لا أعرف من أين أبدأ؟ هل أبدأ من مشهد النعوش المصطفة في ساحة قرية كفر السنابسة؟ أم من الأمهات الواقفات على عتبة الجنون، يمسكن بأطراف النعش وكأنهنّ يستجدين الخشب ليُعيد لهنّ بناتهن؟ أم أبدأ من صرخة الطريق الإقليمي، ذلك القاتل المتنكر في هيئة طريق، الذي لا يزال يمدّ ذراعيه إلى ما تبقّى لنا من أمل.. فيقتله؟ اليوم، يا سادة، لا أكتب مقالًا، أكتب نعيًا جماعيًا، صرخة متأخرة، دمعة من حبرٍ يتيم. صباح الموت في ساعة مبكرة من صباح الجمعة، بدأت الفتيات، بنات السنابسة، يتجمعن عند نقطة اللقاء المعتادة. ضحكات خفيفة، رؤوس مائلة على الأكتاف، أكياس صغيرة تحوي خبزًا، وماءً، وأملًا. في الطريق إلى الحياة، كُنّ ذاهبات لجني العنب، بيدين صغيرتين معتادتين على الكفاح. لا يشكين، لا يتذمرن؛ فالحياة لم تهدهد لهنّ يومًا. كانت رويدا تضحك وتقول: "أنا اللي هجهز نفسي، وهجيب كل اللي في نفسي.". كانت العروس المقبلة، التي لا تريد أن تُثقل على أمها.. كانت تريد أن تفرح. وكانت شيماء تقرأ وردها في صمت.. طالبة الهندسة، حلم الأب والأم والقرية بأكملها. "الباشمهندسة" التي كانت تستيقظ قبل الفجر لتلحق بعمل يومي يعينها على مصروفات الكلية. أما هدير، فكانت تطمئن أمها: "بس شغل يوم، وهحوش شوية لبدء الدراسة.". لم تكن طالبة عادية، بل كانت تدّخر نفسها لتصبح ممرضة. كانت حلمًا يمشي على قدمين، لكنها لم تعلم أن الطريق لا يؤمن بالأحلام. في الميكروباص، جلسن متقاربات. بعضهن يتهامس، وبعضهن غلبه النعاس. شيماء تردد آيات من القرآن.. رويدا تضحك خافتة وهي تري صديقتها صورة فستان الزفاف.. هدير تتمتم بدعاء السفر، وتفكر في سعر المراجع الدراسية التي تنوي شراءها. على المقعد الأخير، فتاة تحتضن كيس طعامها وتمسك دفتر ملاحظاتها. وفي المقدمة، كان السائق يتحدث عن موعد العودة.. كل شيء بدا عاديًا حتى اللحظة التي تغير فيها كل شيء. لحظة الاصطدام الطريق الإقليمي لم يكن ممهدًا كالمعتاد. أعمال صيانة على الجانبين، وتحويل السير إلى جهة واحدة، ذهابًا وإيابًا. المسار كان ضيقًا، والاتجاه الواحد يستوجب الحذر. لكن شاحنة نقل ثقيل، ضخمة كقاتل أعمى، كانت تسير في عكس الاتجاه. سائق التريلا تجاهل التحويلات، لم يلتزم بالحارة المحددة. ربما غلبه النعاس، أو تعمّد التسرع. وفجأة، ظهرت التريلا أمام الميكروباص. كان المشهد كأن الزمن توقف. عينا شيماء اتسعتا، كأنها أدركت أنها لن تكمل المسير. هدير أمسكت يد صديقتها، وفمها نصف مفتوح بدعاء لم يكتمل. رويدا صرخت.. صوتها لم يكتمل، كأن صدرها ضاق بالحياة قبل أن تنقطع. بعض الفتيات أرجعن رؤوسهن إلى الخلف، وأخريات صرخن بكلمة واحدة: "يا رب!" الحديد تصادم، والزجاج تطاير، والقلوب توقفت. وفي لحظة، ساد الصمت. أحلام كثيرة تبعثرت على الطريق. كل الكتب، الحقائب، الصور، أغطية الرأس... تناثرت بجانب الأسفلت، بجوار برك الدم. موكب الوداع في القرية، كانت عربات الإسعاف تدخل تباعًا، وعلى كل منها اسم فتاة مكتوب بخط واضح. وكأن الإسعاف يخجل من أن يتركهنّ مجهولات. في ساحة الوداع، لم يكن المشهد عاديًا. إنه كابوس مفتوح العينين. 19 نعشًا خشبيًا، متشابهة في الشكل واللون، مصطفة كأنها صف من الصمت الأبدي. الخشب كان باهتًا، كأنه امتص الحزن من كل بيت في القرية. الآلاف من الأهالي أحاطوا بالمكان. لا أحد يتكلم، العيون فقط تتكلم. الدفن كان سريعًا، في ظلام الليل، وكأن القدر أراد أن يواري الوجع قبل الفجر. لكن لم يُوارَ جسد، بل وُوريت جريمة كاملة، بكل ما فيها من إهمال وتقصير. الأمهات كن يصرخن بأسماء بناتهنّ، كأن الصوت قد يُرجعهنّ. واحدة تُقبّل النعش، كأنها تمسح على جبين ابنتها للمرة الأخيرة. أخرى تصرخ: "كنتِ بتحلمي تبقي دكتورة.. يا بنتي!" ولا شيء يُقال. لا لغة تكفي. لا كلمات تواسي، أو تبرر، أو تشرح. صباح اليوم التالي أشرقت شمس السبت كأنها لا تعرف ماذا حدث. كانت شمسًا قاسية، تخترق العيون، وتحرق الإسفلت. الشوارع خالية، إلا من بعض النساء المارات متشحات بالسواد. صمت يمزق الهواء. المحال مغلقة، أبواب البيوت موصدة، لا أصوات، لا أطفال، لا حراك. كأن القرية قررت أن تصمت احترامًا للحزن.. أو عجزًا عن مواجهته. كل شيء يهمس: هنا كانت بنات. هنا مرّ الميكروباص. هنا تبعثرت الأحلام. الموت على الهامش الطريق الإقليمي الذي مرّ به الحادث ليس جديدًا في جرائمه. يسمونه "طريق الموت". لكن الطريق لا يقتل وحده، بل تُشاركه الإدارات الغائبة، والرقابة النائمة، والمسؤولون الذين يرون المشهد من خلف مكاتبهم. كيف لطريق أن يسمح لسائق شاحنة بالسير عكس الاتجاه؟ أين الرقابة؟ أين الكاميرات؟ أين الخوف من الله؟ بنات ليست عاديات هؤلاء الفتيات لم يكنّ مجرد عاملات يومية. كنّ متفوقات، حالمات، مقاتلات. شيماء لم تكتفِ بدراسة الهندسة، بل كانت تسهر لمساعدة إخوتها. رويدا كانت توفّر لفرحها من تعب كفها. هدير كانت تستعد لتلتحق بالمستشفى، لا لتصبح مريضة، بل لتشفي المرضى. هؤلاء لم يكنّ فقيرات فقط، بل ثروات بشرية حقيقية. وكل واحدة منهنّ كانت قصة يجب أن تُروى، لا أن تُطوى داخل نعش. كلمة الختام الآن، بعد أن سكنت القرية، وسكتت الزغاريد التي لم تُرفع... هل يكفي أن نقول: "رحمهنّ الله"؟ هل تفي كلمات العزاء حق الفجيعة؟ لا نطلب أكثر من حياة لا تقتل أبناءها في وضح النهار. لا نريد أن نكتب نعيًا آخر بعد شهر. نريد طريقًا آمنًا، وضميرًا حيًا، وعدالة لا تتأخر. نريد أن نحفظ أسماء شيماء ورويدا وهدير، لا كضحايا، بل كنماذج لما كان يمكن أن يكون. اهدأى يا شيماء، يا من علمتينا أن العلم لا يتناقض مع الكفاح. نامي بسلام يا رويدا، فلن يلبسكِ أحد سوى الكفن الأبيض، لكنه سيكون تاجكِ إلى الجنة. ويا هدير، يا من أردتِ شفاء الجراح، عسى الله أن يشفي بكِ قلوبًا كثيرة في الآخرة. ادعوا لهنّ، فربما تكون دعوة من القلب.. نورًا في القبر. واذكروا دائمًا: الطريق ليس هو القاتل الوحيد، بل نحن جميعًا... إن سكتنا.