في خضم التصعيد الأمريكي الإسرائيلي ضد المنشآت النووية الإيرانية، انفجرت أزمة موازية داخل المشهد السياسي والإعلامي الأمريكي، ليس فقط بسبب تبعات العملية العسكرية، بل بسبب التباين الحاد بين التقييم الاستخباراتي والتصريحات الرئاسية. التشكيك والاتهامات فقد أثار تقييم أولي مشترك بين وكالات استخبارات أمريكية وإسرائيلية، نشرته وسائل إعلام أميركية بارزة، زوبعة من التشكيك والاتهامات، بعدما قلل من فاعلية الضربات الجوية التي استهدفت منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية. ضربة لم تكتمل أم إنجاز استراتيجي؟ يؤكد التقييم، الذي أعدته "وكالة استخبارات الدفاع" (DIA) التابعة للبنتاجون، أن الضربات لم تؤدي إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني، بل اقتصرت على تأخيره عدة أشهر فقط، في تناقض واضح مع ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي وصف العملية بأنها "واحدة من أنجح الضربات العسكرية في التاريخ"، وهذا التضارب أحدث صدمة في المشهد الإعلامي والسياسي، حيث سارع ترامب إلى نفي تلك التقديرات، وشنّ هجوماً لاذعاً على وسائل الإعلام التي نشرتها، واصفا إياها ب"الكاذبة" و"الحثالة". حرب تقييمات بين البيت الأبيض والاستخبارات ترامب، الذي اعتمد في حملاته الانتخابية السابقة على شعارات القوة والحزم، وجد نفسه أمام تشكيك علني في روايته الرسمية من داخل المؤسسات الاستخباراتية، فيما وصف تقرير "نيويورك تايمز" و"CNN" أن الضربات لم تحقق تدميراً شاملاً، شدد البيت الأبيض على أن التقييم استخباراتي "خاطئ تماماً"، ومصنف ضمن الوثائق السرية، واعتبر أن تسريبه يمثل "تقويضاً سياسياً" متعمداً لإدارة ترامب و"إساءة للطيارين" الذين نفذوا المهمة. الرواية العسكرية: نجاح تكتيكي لا استراتيجي؟ تشير تفاصيل العملية إلى أن القوات الأميركية استخدمت قاذفات B-2 وألقت 14 قنبلة خارقة للتحصينات، من وزن 30 ألف رطل، استهدفت مواقع "فوردو" و"نطنز" و"أصفهان"، ورغم ضخامة العملية، أفادت تقارير استخباراتية بأن أجهزة الطرد المركزي الإيرانية لم تُدمّر بالكامل، وأن مخزون اليورانيوم المخصب ظل إلى حد كبير على حاله، مما يعني أن قدرة طهران على استئناف التخصيب قد تعود خلال أشهر، لا سنوات كما ادعت إدارة ترامب. إسرائيل.. شريك العمليات ورافض الاكتفاء إسرائيل التي نفذت ضربات موازية قبل العملية الأميركية، أبدت هي الأخرى تحفظات ضمنية على نتائج الضربة، رغم مشاركتها في وضع أهدافها. مسؤولون إسرائيليون صرّحوا لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن العملية أخّرت البرنامج النووي الإيراني لعدة سنوات، لكنها لم تدمره بالكامل، مما يعكس رغبة إسرائيل في استمرار الضغط العسكري والسياسي على طهران، وربما تعبيرًا عن خيبة أمل من حدود الضربة الأميركية.
التسريبات والتوقيت السياسي ما يجعل الأزمة أكثر تعقيدًا هو توقيت نشر هذه التقييمات الاستخباراتية، والذي يتزامن مع حملة انتخابية يطمح فيها ترامب إلى العودة للبيت الأبيض، إذ يرى البعض أن هذه التسريبات تهدف إلى تقويض صورته كقائد حاسم، وإحباط روايته التي حاول من خلالها إبراز العملية كنجاح ساحق. في المقابل، يعتبر البيت الأبيض أن الجهات التي تقف خلف التسريبات داخل الاستخبارات الأميركية ربما تسعى لتأليب الرأي العام، وخلق بلبلة حول نتائج العملية بهدف تشويه صورة ترامب. ويتكوف يرد: دمرنا ما لا يمكن استعادته بسهولة في دفاع قوي عن العملية، صرّح المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أن الولاياتالمتحدة دمّرت "منشأة التحويل الوحيدة في إيران"، والتي تُعد شرطاً أساسياً لبدء وإنهاء عملية تخصيب اليورانيوم، مؤكداً أن العملية تسببت بأضرار طويلة الأمد ستستغرق سنوات لإصلاحها، وبحسب قوله، فإن أجهزة الطرد المركزي الأساسية في "فوردو" و"نطنز" قد دُمرت أو تضررت بشدة، مما يعني أن الحديث عن استئناف البرنامج الإيراني "خلال أشهر" غير دقيق ومبالغ فيه. ما وراء تقييم "وكالة استخبارات الدفاع"؟ رغم ما يتمتع به هذا التقييم من مصداقية تقنية باعتباره صادراً عن إحدى أبرز وكالات البنتاغون، إلا أن الخلاف يكمن في ما إذا كانت رؤيته متكاملة، فوكالات أخرى، مثل CIA وNSA، لم تصدر مواقف مماثلة حتى الآن، مما يعكس استمرار حالة الترقب والاستخلاص التدريجي للنتائج بناءً على معلومات لا تزال قيد الجمع والتحقق، بما فيها صور الأقمار الاصطناعية وتحليلات الأضرار البنيوية الدقيقة.