الداخلية تضبط 3 أشخاص لحثهم الناخبين على التصويت بكفر الزيات    البترول: زيادة فرص التعاون المصري - الأردني في مجالات البترول والغاز الطبيعي والتعدين    مصر تؤكد دعمها لجهود إحلال السلام في السودان وترسم خطوطًا حمراء لحماية الأمن القومي ووحدة الدولة    «كاف» يعقد اجتماع تنظيمي لمنتخب مصر قبل انطلاق أمم إفريقيا    استخراج أول جثة لضحايا عقار المنيا المنهار.. وإخلاء المنازل المجاورة    في يومها العالمي.. شيخ الأزهر: شرَّف المولى عز وجل اللغة العربية فاختارها لسانًا لكتابه الخالد    "رجال أعمال إسكندرية" و"حماية المستهلك" يناقشان آليات تلقي الشكاوى وحل النزاعات    القاهرة تشهد انتظام التصويت في اليوم الثاني من جولة الإعادة لانتخابات مجلس النواب    برلماني: المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية تمثل انتهاك صارخ لحقوق الشعب الفلسطيني    مشرف انتخابات الإسماعيلية: عطل فني وراء تأخر فتح لجنتين بالقنطرة غرب.. والعمل ينتظم بكفاءة    قطع مياه الشرب عن عدة مناطق في الإسكندرية لمدة 20 ساعة    دمياط تشن حربا على الغش وتضرب بيد من حديد    تعرف على موعد التقييم النهائي لطلاب صفوف النقل    طقس الغد.. انخفاض ملحوظ في درجات الحرارة والصغرى 8 درجات بالقاهرة الجديدة    الداخلية: ضبط 119469 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة على مستوى الجمهورية    الإحصاء: الصادرات المصرية إلى السودان ترتفع إلى 760.2 مليون دولار    السينما العربية على طريق الأوسكار.. 4 أفلام في القائمة الأولية    أسرة الراحلة نيفين مندور تقصر تلقى واجب العزاء على المقابر    السبكي: مستشفى الكبد والجهاز الهضمي والمناظير نموذج متكامل للرعاية الصحية المتخصصة بالسويس    فوز مصر بجائزتي الطبيب العربي والعمل المميز في التمريض والقبالة    ترامب يوافق على 10 مليارات دولار أسلحة لتايوان.. والصين تحذر من نتائج عكسية    مصدر بالصحة: استلام 131 شحنة مساعدات لدعم مصابي غزة في المستشفيات المصرية بتكلفة 2 مليار جنيه    محافظ الدقهلية يكرم أبناء المحافظة الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم    وزير الأوقاف يكرم عامل مسجد بمكافأة مالية لحصوله على درجة الماجستير    الصحة اللبنانية: 4 جرحى فى الغارة على الطيبة قضاء مرجعيون    قطر تستضيف مباراة إسبانيا والأرجنتين فى بطولة فيناليسيما 2026    إطلاق مبادرة مصر معاكم لرعاية الأبناء القصر لشهداء وضحايا الحرب والإرهاب    مدرسة النور للمكفوفين ببني سويف ثاني الجمهورية ببطولة ألعاب القوى    كلية العلوم بجامعة قناة السويس تستقبل طلاب مدرسة السادات الثانوية العسكرية    وفد الأهلي في ألمانيا لبحث التعاون مع نادي ريدبول    الترويج لممارسة الدعارة.. التحقيق مع سيدة في الشروق    هل تتازل مصر عن أرص السخنة لصالح قطر؟.. بيان توضيحي هام    نائب محافظ سوهاج.. يفتتح المؤتمر الثالث لمركز القلب والجهاز الهضمي    الخارجية: عام استثنائي من النجاحات الانتخابية الدولية للدبلوماسية المصرية    توروب يشرح خطة الأهلي لعبور سيراميكا في كأس عاصمة مصر    محافظ الجيزة يعتمد مواعيد امتحانات الفصل الدراسي الأول للصفوف الدراسية    ضبط شخص ظهر في فيديو داخل أحد السرادقات بالمعصرة وبحوزته جهاز لاب توب وسط حشود من المواطنين.    عمرو طلعت يفتتح مقر مركز مراقبة الطيف الترددي التابع لتنظيم الاتصالات    «الأمم المتحدة»: تضرر 55 ألف عائلة بسبب الأمطار الغزيرة في جميع أنحاء القطاع    تكربم 120 طالبا من حفظة القرآن بمدرسة الحاج حداد الثانوية المشتركة بسوهاج    مدن سودانية رئيسية بلا كهرباء عقب قصف بطائرات مسيّرة استهدف محطة طاقة    "الست" خارج الصورة    جلوب سوكر - خروج صلاح من القائمة النهائية لجائزتي أفضل مهاجم ولاعب    المستشفيات التعليمية تناقش مستجدات طب وجراحة العيون في مؤتمر المعهد التذكاري للرمد    تخصيص قطع أراضي لإقامة مدارس ومباني تعليمية في 6 محافظات    مصرع موظف بشركة السكر وإصابة 4 آخرين في مشاجرة بنجع حمادي    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025    وزير الثقافة يبحث تعزيز التعاون الثقافي مع هيئة متاحف قطر ويشارك في احتفالات اليوم الوطني    مركز التنمية الشبابية يستعد للبطولة التنشطية لمشروع كابيتانو مصر    تشكيل نابولي المتوقع أمام ميلان في كأس السوبر الإيطالي    الكوكي: الأهلي المرشح الأبرز للدوري وبيراميدز أقرب منافسيه    وزير الصحة: الذكاء الاصطناعى داعم لأطباء الأشعة وليس بديلًا عنهم    د. حمدي السطوحي: «المتحف» يؤكد احترام الدولة لتراثها الديني والثقافي    نفي ادعاءات بوجود مخالفات انتخابية بلجنتين بدائرة زفتى بالغربية    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 18ديسمبر 2025 فى المنيا.....اعرف صلاتك    غياب الزعيم.. نجوم الفن في عزاء شقيقة عادل إمام| صور    بطولة العالم للإسكواش PSA بمشاركة 128 لاعبًا من نخبة نجوم العالم    أسوان تكرم 41 سيدة من حافظات القرآن الكريم ضمن حلقات الشيخ شعيب أبو سلامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتابات صلاح عبد الصبور بين التأثر والتأثير
نشر في البوابة يوم 09 - 08 - 2023


"يا أهل مدينتنا انفجروا أو موتوا
رعب أكبر من هذا سوف يجيء
لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت أو ببطون الغابات
لن ينجيكم أن تختبئوا في حجراتكم
أو تحت وسائدكم أو في بالوعات الحمّامات
لن ينجيكم أن تضعوا أقنعة القردة
لن ينجيكم أن تندمجوا أو تندغموا حتى تتكون من أجسادكم المرتعدة
كومة قاذورات"..

"يوميات نبي مهزوم"
كأغلب المبدعين، لم يظهر اتجاه صلاح عبد الصبور في بدايته بشكل واضح. بل، في مرحلة التأسيس الفكري، نهل من كل ينابيع الشعر القديم؛ بعد سنوات، وربما عندما شعر بالارتواء التام من الشعر كما يعرفه، قرر أن ينضم إلى طليعة جيل جديد يخالف جريان القصيدة على شكلها المعتاد.
منذ الديوان الأول له "الناس في بلادي" الذي صدر عام 1957، ظهر انجذاب صلاح عبد الصبور إلى البناء الحر للقصيدة، ليُصبح خلال وقت قصير أحد رواد تيار الشعر الحر أو الحداثي. كما مضى في طريق الشهرة سريعا، بعد أن انتشرت قصيدة "شنق زهران" -أحد أبطال حادثة دنشواي الذين شنقهم المحتل الإنجليزي- والتي ضمها الديوان. لتتابع دواوينه، فيقرأ الجمهور العربي "أقول لكم"، و"أحلام الفارس القديم"، و" تأملات في زمن جريح"، و"شجر الليل"، و"الإبحار في الذاكرة".
وإلى جانب الإسهام الشعري، ترك عبد الصبور عدة مؤلفات تضع في مجملها الأدب والفلسفة والتاريخ كمثلث معرفي لا غنى عنه، وهي "حياتي في الشعر"، و"في مدينة العشق والحكمة"، و"رحلة الضمير المصري"، و"وتبقى الكلمة"، و"حتى نقهر الموت"، و"قراءة جديدة لشعرنا القديم"، و"رحلة على الورق"، و"أصوات العصر"، و"ماذا يبقى منهم للتاريخ.. طه حسين والعقاد والحكيم والمازني".
ورغم أن أعماله المسرحية لم تزد على الخمسة لكن الأثر الأدبي والجماهيري لمسرحيات صلاح عبد الصبور قد فاق مئات الأعمال خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وأعاد بعض النقاد نجاح المسرح الشعري لعبد الصبور، من حيث حبكة الحكاية وجمال الكلمة ونضج المعنى، إلى تفرده؛ ما دفع نقاد عدة لاعتباره أبا لهذا الفن الأدبي، رغم وجود منافسين له في تلك الفترة، مثل الشاعر والمخرج نجيب سرور، والكاتب عبد الرحمن الشرقاوي، ومن قبلهما أمير الشعر العربي الحديث أحمد شوقي.
هكذا، جاءت "مأساة الحلاج" التي بدأ بها عالمه المسرحي عام 1964، والتي جعل منها عبد الصبور قطعة أدبية وفنية صالحة للتعبير عن مأساة الإنسان في كل زمان. بعدها، انطلق لكتابة "مسافر ليل"، والأميرة تنتظر"، و"ليلى والمجنون"، و"بعد أن يموت الملك". في كل هذه الأعمال -وعلى اختلاف الحكايات وأزمانها- التي تراوحت بين الرمزية والمباشرة، عانى كل أبطال مسرح صلاح عبد الصبور من آلام الحزن الناتج عن الظلم. ربما لهذا، ورغم أنه لم يكن ثائرا في الواقع، جعل من خشبة مسرحه ساحة لثورة لم يكتب عنها كصحفي محافظ، وصنع من أبطاله رموزا لانتفاضة طافت عوالمه السحرية.
مؤثرات غربية
من بين عديد من أصوات العصر المسرحية والشعرية والأدبية، اختار صلاح عبد الصبور صوت الأديب الروسي الكبير "أنطون تشيخوف" رائد القصة القصيرة المعاصرة كنموذج لصوت أحبّه من أصوات عصره.
ولعل المصادر الأجنبية المتنوعة لقراءات عبد الصبور المُعمقة، وكتاباته النثرية، وتواريخ نشرها، تُظهر بجلاء ما ترسب منها في فكره، ومناخه الثقافي، ووجدانه الشاعري، مما يتيح مقارنة أعماله بما اشتهر عند من تأثر بهم، وقرأ لهم، وكتب عنهم.
ويرى كثيرون من النقاد أن عبد الصبور لم يهرب من عالمه المعاصر إلى أحضان اتجاهات مذاهب أدبية أجنبية، كما فعل آخرون فُرادى ومدارس شعرية، بل حقق توازنًا متميزًا بين ثقافته العربية وثقافة رموز شعر وأدب عالمي وإنساني.
وفي مقاله عن "المؤثرات الأجنبية في أعمال صلاح عبد الصبور المسرحية" يلفت الدكتور ناصر أحمد سنة، إلى أن انجذاب صلاح عبد الصبور لطريقة الشاعر الإنجليزي "توماس ستيرنز إليوت" يعود لتك "النزعة الصوفية التأملية ورنة الحزن العميق إلى جانب العمق الفلسفي، وإحكام الصنعة، وتجويد الأداء".
وينقل سنة عن عبد الصبور، قوله: "حين توقفت عند الشاعر ت. س. إليوت في مطلع شبابي لم تجذبني أفكاره أول الأمر بقدر ما استوقفتني جسارته اللغوية، فقد كنا نحن ناشئة الشعراء نحرص على أن تكون لغتنا منتقاة منضدة تخلو من أي كلمة فيها شبه العامية أو الاستعمال الدارج".
يضيف سنة: حاول عبد الصبور أن يتجاسر بالخروج على القاموس الشعري العربي منذ ديوانه الأول "الناس في بلادي" 1956، وشهدت قصائده مثل "الحزن"، و"شنق زهران"، و"الملك لك"، والقصيدة التي تحمل اسم الديوان خروجًا على عمود اللغة الشعرية، وتناولت مواضيع من الحياة اليومية بلغة بسيطة متداولة.
وتابع: لم يمر هذا التجاسر اللغوي بسلام، فقد صُدم الذوق الأدبي آنذاك، فدار حوله حديث كثير، وتهكم بعض الأصدقاء والنقاد من مفردات كالشاي، والنعل المرتوق، ثم توالت بصمات إليوت العميقة في دواوين عبد الصبور اللاحقة على مستوى المعاني، والأخيلة، والرؤى، والتفاعل، والانفعال المزاجي الشعري، ومن ثم استقر هذا التماهي في غير ما تكلف أو تصنع، ولعل كثيرًا من الأخيلة الشعرية نبع إلى حد ما من تشابه التجربة والأمزجة الشعرية.
كما أشار إلى اقتران اسم عبد الصبور بالشاعر والكاتب المسرحي والرسام والموسيقي الإسباني فيديريكو جارسيا لوركا، خلال تقديم المسرح المصري في ستينات القرن الماضي مسرحية لوركا "يرما"، إذ اقتضى عرضها صياغة الأجزاء المغناة منها شعرًا، فكان هذا من نصيب عبد الصبور.
يقول سنة: تجلى تأثره ب لوركا في عدة مسرحيات مثل: "الأميرة تنتظر"، و"ليلى والمجنون"، و"بعد أن يموت الملك"، ففي تلك المسرحيات تشابهت إلى حد كبير الموضوعات والثيمات المسرحية فيما بينهما.
أيضا، ضرب سنة أمثلة على استفادة صلاح عبد الصبور من منجزات الشعر الرمزي الفرنسي والألماني عند "بودلير"، و"ريلكه"؛ كذلك تأثره بكتابات "كافكا" السوداوية -كما ذكر بتذيل مسرحيته "مسافر ليل"- فضلًا عن تأثره بالكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو، ويتضح ذلك في مسرحيتي "ليلى والمجنون"، و"الأميرة تنتظر" حيث تتجلى فكرة المسرح داخل المسرح.
وعرف عبد الصبور آخرين مثل بابلو نيرودا، ووايتمان، وماياكوفسكي، وناظم حكمت، وكازانزاكيس، وبوشكين "فقد أعمل فكره في أعمالهم، وأبدى اهتمامه بهم عبر مساحات من صحف مصرية كالأهرام والأخبار، ومجلات روزاليوسف وصباح الخير وغيرها. قبل أن يقوم بجمع بعض مقالاته في: أصوات العصر، أو رحلة على الورق، أو حتى نقهر الموت أو كتابة على وجه الريح.

حامل لواء المسرح الشعري
في كتابها "المسرح الشعري عند صلاح عبد الصبور" تشير الدكتورة نعيمة مراد محمد إلى أن عبد الصبور "حمل لواء المسرح الشعري في أرقى صوره، وثقافة واقترابًا من التكتيكات العالمية المعاصرة، ويأتي هذا من الجيل السابق، وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي، ثم عزيز أباظة وعلي أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوي، وغيرهم".
وتصف نعيمة أعمال عبدالصبور المسرحية بأنها "خلاصة جزئيات لا حصر لها من التراث العربي والغربي في آن واحد، انصهرت جميعها في بوتقة تجاربه الذاتية، وتاريخ مجتمعه المعاصر، ليخرج منها ذلك المسرح الذي -إن حوى عشرات وعشرات من عوامل التأثر- فإنه في النهاية فن عبدالصبور الخالص الذي يختلف كل الاختلاف عما أخذ منه الموروث التاريخي، فالتاريخ عند عبدالصبور أعطى أعماله بعدًا وعمقًا لا يقل خطورة من الأسطورة، أو التراث الشعبي، لذلك جعله في أحيان كثيرة إما مضمونًا وإما إطارًا لأعماله الفنية، وأولى استخدامات عبدالصبور لعناصر التاريخ في مسرحه ما نجده في مسرحية "مأساة الحلاج"، حيث اختار تلك الشخصية الحقيقية من التاريخ العربي القديم ليخلع عليها همومه المعاصر".
وتلفت إلى أن المضمون العام الذي يتناوله عبد الصبور في مسرحياته الخمس هي طبيعة العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات الحديثة. ففي "مأساة الحلاج"، تناول كيف تتحول أحلام الديمقراطية إلى دكتاتورية صارخة. تقول: "ترفض -مسرحيات عبد الصبور- أي محاولة للإصلاح، وتعمل على نشر الخوف والرعب، والفقر، أو ما يسمى الشر والظلم بين أفراد الشعب حتى لا يجرؤ أحد على المعارضة، فيضطر الجميع إلى الرضوخ والاستسلام. فالحاكم كما يصوره عبد الصبور على لسان الحلاج عادل طالما كان قبسًا من نور الله".
أمّا عن مسرحية "ليلى والمجنون"، ترى المؤلفة أن هذه المسرحية لا تحتوي على موقف محدد أو شخصية معنية ك "مأساة الحلاج"، ولا على حدث معين ك "مسافر ليل"، لكنها تحتوي على عدد من الأحداث الجزئية والقصص الفرعية التي تتجمع خيوطها في النهاية لتشكل صورة لوضع قائم، ومأساة لجيل بأكمله، أما عن شخصيات المسرحية فشخصيات هذه المسرحية، تعددت وتعارضت، تقاربت وتباعدت، بدرجة كبيرة. فشخصية سعيد – مثلًا – شاب عانى القهر في طفولته، نشأ في أسرة فقيرة، مات أبوه وهو في العاشرة، ولم يترك له ما يقتات به، فاضطرت أمه إلى أن تبيع ما يمتلكونه.
وأضافت: كذلك يستخدم عبد الصبور أسلوب المسرح داخل المسرح عندما يجعل أبطال مسرحيته الأصيلة يمثلون عرضًا مسرحيًا آخر داخل المسرحية الحقيقية، ومن ثم نرى ملامح "هاملت"، وفي هذه المسرحية قسم عبد الصبور المسرحية إلى فصول ثلاثة، ينقسم كل منها بدوره إلى عدد من المناظر، وهي أول مسرحية حتى الآن يقسمها عبد الصبور إلى ثلاثة فصول، ويحرص فيها على أن يتحقق لها الترتيب المنطقي والمتسلسل الذي يتكون من بداية ووسط ونهاية.
أبعاد رمزية
عندما أصدر الدكتور صلاح شفيع دراسته التحليلية عن "تحليل الرمز في مسرح صلاح عبد الصبور"، أشار إلى أن البعد الأسطوري في إبداع عبد الصبور ظهر مبكرا، وتحديدا في ديوانه "شجر الليل"، عندما وظِّف أسطورة "ميدوزا" الإغريقية الشهيرة، وجعل مصر جوهرة، ومن ينظر إليها يتحول إلى حجر.
وفي ديوانه "أقول لكم"، تطل أسطورة "سيزيف" عبر سطور قصيدة "موت فلاح"، حيث أن الصخرة السمراء "ظلت بين منكبيه ثابتة". كما تلوح أسطورة "أوزيرس" الفرعونية في قصيدة "أغنية للقاهرة" حيث تضغط المدينة عليه بضراوة وتتفتت عظامه على شوارعها مثلما تبعثرت أشلاء أوزريس في أنحاء الوادي.
أمّا النار، التي ارتبطت في الأساطير الإغريقية ب "بروميثيوس" الذي سرقها وقدمها إلى الإنسان لتنطلق حياته إلى آفاق أكثر رحابة "فلولا النار ما حقق الإنسان شيئًا ذا بال. كما أن بها قدرة خارقة، مما دعا البعض إلى عبادتها. ومن النار خُلق إبليس اللعين مما دعاه إلى التمرد على الأمر الإلهي بالسجود لآدم. وقد جاءت النار عند صلاح عبد الصبور بهذا المدلول لتعني القدرة المطلقة. كما أن النار ترمز إلى القوة المبهمة، وترتبط عند عبد الصبور بالرغبة الحسية.
وفي مسرحية "مسافر ليل"، يلفت إلى استخدام عبد الصبور لفظ "الحوت"، المستلهمة من قصة نبي الله يونس مرتين. ليرمز في شعره إلى القبر والسجن وضياع من فيه، إلا إذا تمسكوا بالإيمان.
ويشير شفيع إلى أن لفظة "الخبز" التي ترد في مسرحية "الأميرة تنتظر" محملة بطاقة رمزية؛ عبر حوار "القرندل" مع الوصيفة الثالثة التي تسأل: "ومتى ينضج خبزك؟"، فيجيبها: "حين أغنّي". مشيرا إلى أن نضج خبزه هو تمام الأغنية، ولا تتم الأغنية إلا بقتل «السمندل»، أي ولادة الصدق وموت الكذب والزيف.
وفي قراءتها لكتاب شفيع، تشير الكاتبة رشا أحمد إلى ما ذكره المؤلف حول حضور المكان ورمزيته في مسرح عبد الصبور؛ حيث يشير إلى مركزية السجن أو الزنزانة في معظم أعماله كمرادف ل "الغياب الزمني".
تقول: كتب -عبد الصبور- مسرحياته في حقبة الستينات التي شهدت دخول بعض المثقفين السجن كنوع من الاعتقال السياسي. وفي "مأساة الحلاج"، استخدم السجن بشكل مباشر عندما وضع البطل داخله، لكن الحلاج لم يكن مغيبًا داخله لأنه كان يحمل كلماته القادرة على بعث الحياة، لهذا يرد الحياة لأحد السجينين ويجعله ثائرًا لحياته قيمة.
وتنقل رشا عن شفيع قوله "في السجن تتبدد ظلمة حيرته بنور الاختيار بين السيف أو الكلمة. في دلالة على محنة الإرادة الإنسانية، حينما تكبَّل بالأغلال، وتفقد حريتها، ويراوح فعل المقاومة، ما بين التمرد والرفض، أو الإذعان والسقوط في الهاوية".
أيضًا في "الأميرة تنتظر"، يتجلى الفضاء المسرحي عبر مكانين هما "الكوخ" و"قصر الورد". حيث تعيش الأميرة في الكوخ منذ خمسة عشر خريفًا في هوّة نفي انزلقت إليها بخطيئتها وهي تنتظر الرجوع إلى قصر الورد.
يلفت شفيع إلى أن البطلة ليلى، الأميرة، الملكة، ترمز إلى الوطن بكل مكوناته من أرض وناس وتاريخ، وضمنيًا يرمز القصر إلى الأرض. وبموت "السمندل" ينتهي الغياب وتعود الأميرة إلى القصر.
وتضيف رشا: من مفردات الرمز في ديكور مسرحيات صلاح عبد الصبور، كما أراد هو في النص الأصلي، نجد على سبيل المثال نجمة مأمور شرطة أمريكي بحوزة "عامل التذاكر" الذي نصَّب نفسه قاضيًا يحاكم الراكب بتهمة سرقة البطاقة البيضاء في مسرحية "مسافر ليل". ولاستكمال صورة القاضي يستخرج "النجمة" ويعلقها على صدره، في إشارة إلى تنصيب الولايات المتحدة نفسها قاضيًا وشرطيًا على العالم رغم جرائمها، بخاصة في حرب فيتنام التي وقعت في توقيت قريب من زمن كتابة المسرحية وأحدثت هزة في ضمير العالم آنذاك بل داخل أمريكا نفسها.
الداعم للمواهب
في شهادة له عن تجربته الشعرية، نُشرت في كتاب "الشاعر والتجربة"، الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في عام 2003؛ ذكر الشاعر الراحل حلمي سالم كثيرا من المواقف التي تدل على حبه لصلاح عبد الصبور، ومدى مساندته له ولكثير من أبناء جيله.
وكتب سالم: "كانت أحلام الفارس القديم لصلاح عبد الصبور عنصرا أساسيا من عناصر عقيدتي الشعرية والفكرية لفترة طويلة من سنوات البدء. وقد حققت عندي هذه المكانة العالية بسبب ما تحمله من إحباط وألأم وما تحفل به من فجيعة فقد الحب من جراء الزمن الطافح بالتخليط والقمامة.
كانت صورة الشاعر الحزين المهموم المغدور هي الصورة المثلى للشاعر عندي في ذلك الوقت، الذي صادفت فيه القصيدة، حتى أنني كنت أطن أن بايرون وشيللي وبودلير هم أناس حزانى يلبسون ملابس سوداء حول رقابهم كوفية رمادية دكناء.
في سهراتنا الشعرية أو الاجتماعية كنت أنشد "أحلام الفارس القديم" كلها بترتيل شبه ديني، لأنها كانت بمثابة الأقنوم أو الطقس، وكلما حل يوم ميلادي كنت لا أجد سوى مرثية الذات في أبيات عبد الصبور، أرددها لنفسي.
وحدث أن مشينا أنا وعلي قنديل ورفعت سلام، ذات منتصف ليلة من ليالي شتاء 1972، حتى وصلنا إلى شارع دجلة بالمهندسين حيث يسكن عبد الصبور -وكنا قد تعرفنا على الرجل قبل عام عن طريق الشاعر حسن توفيق- ووقفنا تحت شرفته نردد في نفس واحد بصوت عال، يشرخ هدوء المهندسين:
صافية أراك يا حبيتي كأنما كبرت خارج الزمن
وحينما التقينا يا حبيبتي
أيقنت أننا مفترقان
لو لم يعدني حبك الرقيق للطهارة
فنعرف الحب كغصني شجرة
كنجمتين جارتين
مثل جناحي نورس رقيق.
وأطل علينا صلاح عبد الصبور من الشرفة مدهوشا، وأشار لنا أن نصمت وأن نصعد، بينما نحن نواصل الإنشاد من غير أن نرد عليه أو أن نجيبه، وحينما انتهينا انصرفنا، تاركين هدوء المهندسين مبددا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.