيم، وأصبحت مصدر فخره الجديد كما تعكسه التغطيات الدورية لصحيفة «النبأ» التى تسعى إلى إبراز هذه الفروع بوصفها الامتداد الحى لمشروع الخلافة، فى مقابل تراجع مراكز التنظيم فى المشرق. تزامن صدور الافتتاحية مع تصعيدٍ دموى شهدته جمهورية الكونغو الديمقراطية، حين نفذت جماعة قوات التحالف الديمقراطى المبايعة لداعش مجزرة فى منطقة إيتورى يومى 10 و11 يوليو، راح ضحيتها 66 مدنيًا على الأقل. وقد حرص التنظيم، عبر إعلامه الرسمي، على إبراز هذه العملية كمؤشر على فاعليته واستمراريته رغم الهزائم العسكرية، مُقدمًا المجزرة كإنجاز فى مواجهة المرتدين والكافرين فى المنطقة. أما على صعيد الساحل الأفريقي، فقد تزايدت وتيرة الصراع بين داعش وفرع تنظيم القاعدة المعروف باسم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين «JNIM»، والذى كثّف من هجماته خلال الأسابيع التى سبقت إصدار العدد. هذا التنافس الميدانى بين التنظيمين الجهاديين لا يقتصر على التفوق العسكري، بل يمتد إلى المجال الإعلامى والدعوي، حيث يسعى كل طرف إلى تأكيد شرعيته وقيادته للمشهد الجهادى فى أفريقيا. من هنا، يمكن فهم افتتاحية العدد 504 على أنها محاولة مزدوجة: من جهة، هى خطاب تعبوى موجه إلى الأتباع لرفع معنوياتهم فى ظل ما يبدو تراجعًا استراتيجيًا؛ ومن جهة أخرى، هى خطاب استعراضى يستهدف الخصوم والمراقبين على السواء، لتأكيد أن التنظيم ما يزال قادرًا على الضرب فى أماكن متباعدة، وأنه لم يُستأصل كما تدّعى الحكومات المحلية والتحالفات الدولية. ما يعزز هذا التقدير هو ما كشفته دراسات بحثية حديثة حول تحول تنظيم الدولة إلى نموذج شبكي، يعتمد على الخلايا المحلية المرتبطة أيديولوجيًا وعمليًا بمركز مرجعى فضفاض. لم يعد التنظيم يسعى لإقامة دولة مركزية بقدر ما يعيد تعريف نفسه كشبكة حرب لا مركزية، تتحرك وفق منطق المرونة القتالية والضرب اللامتماثل، وتُبقى الأتباع مرتبطين بفكرة الخلافة عبر خطاب تعبوى مكثف كما فى هذه الافتتاحية. تحليل بنية الخطاب ثنائية «الحق - الباطل»: فى مفتتح الافتتاحية، يستدعى كاتب النص الآية {قل جاء الحق وزهق الباطل}، ثم يربطها مباشرة بحديث «لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة». هذه البداية ليست عفوية، بل تمثل فعلًا تأسيسيًا يرسم حدود الخطاب الأخلاقى ويحدد أطرافه. يتم تقديم التنظيم باعتباره الحق الإلهى النازل، الذى يتحرك وفق منطق إلهى مقدّس، بينما يُدمغ كل ما سواه – حكومات، جماعات، كيانات – بأنه الباطل الزائل، مهما بلغت قوته أو تعددت أشكاله. ما يقوم به هذا النسق هو نفى أى إمكان للحياد أو التفاوض أو حتى الاختلاف المشروع. لا يوجد فى هذا الخطاب رأى آخر، ولا مساحة للحلول التوافقية أو للتعايش مع الآخر المختلف دينيًا أو سياسيًا أو حتى تنظيميًا. فإما أن تكون ضمن طائفة الحق أو أنك فى صف الباطل المذموم. بهذه الطريقة، تُحوّل المعركة السياسية والأمنية إلى معركة وجودية بين طرفين متناقضين لا يلتقيان، ما يعزز من الاستقطاب الحاد ويفتح المجال أمام تبرير الإقصاء الدموي. النتيجة المباشرة لهذا البناء الأخلاقى الثنائى أن يُصبح العنف مبررًا، بل واجبًا شرعيًا وأخلاقيًا. إذ طالما أن العدو هو الباطل، فإن أى وسيلة لقتاله تعد مشروعة. ويصبح قتل المخالف، أو استباحته، عملًا يُحتسب فيه صاحبه من أهل الجهاد، لا من المجرمين أو الإرهابيين. فى هذا السياق، يتم توظيف النصوص الدينية خارج سياقها الزمنى والموضوعي، لصالح سردية لا تحتمل تعدد الأصوات أو الشرعيات. استدعاء «سُنن الله»: تكرّس الافتتاحية منطقًا تفسيريًا يعتمد على ما تسميه «سُنن الله» فى التاريخ، حيث تُقدَّم قوة الخصوم العسكريين – من دول وتحالفات – بوصفها مجرّد استدراج من الله، وهى مقدمة لسقوطهم المحتوم. هذا التفسير يُفرغ أى هزيمة من مضمونها المادى والسياسي، ويُعيد تدويرها كعلامة على اقتراب النصر، لا على الفشل أو الضعف. فالتنظيم، حتى فى أقسى لحظات الانكسار، يزعم أنه يسير وفق مخطط ربانى غير منظور. هذه الآلية الخطابية تبنى فى أذهان الأتباع قناعة راسخة بأن ما يجرى ليس إلا تمهيدًا لانتصار كبير قادم، وأن أى خسارة مرحلية لا تعدو أن تكون سنةً إلهية جُربت على أنبياء وصحابة من قبلهم. بذلك، تنتفى الحاجة إلى مراجعة الأداء أو محاسبة القيادات أو التفكير فى بدائل استراتيجية. فكل شيء مقدر، وكل تأخير فى النصر هو اختبار إلهى لصبر المجاهدين وثباتهم على الطريق. ما ينتج عن هذه الرؤية هو إلغاء أى مقاربة عقلانية أو واقعية للوقائع. الخطاب يُقصى التفكير الاستراتيجي، ويرفض النقد الذاتي، ويعتمد بالكامل على التفسير الغيبي. وهذا النمط من التفكير يُستخدم تاريخيًا فى الخطابات الشمولية كأداة لتحصين القيادة، وتخدير الأتباع، وإطالة أمد المشروع، حتى فى أشد حالات التآكل والسقوط. شرعنة العنف من خلال مفهوم «ذات الشوكة»: من أبرز مرتكزات الخطاب فى هذه الافتتاحية استخدام مفهوم «ذات الشوكة» المستمد من حادثة غزوة بدر، حيث يورد الكاتب أن الله قدّر للرسول وأصحابه الصدام مع قريش، لا الاستيلاء على العير، ليظهر أن التغيير لا يكون إلا عبر المواجهة المسلحة. هذا الاستدعاء التاريخى يضع السلاح فى موقع مركزى من العقيدة السياسية للتنظيم، ويجعل القتال هو الأداة الشرعية الوحيدة للتغيير. فى هذا الإطار، لا تُترك فرصة لأى خيار سلمى أو مدنى أو سياسي. بل تُهاجم كل البدائل الأخرى بشراسة: السلمية، الوطنية، الحوار، والديمقراطية. يُوصف كل ذلك بأنه مناقض للسنن الشرعية والكونية، بل يُعرض وكأنه شركٌ جديد أو نفاق مستحدث. هذا النمط من التفكير يستند إلى نظرية الطريق الأوحد ويؤسس لرفض أى صيغة تعايش أو تداول سلمى للسلطة. وبذلك، يصبح الجهاد المسلح ليس فقط خيارًا مطروحًا، بل هو واجب شرعى مقدس لا يسعه إلا من آمن، وفق توصيف الخطاب. وما دامت ذات الشوكة هى العلامة الفارقة، فإن من لم يحمل السلاح، أو من دعا للحوار أو الإصلاح الداخلي، يُعتبر متخاذلًا أو مرتدًا أو متآمرًا. هذا المنطق هو ما يفتح الباب أمام تصفية الخصوم، سواء من داخل التيارات الإسلامية أو من خارجها، باسم الحفاظ على الطريق الصحيح. بناء عدو كوني: تقدّم الافتتاحية صورة مركبة ومُتخيلة لعدوٍّ كونى ضخم، تتحد فيه الجيوش الغربية، الحكومات المرتدة، وسائل الإعلام، بل وحتى الجماعات الإسلامية الأخرى، تحت راية واحدة لمحاربة المجاهدين. يُسوَّق هذا التحالف العريض بوصفه شهادة دامغة على أن التنظيم يشكّل تهديدًا حقيقيًا، وإلا لما اجتمعت عليه كل هذه القوى. ما يبدو فى الواقع انعزالًا، يُعاد تأطيره كدليل على الأهمية والتأثير. هذه الاستراتيجية الخطابية تسعى لتوليد شعور بالاصطفاء لدى المتلقي. فحين يرى نفسه – رغم ضعفه وقلة عدته – فى مواجهة هذا الحشد الأممي، تزداد قناعته بأنه على صواب مطلق. وهذا جزء من نظرية المظلومية المقدّسة التى يتغذى عليها كثير من الحركات المتطرفة. العزلة هنا ليست إخفاقًا سياسيًا أو اجتماعيًا، بل دليل شرف على التميز والصمود. النتيجة النهائية أن يتم تحصين التنظيم من الداخل ضد أى مراجعة أو انتقاد، ويُعاد تشكيل العالم الخارجى كخطر وجودي. هكذا يُختصر المشهد كله فى معسكرين لا ثالث لهما: معسكر المجاهدين ومعسكر الطواغيت. ومن خلال هذه الثنائية، يُبرَّر القتل، ويُحرَّض الأتباع على الاستمرار فى معركة وجود أو عدم. الخطاب إذًا لا يهدف فقط إلى التعبئة، بل إلى بناء نفسية محاصرة، تتغذى على العداء الكوني، وتجد فيه سندًا لاستمرارها. المسكوت عنه فى الخطاب من اللافت أن افتتاحية العدد 504 تتجنب كليًا الإشارة إلى التراجع الميدانى الواسع للتنظيم، خصوصًا فى معاقله السابقة فى سورياوالعراق، حيث لم يعد له أى حضور فعلى أو إدارى يُعتد به. كذلك، تتجاهل تمامًا الانكسارات التى مُنى بها فى أفغانستان على يد «طالبان» فى إقليم خراسان، حيث شنّت الأخيرة سلسلة هجمات استهدفت قواعد داعش وأوقعت قتلى فى صفوفه، ما أدى إلى تراجع نفوذه فى تلك المنطقة. كما يُغفل الخطاب الحديث عن الصراعات الداخلية والانشقاقات التى ضربت البنية القيادية للتنظيم خلال السنوات الأخيرة، والتى أدت إلى فقدان السيطرة على بعض الفروع وخروجها عن الطاعة. إن تجاهل هذه الوقائع لا ينبع من جهل بها، بل يعكس مقصدًا دعائيًا واضحًا يسعى لرفع المعنويات لا لعرض الواقع، وتثبيت صورة التمكين رغم مظاهر الانحسار. تمارس الافتتاحية نوعًا من الإنكار المتعمّد لآثار العنف الذى يمارسه التنظيم، إذ تُقدَّم عملياته بوصفها فتوحات ونصرًا للحق، دون أى ذكر للضحايا المدنيين الذين يسقطون جرّاء تلك الهجمات. فعلى سبيل المثال، المجازر التى نُفذت فى شرق الكونغو «إيتوري» لم تُذكر فى سياقها الإنسانى أو الأخلاقي، بل تمّ التباهى بها كأفعال بطولية، وكأن الدماء المسفوكة مجرد تفاصيل هامشية. هذا الإلغاء التام للمعاناة البشرية يعكس نمطًا دعائيًا خطيرًا، يُجرد الفعل الإرهابى من مضمونه العنيف، ويحوّله إلى سردية نصر، ما يسهل تكراره وتبريره. تجنبت الافتتاحية – كما هو حال معظم أعداد «النبأ» منذ سقوط الموصل والرقة – الحديث عن انهيار ديوان الدولة الذى شكّل البنية الإدارية والشرعية لما سُمى ب«الخلافة». لا نجد أى تقييم للتجربة السابقة التى شملت إدارة مناطق شاسعة، ولا حديث عن فشل تقديم نموذج حكم فعّال أو مقبول من السكان. بل يُغيّب تمامًا الحديث عن ملفات كالضرائب، القضاء، التعليم، والاقتصاد التى كان التنظيم يروّج لها فى سنوات تمكينه، فى دلالة واضحة على خروجه من منطق الدولة إلى منطق الشبكة القتالية، دون أن يعترف بهذا التحول بشكل صريح. فى كل سطر من الافتتاحية، تغيب النبرة النقدية أو حتى الإقرار بوجود تحديات داخلية. لا اعتراف بأخطاء وقعت فى إدارة الخلافة، ولا تأمل فى أسباب انهيارها، ولا مساءلة للقيادات التى اتخذت قرارات كارثية أودت بحياة الآلاف من الأتباع والمدنيين. هذا الصمت المقصود يُنتج خطابًا منزّهًا عن الخطأ، مغلقًا أمام المراجعة والتطوير، ويؤسس لعقلية جماعية ترفض التفكير النقدي، وتُقابل كل تساؤل بالتكفير أو التخوين. هكذا يُعاد إنتاج نفس الخطاب المغلق الذى أدى إلى السقوط الأول، ما ينذر بإعادة تدوير الفشل تحت شعارات جديدة. خامسًا - الأثر المحلّي فى العراق وسورية، يسعى الخطاب إلى تنشيط الخلايا النائمة: يُذكّرهم بأنّ الباطل لا يزول بالباطل أى بالعمل السياسي، بل بالعودة إلى السلاح. وفى شبه جزيرة سيناء قد يلتقط أنصار ولاية سيناء هذا التصعيد الشرعى لتبرير عمليات تطال القوى الأمنية المصرية أو الغازيّة. كما أنّ التركيز على التقلّل من الدنيا يخاطب الفئات المهمّشة اقتصاديًّا القابلة للتجنيد تحت شعارات الزهد والثأر. الأثر الإقليمى والدولي بربط الآية {فأما الزبد فيذهب جفاء} بمشهد القتال الدائر فى الكونغوونيجيريا، يُقدّم خطاب الافتتاحية غطاءً أيديولوجيًا صريحًا للفروع الأفريقية التابعة للتنظيم، التى تنشط فى بيئات مشحونة بالصراعات الطائفية والعرقية. يظهر النص كوثيقة تعبئة مفتوحة، تشرعن الهجمات على الجيوش الوطنية وتُبرر التصعيد الدموى ضد المدنيين المتهمين بالتعاون مع الحكومات أو القوات الدولية. وهذا التبرير لا يخلق فقط مشروعية داخلية لعناصر التنظيم، بل يدفعهم لتصعيد وتيرة العمليات بدعوى أن الطرف الآخر يمثل الباطل المتحالف مع الصليبيين وأعداء الإسلام. والنتيجة المتوقعة هى تفاقم حلقة العنف فى المنطقة، خاصة مع هشاشة الجيوش المحلية وضعف التنسيق الإقليمي. تشير الافتتاحية ضمنيًا إلى التصعيد الحاصل فى منطقة الساحل، حيث تخوض جماعة نصرة الإسلام والمسلمين «JNIM»، الفرع المحلى للقاعدة، معارك متصاعدة ضد الجيوش النظامية، بالتوازى مع هجمات داعش المتكررة. فى هذا السياق، يحاول خطاب «النبأ» التأكيد على أن المسار القتالى الذى يعتمده تنظيم الدولة أكثر نقاءً واتساقًا من أوهام الحوار والتقارب التى تُنسب إلى القاعدة أو الجماعات التى تميل إلى التفاوض المرحلي. ويهدف هذا الخطاب إلى اجتذاب المجندين الجدد من البيئة الجهادية المتأرجحة، عبر المزايدة القتالية والتهكم على مسارات التسوية. ما يؤدى عمليًا إلى تنافسية أكثر دموية بين الجماعتين، يزيد من معاناة السكان ويعقّد الاستجابة الأمنية والإنسانية فى المنطقة. لا تقتصر خطورة هذه الافتتاحية على مضمونها العقائدي، بل تمتد إلى كيفية توزيعها. فصحيفة «النبأ» لا تُوزع كمنشور محلى تقليدي، بل تُبث عبر قنوات مشفّرة مرتبطة ب«منصّات مرايا» التابعة للتنظيم، وتُعاد مشاركتها على شبكات التواصل العالمية، مثل «X»، باستخدام حسابات وهمية وآليات ذكية للتحايل على الرقابة. هذا النشر المنهجى يتيح وصول الخطاب إلى جمهور عالمى متنوع، من مؤيدين ومجندين محتملين، إلى متابعين غير مباشر يتأثرون دون وعى بالرسائل المتكررة. كما يعيد فتح قنوات التواصل بين الخلايا المتفرقة، ويوفر بيئة حاضنة للأفكار الراديكالية. يترافق هذا الانتشار الإعلامى مع تطور فى البنية الرقمية المالية للتنظيم، حيث تستمر آليات جمع الأموال من خلال العملات المشفرة– ولا سيما عملة «Monero» – المعروفة بصعوبة تتبعها. ويجعل ذلك من الصعب على الحكومات تعقب مصادر تمويل الهجمات أو وقف تدفق الأموال إلى الولايات النشطة. يساهم هذا التمكين المالى فى تعزيز استقلالية الخلايا القتالية، ويمدّها بوسائل الدعم اللازم، خاصة فى المناطق النائية التى لا تصل إليها الرقابة الدولية بسهولة. وتُظهر هذه التطورات أن التنظيم لم يعد يعتمد على مراكزه القديمة فى الشرق الأوسط، بل بات يُعيد إنتاج نفسه كشبكة لا مركزية عابرة للحدود، توظف التكنولوجيا الحديثة لخدمة مشروعها الدموي. مدى التأثير على تنامى الإرهاب تتلاعب افتتاحية «النبأ» بخطابين متقابلين يبدو ظاهرهما متناقضًا، لكنهما فى الواقع يعملان بتناغم عميق: خطاب المظلومية الذى يبرز ما تسميه بتحالف عالمى ضد الموحّدين، وخطاب التمكين الذى يبشّر بانتصار محتوم مدعوم بسنن إلهية. هذه الثنائية تصنع من التنظيم حركة مُصطفاة تقاتَل لا لضعفها بل لأنها تُمثّل الحق، وتُوعد – رغم الهزائم الظاهرة – بنصر قريب محتوم. هذا النوع من الخطاب يُشكّل محركًا نفسيًا فاعلًا فى عمليات التجنيد، خصوصًا فى أوساط الشباب المهمّش أو الحائر فى الهوية، إذ يمنحهم إطارًا تفسيريًا للعالم، ومعنىً شخصيًا يتجاوز إحباطاتهم الذاتية. أحد أخطر آثار هذا الخطاب هو قابليته للتوظيف من قِبل ما يُعرف ب«الذئاب المنفردة» فى البيئات الغربية، ممن يتابعون إعلام التنظيم عبر الشبكات المظلمة أو منصات التراسل المشفّرة. إذ تُصوَّر العمليات الفردية فى المدن الغربية على أنها امتداد مباشر لمعركة إحقاق الحق ضد تحالف عالمى كافر. وبهذا، تتحول مشاعر الاغتراب أو الغضب أو المظلومية الشخصية لدى بعض الأفراد إلى دافع لتنفيذ عمليات دموية بدافع الانتقام أو إثبات الولاء للخطاب الجهادي. وهو ما يجعل النص ليس مجرد أداة دعائية، بل محفّزًا عمليًا للعنف اللامركزي. فى مشهد أفريقى مزدحم بالجماعات المسلحة، تأتى هذه الافتتاحية لتُغذّى روح التنافس الجهادى عبر الإشارة إلى خيانة الجماعات الأخرى التى اختارت الحوار أو التعايش، فى إشارة غير مباشرة إلى القاعدة وواجهاتها فى الساحل. التنظيم هنا يسعى إلى فرض نفسه بوصفه الفصيل الأكثر نقاءً، والأوفى للنهج القتالي، ما يدفعه إلى تبنى مزيد من الهجمات العنيفة والاستعراضية للبرهنة على صواب خطه، ولإغراء المجندين الجدد. هذا السباق الدموى لا ينعكس فقط على ضحايا الهجمات من المدنيين والعسكريين، بل ينهك أيضًا قدرات الدول الهشّة أصلًا، ويزيد من تعقيد المشهد الأمنى والإنساني. مع تحوّل تنظيم الدولة من كيان إقليمى قائم إلى شبكة لامركزية مترامية الأطراف، أصبح الخطاب الإعلامى هو الخيط الرابط الذى يضمن بقاء العلامة الجهادية حية. الافتتاحية لا تعمل فقط كمادة دعائية آنية، بل كأداة حفظ لهوية التنظيم ورسالته، فى ظل فقدان الأرض والقيادات. هذه النصوص تُستخدم فى حملات تجنيد طويلة الأمد، وفى بناء مكتبات رقمية تبقى على الزخم العقائدي، وتُعيد إنتاج التطرف فى كل دورة عنف جديدة. وهذا ما يجعل الخطاب – رغم هزيمة المشروع السياسى – مصدر تهديد دائم يمتد من النيجروالكونغو إلى بروكسل وباريس ونيويورك. خاتمة وتوصيات مختصرة تُظهر الافتتاحيّة قدرة تنظيم الدولة على إعادة تدوير خطاباته الكلاسيكيّة - ثنائيّة الحق/الباطل، وعد النصر الحتمي، تكفير الخصوم - كى يحافظ على زخمٍ معنويّ رغم التراجع الميداني. وتكشف أيضًا عن فراغٍ هائل فى الاعتراف بالخسائر والأزمات الداخلية، ما يشى بقلقٍ وجوديّ يحاول النصّ التغطية عليه بالوعيد والتكبير. مواجهة المضمون قبل المنصّة: إنّ حظر القنوات دون تفكيك البنية الدلاليّة لخطاب حتميّة القتال يترك الباب مفتوحًا لإعادة إنتاجه. تطوير سرديّات بديلة ترتكز إلى توثيق جرائم التنظيم ضدّ السنّة قبل غيرهم، وإبراز الفشل الذاتى لمشروع الخلافة. تعزيز التعاون الإقليمى بين أجهزة الرصد الرقمى ودُور الإفتاء لتقويض الشرعيّة الدينيّة التى يتبنّاها النصّ. بهذا يبقى تحليل الخطاب أداة ضروريّة لا لفهم الدعاية الجهاديّة فحسب، بل لكسر الفاعليّة التعبويّة الكامنة فيها قبل أن تتحوّل إلى أفعال ميدانيّة.